ترضى الضحية وليس يرضى الجلاد
عبد الوهاب بدرخان
ليس معروفاً تماماً ما الذي انتظروا سماعه من سعد الحريري بعد افطار السبت الماضي، ولماذا كانوا متأكدين انه سيقول ما يتوقعونه. وليس معروفاً أيضاً لماذا لم يقل. أساساً لا أحد يعرف إذا كان ما نسب اليه، تسريباً، صحيحاً أو غير صحيح. قد يكون صحيحاً وغير معدّ للنشر، لكن تسريبه أفسد القصد. وقد لا يكون صحيحاً، لكن الجهة التي تريده أن يقول شاءت تقويله او الاشارة اليه بما يجب أن يقال.
هذا نمط معروف، وسبق ان اتبع مع آخرين قبيل “التوبة” وبعدها، في ظروف مختلفة، ولأهداف لا تشبه المتوخى من رئيس الحكومة. اذ ان “القرائن” و”المعطيات” رمت في ما رمت اليه احراجه، فما دامت اسرائيل اصبحت “متهمة” باغتيال والده، فما عساه ان يفعل غير أن يزكي هذه الفرضية، وكفى المؤمنين شر انتظار القرار الظني من لاهاي.
عملياً، لم تتغير اللعبة، وتكاد مفاعيل التلطيف التي أعقبت القمة الثلاثية تفقد صلاحيتها. فما بدأ قبل القمة استمر بعدها، بلهجة أقل حدّة شكلاً وأكثر حدّة مضموناً. أي أن السيناريو الذي أثار المخاوف لا يزال ماضياً ومتوجهاً الى الهدف، إلا إذا حصل تغيير جوهري قادر على ايقافه. فالمطلوب هو البصم على رفض قرار ظني لم يصدر ولا يعرف أحد معطياته التي قد يتهم عناصر من “حزب الله” على أساسها، وبالتالي البصم على مجموعة قرائن ومعطيات بأنها اتهام واضح ومؤكد لاسرائيل.
ليكن واضحاً، بالمنطق السليم والنظيف، أن ما عرضه السيد حسن نصر الله مدعاة للاهتمام والبحث والاستقصاء. لم نعرف طبعاً لماذا جاءت هذه المعطيات متأخرة خمسة اعوام، ولماذا لم تستحق الضحية ولو تلميحاً او حتى معطيات اولية (لا تكشف فيها اسرار عسكرية) لإفادة التحقيق، ولماذا لم يحرك حدث بهذه الخطورة لبنانياً ذلك الكنز من المعلومات، ولماذا اعتبر اصحاب هذا الكنز انهم غير معنيين بمن اغتيل ولماذا وكيف اغتيل، هل لأن التحقيق الدولي طُرح باكراً جداً، وهل لأن الاتهام وجه باكراً الى سوريا علماً بأن هذا سبب كاف للدخول على الخط ولو من قبيل محاولة تغيير المزاج الشعبي ان لم يكن من أجل المصلحة العامة؟
أسئلة كثيرة، وهناك الكثير غيرها، لكن لا بأس بتجاوزها الآن للقول بأن المعطيات التي طرحت يجب ان يكون لها مرجع يحسم لا في صدقيتها فحسب وإنما في مدى صلاحيتها لتوجيه اتهام صريح وناجز. هذا المرجع لا يمكن ان يكون إلا المحكمة الدولية، لأن الاسباب التي حتمت الاعتماد عليها في 2005 لا تزال قائمة، بل تفاقمت. وليكن واضحاً، هنا أيضاً، وبالمنطق السليم والنظيف، ان اللبنانيين لا يستطيعون ان يعتبروا هذه المحكمة مسيّسة ومنحازة وغير نزيهة إلا بعد أن يروا ويسمعوا ويعوا ما عندها. فلا احد يعتبرها محكمة ملائكة او محكمة شياطين، وانما الكل يريد ان يتعرف الى ما توصلت اليه، وعندئذ سيصدر الحكم عليها هي نفسها.
لعل أسوأ ما يمكن ان يُطرح على اللبنانيين، بعدما وضع “حزب الله” اتهام اسرائيل على الطاولة، انهم اذا لم يأخذوا بـ”القرائن” والمعطيات” على انها قرآناً كريماً منزلاً فلا بد ان يعني ذلك أنهم مشتبهون بـ”تبرئة اسرائيل”. هذا اجحاف بحق الناس ولا بد من الاقلاع عنه، فليس هذا هو الجدل المجدي المطلوب للبلد، هذا جدل مستحيل يُدعى فيه المواطنون الى مفاضلة باطلة ولا معقولة بين “اتهام اسرائيل” و”اتهام حزب الله”. لا يمكن قبول هذا المنطق، ولو كان للانفعالات العاطفية ان تجرّم او تبرئ لما كان التحقيق أصلاً ولما كانت المحكمة.
الأمر الجيد ان هناك معطيات جديدة يمكن ان تفيد التحقيق، والأمر الجيد ان المدعي العام الدولي يريد التعامل مع هذه المعطيات، وبالتالي مع اصحابها الذين ليست لديهم أسباب مقنعة لعدم الاجابة عن اسئلته، فهو ليس ديتليف ميليس، وليس معروفاً باستدراج “شهود الزور” او باطلاق الاحكام المسبقة. ومن شأن هذا المسار الجديد ان يطلق التحقيق في الاتجاه المنشود، لأنه سيطرح علامات استفهام كثيرة يريد المحققون اجابات عنها من الاسرائيليين، اذ يفترض ان هذا هو الملف من عرض الصور الجوية وكشف الاشخاص الذين قيل انهم عملاء للموساد زرعوا في محيط مسرح الجريمة.
سيكون من الخطأ، بل الخطأ الفادح والمريب، دفع معطيات تخص التحقيق، مع الاستمرار في تسفيه هذا التحقيق والتشكيك به، او حتى المطالبة بتحقيق محلي معروف سلفاً أنه سيكون تحت ضغوط هائلة، فضلاً عن أنه لا يملك كل المعطيات التي توصل اليها التحقيق الدولي.
للأسف، لا يبدو أن الملف الذي عرضه “حزب الله” مهتم بإفادة التحقيق وانما بارباكه، تأخيراً للقرار الظني ومواصلة للضغط والتهديد بأزمة داخلية لمنع صدور هذا القرار. ولذلك يتوقعون، او لعلهم موعودون، بأن موقفاً من سعد الحريري سيكون مفيداً كمقدمة للشروع في “قتل” المحكمة الدولية. وقد يرضى الحريري بالتضحية درءاً للفتنة، لكنهم في الواقع يريدونه ان ينتحر سياسياً.
النهار