صبحي حديديصفحات العالم

مسجد نيويورك وفيل الحزب الجمهوري

null
صبحي حديدي
هاكم هذا الاختبار الجديد، الذي سيضع على المحكّ واحداً من ركائز الدستور الأمريكي (التعديل الأوّل) وسيحيل إلى الديمقراطية الأمريكية ملفاً بالغ البساطة، حول حقّ بالغ الوضوح، ولكن إنكاره أو حجبه أو إنقاصه قد يهدّد بكشف سوأة البنيان ذاته، ويُظهر عطب دعائمه الأخلاقية والحقوقية.
المسألة هي هذه، وليس سواها: هل سيمتلك مسلمو الولايات المتحدة الأمريكية الحقّ في إقامة مركز اجتماعي إسلامي (وليس مجرّد مسجد كما صار شائعاً، عن سابق قصد)، في مدينة نيويورك، على مبعدة مئتي متر من الـ’غراوند زيرو’، حيث انهار مركز التجارة الدولي بفعل الهجمات الإنتحارية الإرهابية يوم 11/9/2001؛ أم أنّ خطاب التعصّب ضدّ الإسلام والمسلمين، والذي انفلت من كلّ عقال في هذه المناسبة، سوف يذهب حتى النهايات القصوى لمعركة تلوح شرسة ضارية منذ الآن، فينجح في حجب هذا الحقّ البسيط؟
ومن حيث المبدأ، تشير جميع حيثيات الملفّ إلى أنّ المعركة ينبغي أن تنتهي إلى انتصار الحقّ القانوني على الباطل الغوغائي، قبل أيّ إطناب في الحديث عن هزيمة التعصّب أمام التسامح، أو انتصار القِيَم الأمريكية السامية على غلواء السياسة أو الدين أو الحضارة. ذلك لأنّ المسار القانوني لمشروع ‘بيت قرطبة’ ـ اسم المركز الإسلامي، الذي سيتألف من 15 طبقة، ويضمّ مكتبة، ومركز مؤتمرات، وصالة معارض، ومسبحاً، ومركزاً لرعاية الأطفال، إلى جانب المسجد ـ كان قد بدأ من الترخيص الأصعب، أي موافقة لجنة الحفاظ على المباني التاريخية في مدينة نيويورك، بإجماع تسعة أصوات، على تشييد المركز في موقع مبنى يعود إلى القرن التاسع، ويمكن هدمه لأنّ اللجنة لم تصنّفه في عداد المباني التاريخية والأثرية. وفي المجلس المحلي للمدينة، نال الترخيص موافقة 29 عضواً، واعتراض صوت واحد، وامتناع 10 أعضاء عن التصويت؛ كما صدّق المجلس البلدي على القرار، حين أعلن أنه لا ينوي الاعتراض عليه أو تجميده.
في الجانب الآخر، الأهمّ عند سواد الأمريكيين بالطبع، يستلهم المركز اسمه من مدينة قرطبة الإسبانية، التي شهدت تعايش المسيحيين والمسلمين واليهود، بوئام وسلام، طيلة 800 سنة؛ ويعلن أنّ برامجه وأنشطته تستهدف تعزيز التقارب والتواصل بين مختلف الأديان. كذلك سوف يتولى إدارة المركز الإمام فيصل عبدالرؤوف، الذي يعتبر أحد أبرز المستنيرين المعتدلين في أوساط رجال الدين والقيادات الإسلامية الأمريكية، وبين أعلاهم صوتاً في إدانة الإرهاب والعنف والتعصّب الديني، والدفاع عن حقوق المرأة المسلمة، والدعوة إلى الإنفتاح على الثقافات والأديان، ومساندة حرّيات العبادة والحرّيات الفردية سواء بسواء.
هل تكفي هذه الحيثيات؟ استطلاع الرأي الأحدث، الذي أجرته قناة الـ CNN أشار إلى أنّ 68 بالمئة من الامريكيين يعارضون إقامة المسجد (إذْ يندر أن يتحدّث أحد عن مركز اجتماعي إسلامي متعدد الأغراض) على مقربة من الـ’غراوند زيرو’. ومن القصور والتعسّف، فضلاً عن التبسيط والاختزال، قراءة هذا التصويت بمعزل عن شحناته الإيديولوجية المتعددة، الثقافية والسياسية والدينية، المتأصلة في مختلف مظاهر الرهاب من الإسلام، ونزعات تأثيم المسلمين. فكيف إذا كانت الأجواء تعبق بحملات انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي ستجري في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل؟ وكيف إذا كانت عناصر البطالة والركود والضائقة الاقتصادية والخوف من المستقبل، بمثابة زيت يُصبّ على النار المتأججة أصلاً؟ وكيف إذا صار السجال، حول هذا الملفّ البسيط، ديدن الساسة والمعلّقين والإعلاميين والمدوّنين والشارع العريض؟ ثمّ، قبل هذا وذاك، كيف إذا عُزفت مجدداً تلك الإسطوانات العتيقة عن تهديد الإسلام للحضارة الغربية، وتعريض القِيَم الديمقراطية للأخطار، والمسّ بثوابت الإرث اليهودي ـ المسيحي بأسره؟
ولعلّ نيوت غنغرش ـ الرئيس الأسبق للكونغرس، والقيادي البارز في الحزب الجمهوري، والآمل في قطف بطاقة ترشيح الحزب لانتخابات 2012 الرئاسية ـ هو المثال الفاقع، وليس الساطع، على انحطاط خطاب الجمهوريين، والمحافظين إجمالاً، بصدد قضية واضحة بسيطة محقة، يكفلها الدستور الأمريكي على نحو لا يقبل اللبس أو المناورة في التأويل. فلقد أعلن أنّ الذين يريدون بناء ‘مسجد 11/9’، كما أسماه، في تلك البقعة من المدينة، هم ‘معادون لحضارتنا’، وسواء كانوا من ‘الجهاديين المستترين’ أم من ‘مرتكبي العنف المكشوفين’، فإنّ مسعاهم واحد: ‘جميعم يريدون فرض الهدف الختامي، أي استبدال الحضارة الغربية بالشريعة Sharia، على نحو قسري راديكالي’. وبعد أن اقتبس مقاطع من ‘خطبة غيتسبرغ’، التي ألقاها أبراهام لنكولن في خريف 1863 وتعتبر من الأدبيات التأسيسية للديمقراطية الأمريكية، جزم غنغرش بالتالي: ‘أجادل بأنّ انتصار الشريعة سوف يعني، بوضوح، نهاية الحكومة التي تحدّث عنها لنكولن’… هكذا، دفعة واحدة، وليس أقلّ!
ليس هذا الرجل أحد كبار أفيال الحزب الجمهوري الأمريكي، فحسب؛ بل هو واحد من كبار المنظّرين لفلسفة الفيل، شعار الحزب، في عدم النسيان، وفي امتلاك ذاكرة طويلة؛ حتى إذا انقلبت هذه الفلسفة رأساً على عقب في قراءته لتاريخ الولايات المتحدة، وخصوصيات مجتمعاتها المهاجرة أصلاً، المتعددة إثنياً ودينياً ومذهبياً. وما تحفظه له الذاكرة العادية، وليست تلك المديدة البعيدة اللائقة بالأفيال، أنّ آخر الحملات التي وضعته على مانشتات الصحف الكبرى في أمريكا كانت تلك التي حثّ فيها على حفر قيعان البحار، تنقيباً عن النفط… طراز الحفر ذاته الذي جلب الكوارث البيئية الرهيبة في خليج المكسيك، طيلة أسابيع وأشهر. ولقد طلع على أمريكا، في مناسبة العيد الوطني تحديداً، برسالة وجيزة شاء لها أن تأخذ صيغة شعار سهل الحفظ والترديد: ‘إحفروا هنا، إحفروا الآن، واجعلوا الرابع من تموز (يوليو) يوماً لاستقلال الطاقة’!
وعلى شاكلة حاله اليوم، إذْ يخوض الحملة ضدّ المركز الاجتماعي الإسلامي في نيويورك، كان غنغرش يواصل العيش ضمن أخلاقيات ذلك الخلل الفادح في ميزان التفكير، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي: بين خطّ المحافظين الجدد الذي يفضي في الخارج إلى كارثة تتلو الأخرى، والخطّ المحافظ القديم الراكد الذي يجعل سياسة الحزب في الداخل أشبه بدوران في المكان حول الحلول العتيقة والكليشيهات مسبقة الصنع. هذا نجم علا في سماء الحزب ذات يوم غير بعيد، ثمّ انطفأ وانحسر نفوذه حتى كاد أن يُنسى، لولا أنه لا يكفّ عن التذكير بنفسه وبأفكاره، وكأنه يعيش في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1995، حين اختارته أسبوعية ‘تايم’ الأمريكية رجل العام.
كان آنذاك أبرز وجوه الحزب الجمهوري، رئيساً للكونغرس، وصانع ضجيج منتظم يكفي لإبقائه في سدّة الحدث اليومي وعلى خشبة المسرح الأكثر اجتذاباً للأنظار. صحيح أنه كان أحد أبطال ‘العقد مع أمريكا’، أو ذلك البيان الإنتخابي الذي تبارى على توقيعه مرشحو الحزب الجمهوري في انتخابات تلك السنة، كمَنْ يتبارون في شعائر الإخصاب وإحياء الأرض الموات. وصحيح، أخيراً، أنه كان أستاذ التاريخ الحديث، والروائي المولع بقصص الخيال العلمي ـ التاريخي، وأطول المحافظين الجدد لساناً في كل ما يتصل بالأخلاق والقيم والأعراف.
ولكن من الصحيح أيضاً أنه كان مشروع نجم آفل أو يكاد، وبلاغة الضجيج التي دشنها منذ الدقيقة الأولى لجلوسه في الركن الأعلى من قاعة اجتماعات الكونغرس أخذت تستهلك بعضها كالنار التي أكلت الكثير ولم يتبق أمامها سوى أن تأكل بعضها. و’العقد مع أمريكا’ سرعان ما انقلب إلى ‘عقد على أمريكا’ حتى قبل أن يبلغ اليوم المئة من عمره الأقصى الذي حدّده الذين أدّوا اليمين. وأمّا أستاذ التاريخ فقد تراجع بمعدّل 180 درجة في أوّل تجاذب مع اللوبي اليهودي حول علاقة الولايات المتحدة بالـ’هولوكوست’، فانحنى، وأطاح بزميلته المؤرّخة كريستينا جيفري، هو الذي جاء بها لتدوّن مآثره الشخصية التي آمن ـ ويؤمن اليوم أيضاً، أغلب الظنّ ـ أنها ستكون اسثنائية، غير عادية، وخالدة.
ولعلّ تاريخه الشخصي، الذي يقوده إلى أمثال معاركه ضدّ المساجد، يبدأ من عام 1970 حين اختار لأطروحة الدكتوراه موضوع الإستعمار البلجيكي للكونغو، فانتقد سياسات الحكومة البلجيكية، ليس لأنها مارست أسوأ أنماط الإستعمار في العصر الحديث، بل لأنها… لم تكن إستعمارية بالقدر الكافي، أو عجزت عن فهم الرسالة الإمبريالية الأعمق من وراء إرسال الأساطيل عبر البحار. وكتب غنغرش: ‘ضمن ثوابت الليبرالية الأمريكية في القرن العشرين، يُعتبر الإستعمار الأوروبي سياسة غير مقبولة. ولكن ماذا كان معنى تلك السياسة عند المواطنين الأفارقة أنفسهم؟ هل قامت القوى الإمبريالية بأداء وظيفة مؤلمة ولكنها إيجابية، حين اخترقت المجتمعات التقليدية وعبّدت الطريق أمام تحديث أكثر سرعة’؟ نعم، يجيب غنغرش دون تردد: ‘لقد حاول البلجيكيون حلّ واحدة من أعقد مشكلات عصرنا، أي كيفية تحديث مجتمع تقليدي’.
أستاذ التاريخ هذا لا يدرس أو يدرّس التاريخ بقدر ما يرجّع أصداءه، على حد تعبير غاري ويلز. إنه مفتون بالأسطورة والحكمة والتقليد العريق والرمز و… التخييل القصصي الذي يمسخ المخيلة الإبداعية إلى جدول لإعادة ترتيب العالم على نحو شائه. في روايته ‘1945’، المتأثرة كثيراً بأدب اسحق أسيموف، والتي تحوّل الخيال العلمي إلى ألعاب لاستقلاب التاريخ، يصف غنغرش سقوط أدولف هتلر ضحية غيبوبة تدوم بضعة أسابيع إثر حادث طائرة في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 1941، أي قبيل التاريخ الفعلي لإعلانه الحرب على الولايات المتحدة. وحين يصحو من الغيبوبة، يقرر شنّ الحرب على أمريكا لقطع الطريق على نجاحها في تطوير السلاح النووي، ‘الوحيد القادر على تدمير الرايخ’. والدرس المستمد هو، ببساطة: المزيد المزيد من التسلح، في غيبوبة هتلر (أو ستالين، أو صدّام حسين، أو ‘الإرهاب’ أو ‘الأصولية’ أو ‘مسجد 11/9’…)، مثلما في صحوته، وصحوة بدائله المعاصرين.
وليس بلا أوهام عتيقة لا تني تتجدّد، أي تتضخم وتترهل، أنه يتفاخر بحملتين سياسيتين ‘تاريخيتين’ كما يصرّ على القول، جلبتا إلى أمريكا طرازاً من التغيير الحقيقي الذي يعجز عن اقتراحه أيّ زعيم ديمقراطي: ‘الثورة الريغانية’، نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، سنة 1984؛ و’العقد مع أمريكا’ بعد عشر سنوات. وفي كتابه ‘التغيير الحقيقي: من عالم يفشل إلى عالم ينجح’، يعود غنغرش القهقرى إلى مصافّ سبق له أن هبط منها مضطراً، بسبب غائلة الفشل السياسي الذريع والفضائح المالية وإفلاس الأطروحات الكبرى والصغرى على حدّ سواء. صحيح أنه أحجم عن ترشيح نفسه لبطاقة الحزب الجمهوري ضدّ ماكين، في الانتخابات الماضية، ولكن من الصحيح أيضاً أنه يواصل الإصرار على تمثيل أسوأ مصائر نجوم الفلسفة الريغانية، في الصعود السريع والانحدار الأسرع.
وقبيل انخراطه في الحملة ضدّ المركز الاجتماعي الإسلامي (صحبة المرشحة السابقة سارة بايلن، يا لمحاسن الصدف!)، أعلن غنغرش أنه يدرس جدّياً إمكانية ترشيح نفسه لانتخابات 2012 الرئاسية؛ فأيّ بداية لحملته المبكرة أفضل من اتهام الشريعة الإسلامية باستهداف الديمقراطية الأمريكية، والحضارة الغربية؟ وكيف لسجالات غوغائية مثل هذه ـ حسيرة قاصرة، أو متغافلة متجاهلة ـ أن تزعم الانتساب إلى ذاكرة الأفيال؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى