من يحمي العراق؟
حسام عيتاني
المعاهدة الاميركية ـ العراقية الجاري التفاوض حولها، تنتهك سيادة العراق. لا جدال في ذلك. ينطبق الامر ذاته على سلسلة طويلة من المعاهدات المشابهة بين دول عربية بعضها راسخ القدم ومستقر.
تتباين الذرائع التي ساقتها الحكومات العربية في مجال تبريرها الاحلاف التي عقدتها مع الولايات المتحدة بتباين انظمة الحكم وظروفها الداخلية والاقليمية، من الاشراف على السلام مع اسرائيل كحال مصر، الى «الدفاع المشترك» بين مشيخات النفط الخليجية وواشنطن، مرورا بمجموعة مذهلة من الاتفاقيات المتعددة المستويات المتعلقة بمكافحة الارهاب وتنمية الديموقراطية والحكم الصالح وغيرها.
على ان فارقا جوهريا يستحق النظر، يقوم بين الاتفاقيات الامنية والعسكرية التي وقعتها الدول العربية، من دون ان يوجه اليها اللوم سوى من قبل اقلية قليلة من مواطنيها ومن جيرانها، وبين ما يعتزم العراق توقيعه من اتفاقية اثارت احتجاجات واسعة في الدول المجاورة للعراق، عربية وغير عربية.
ننحّي جانبا كل البنود الموضوعة على مشرحة الاعلام العربي حاليا لسبب بسيط مفاده ان الجانبين يباشران التفاوض بسقف مرتفع، على غرار كل عملية تفاوضية في العالم، تقتضي البدء بإبلاغ الطرف المقابل باقصى ما يُتوقع منه. المسألة ليست في تشابه هذه المعاهدة مع المعاهدات العربية ـ الاميركية الاخرى او في مدى تمسكها بصراط السيادة العراقية المستقيم، في زمن باتت معطياته تتطلب اعادة نظر جذرية في مفهوم السيادة الاقليمية برمته. استطرادا يمكن القول ان تكرارا معينا للتجربة اللبنانية يظهر في الموقف العربي مسألة المعاهدة العراقية ـ الاميركية، فما هو مباح للعرب الآخرين، ممنوع على لبنان والعراق، سواء في مجال تسوية الصراع مع اسرائيل هنا او تأطير العلاقات مع قوات الاحتلال الاميركي هناك.
لا ينبغي ان تخفي المظاهر لب القضية. وخلاصة هذا ان العراق يحتاج اليوم اكثر من أي وقت مضى الى من يحميه. العراق المقصود هو عراق مشروع الدولة الذي يبحث عن عوامل نهوض بعد عقود من الديكتاتورية الدموية المجنونة. عراق قررت المكونات السياسية والاثنية الاساسية فيه، في ظل عملية سياسية بالغة الصعوبة والتعقيد وعنف داخلي وخارجي كاسح، قررت الاستمرار في العيش في بلد واحد.
غير ان صعوبة اخراج القرار هذا الى حيز التنفيذ واضحة تمام الوضوح. الجوار الاقليمي لا يريد رؤية عراق مستقر، ناهيك بعراق قوي، لاسباب تمتد من البحث عن حصة في الثروات ومواضع مقررة في سياساته، الى نزعة ثأرية لا ترتوي وخشية من انقلاب العراق المدمر والمحتل الى نموذج اقتصادي وسياسي يطرح على حكام الدول المجاورة اسئلة صعبة تدور حول شرعية السلطات المستحوذين عليها.
ولعلها من المفارقات العراقية ان تكون القوى العراقية التي نشأت في ظل الرعاية الايرانية، هي الاكثر تمسكا بالمعاهدة مع الاميركيين، في حين ان الجهات التي ناصبت طهران العداء هي تلك الواقفة اليوم في وجه الاتفاق المقترح بعدما استجد الوئام جدة طارئة بينها وبين ايران.
لكن المفارقة الاكبر هي ان العراقيين المؤيدين للمعاهدة لا يخفون غرابة المعادلة التي يتبنونها: الاحتلال هو الحاضنة الوحيدة للاستقلال. الخروج بتفسير معقول للتناقض الشكلي هذا يتطلب، قبل الركون الى راحة العقل الزجلي المندد بالاحتلال، التمعن في ما حدا بالعراقيين الى تفضيل الاحتلال الاميركي على الشقيق والجار العربي والمسلم.
الحق، ان الشقيق والجار لم يعملا، في رأي العراقيين الذي تسنده لوائح لا تنتهي من وقائع تدخلات خارجية يحملها الانتحاريون وفرق الاغتيالات يدا بيد، لم يعملا على توطيد استقرار العراق بعد انهيار حكم صدام حسين. واذا ظهرت فضيلة للسذاجة في مكان، فإنها تبدو على اكمل وجه في المقارنة بين اعداد الضحايا العراقيين الذين سقطوا بنيران القوات الاميركية واولئك الذين قضت عليهم افواج الانتحاريين العرب وفرق الموت غير العربية. ضحايا الفئة الثانية يزيدون اضعافا مضاعفة عمن قتلتهم قوات الاحتلال. سذاجة المقارنة هذه لا تنفي صحتها. واذا كانت مقارنة من المستوى المذكور لا تكفي، فيمكن التأمل في التقارير المفصلة عن نهب النفط العراقي مقابل فساد الشركات الاجنبية العاملة في العراق اليوم. مرة أخرى، لا يبدو الشقيق والجار في موقع افضل من المحتل، او يسمو عليه اخلاقيا وسياسيا.
قصارى القول، ان العراق المحتل يريد ان يتحرر من جملة القيود المكبلة له. من الاحتلال وممن يساهم في تأبيد الاحتلال من خلال ضرب قدرة العراق الذاتية على بناء ذاته كدولة مستقلة. الخيار المطروح هو من نوع الخيارات التاريخية المحصورة بين السيئ والاسوأ. الترف ممنوع هنا اذا كان المطلوب بناء عراق مختلف عن عراق المقابر الجماعية. والدعوة الى اولوية مقاومة الاحتلال على كل اولوية اخرى، لا تعني عند العراقيين، سوى النفخ في نيران حرب اهلية لا أول لها ولا آخر. اما العراقيون، من ايد منهم ايران ومن عارضها في الاعوام السابقة، طمعا في مساندتها للتخلص من طغيان صدام حسين، لا يقرون رؤية احادية الجانب كهذه اذا كان ثمنها ديمومة معاناتهم ودمار ما تبقى من بلادهم.
على ان استنكار المستنكرين للمعاهدة يبقى ضمن المعقول، اقله نظريا، اذا وضع كإفراز لعقل سياسي ارتضى الأحكام المسبقة والربط الميكانيكي الذي فات اوانه ولا يعمل اليوم الا على تبرير مشاريع امبراطورية وحكومات استبدادية، تفضل بقاء العراقيين غارقين في دمائهم الى الابد، منكرين عليهم الحق في الحياة، حتى لو كانت هذه عسيرة على النحو الذي يعيشه العراق هذه الاعوام.
السفير