صفحات العالم

غزو «اللامفكر فيه»

حسام عيتاني
فيضانات باكستان وحرائق الغابات في روسيا بعد موجة حر استثنائية عاش شرق المتوسط نظيراً لها، ينبغي أن ترتبط بخيط واحد يعين على رسم صورة المستقبل الذي تنتظره البشرية.
لقد درج التفكير السياسي التقليدي على أخذ الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية والأمنية أثناء وضع خطط المستقبل. ولم تكن مسائل البيئة والمياه والمناخ تحضر سوى كمكونات محلية عابرة. هذه العناصر كمُنت طويلا في الحيز «اللامفكر فيه»، وساهمت من دون إدراك السياسيين على مستوى العالم أو ملاحظتهم، في تغيير المعطيات الاقتصادية والأمنية التي تحتل المراتب الأعلى في اهتمامات الحكومات والدول.
ما يجري في العالم هذه الأيام من فيضانات وحرائق يراكم نذر أزمات غذائية وصحية وبيئية عريضة الأبعاد. ويخطئ كثيراً من يعتقد أن الوضع المناخي والبيئي سيعود إلى نوع من الاستقرار وأن الكوارث التي تتراوح بين الأعاصير العنيفة في مناطق غير معتادة على تلك الظاهرة وبين موجات القيظ أو الصقيع، تمكن معالجتها موضعياً.
فيضانات باكستان عينة على ما ينتظر البشرية في الأعوام المقبلة، ليس لناحية عدد الضحايا والمشردين والمهددين بالإصابة بالأمراض المعدية فحسب، بل أيضاً لناحية تداخل كل هذه المشكلات مع مسائل تضاؤل الإنتاج الزراعي والحاجة المتفاقمة الى الطاقة وسط تسارع ذوبان الثلوج في القطبين وفي الأنهار الجليدية التي يُعتقد أنها ضاعفت حجم الكارثة الباكستانية الحالية. ولعل باكستان عينة نموذجية على تداخل الأزمات بعضها ببعض في بلاد تعاني من اضطراب سياسي وطائفي مزمن يتجلى في عدد من الحروب الأهلية المتنقلة بين الشمال والجنوب.
حرائق روسيا، من جهتها، تحمل في طياتها علامات أزمة غذائية جديدة يستبعد الخبراء أن تبلغ الحدة التي بلغتها أزمة عام 2008 التي أدت الى الارتفاع الشديد في أسعار مشتقات الحليب واللحوم. لكنها في المقابل، تسلط الضوء على الحقائق القاسية للأمن الغذائي في العالم الثالث. فمصر التي تحتل المركز الأول بين الدول المستوردة للقمح، مدعوة الى البحث عن بدائل قصيرة وبعيدة المدى عن الاختلال الحاد في ميزان وارداتها من هذه الحبوب.
ولا تزيد مسألة القمح في مصر عن أن تكون رأس جبل الجليد «اللامفكر فيه» البيئي والغذائي في العالم العربي. فمشكلة القمح في مصر جاءت بعد أشهر قليلة من بروز خطر لا يقل جسامة هو ذاك الذي طرحه قرار عدد من الدول الأفريقية إعادة النظر في حصص تقسيم مياه النيل. وغير بعيد من هناك، ما زالت قضية دارفور التي بدأت كمشكلة بيئية سببها زحف الصحراء وخسارة الرعاة مناطق رعيهم وتقدمهم الى مناطق المزارعين، تتطور كأزمة سياسية وعرقية ينوء السودان تحت وطأتها.
ويراقب العراق وسورية بحذر تقلص كمية المياه في دجلة والفرات التي تصلهما من تركيا في الوقت الذي تتقلص المساحات المزروعة في البلدين العربيين بمعدلات غير مسبوقة، ما يدفع المزيد من سكان الأرياف الى الهجرة نحو المدن التي تعيش بدورها ظروفاً لا تحسد عليها، في حين ما زالت السيول التي أصابت جدة والرياض تثير دهشة بين المراقبين.
زبدة القول إن إهمال الترابط بين مسائل البيئة التي يبدو وكأنها تخرج عن السيطرة وبين السياسة في العالم، والإصرار على مقاربة المشكلات المستجدة وفق المنظور التقليدي، تكلف البشر خسائر طائلة في الأرواح والأموال والأهم في القدرة على استشراف مستقبل الأجيال المقبلة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى