رجال السلطة يقامرون بالوطن؟
ميشيل كيلو
ثمة اقتناع رسخته التجارب، جعل مواطنين عربا كثيرين يعتقدون أن القوى الحاكمة في عديد من بلدانهم تعطي سلطتها الأولوية على وطنها، بل وتضعها في مواجهته. وثمة تطبيقات فاقعة لهذه الظاهرة برزت مؤخرا بصورة سافرة، لمس المواطن وجودها في مناطق عديدة أهمها السودان والعراق، وبدرجة أقل في اليمن ولبنان.
هناك، بخصوص ترجيح كفة السلطة على كفة الوطن، رواية قديمة عن آخر خلفاء بني العباس، الذي قال ردا على تحذيره من غزو مغولي كان يكتسح العراق: ‘بغداد تكفيني’، فكشف بقوله هذا وجود نوع من الحكام لا يرى من وطنه غير سلطته وكرسيه. وصار هذا الخليفة بعد ذلك التاريخ نموذجا يشهد على خيانة أمانة الحكم، جعلته العرب مضرب الأمثال وتخوفت من تكراره واعتبرته وصمة عار في جبين كل من يفعل شيئا مشابها في أي حين وأية أرض، باعتبار أن تفضيل السلطة على الوطن، إن تعارضت مصالحهما أو تناقض وضعهما، يعد جريمة لا تغتفر لأي حاكم، بما أن للسلطة مهاما محددة تتصل حصرا بإدارة شؤون وطنها بأكثر الصور فاعلية، وحمايته من أي عدو داخلي أو خارجي، فليس من حقها إذن وضع نفسها فوق وطنها أو في مواجهته، وإلا انقلبت من جهة تحميه إلى خطر يهدد وجوده، وصار التخلص منها مصلحة وطنية عليا.
تؤكد وقائع متتالية أن بعض النظم العربية استعادت موقف الخليفة العباسي، الذي اعتقد أن بغداد تكفيه، وأن سلطته أكثر أهمية من وطنه، ففقد وطنه وسلطته كليهما. لو كانت النظم العربية المعنية أفضل حالا من نظام عام 1258، لامتنعت عن تفضيل سلطتها على ‘وطنها ‘، ولتخلت عن سلطة تلحق الأذى به أو تسعى إلى معادلة يصعب تصديق وجودها تقول: خذوا الوطن أو قسموه واتركونا في السلطة، أو فليذهب الوطن إلى الجحيم، إذا كان ذلك يضمن بقاء سلطتنا!.
يقول مراقبون يتابعون الوضع السوداني: إن كل ما وقع هناك في العام الأخير من تطور يستند إلى المعادلة التالية: يقبل حكام السودان انفصال الجنوب مقابل بقائهم سلطتهم في الخرطوم وحصولهم على ضمانات أميركية لها. وكان البشير قد أبلغ صحافيين مصريين قبل عشرة أعوام أن نسبة العرب إلى سكان السودان هي حوالي 39 ‘، وأنه لا مفر من اعتماد طريقة جديدة في الحكم، تصحح علاقات المكونات الشعبية السودانية المختلفة، عبر تبني مشتركات يقبلونها ويشاركون في تحقيقها، وإلا انهارت دولة السودان الموحدة. واليوم، ها هو البشير ينفذ مشروعا معاكسا يفتت السودان ويحوله إلى فيدرالية أقليات مستقلة، مقابل حكم الخرطوم وما يسمى الـ’مثلث العربي’ وسط السودان، الأمر الذي سيستتبع بالضرورة انفصال الجنوب غدا، والشرق والغرب بعد غد. نحن إذن حيال حالة توضع السلطة فيها فوق الوطن وفي مواجهته، يتم خلالها التمسك بالكرسي بثمن باهظ هو نهايته كوطن، بالاتفاق مع جهات أجنبية لطالما وصفها البشير نفسه بالمعادية!.
هناك مثال آخر نراه في العراق، يتجلى في مواقف وسياسات ينتهجها رئيس وزراء البلد، الذي دأب طيلة سنوات على اتهام صدام حسين بوضع سلطته فوق وطنه. لكنه، ما إن وصل إلى الحكم، حتى وقع في ما كان يأخذه على غيره، وحصر اهتمامه في مسألة وحيدة لا يحيد عنها هي بقاؤه في الكرسي، وإن أدى ذلك إلى فوضى ستليها على الأرجح حرب أهلية، أو إلى تقسيم العراق وإنهائه كوطن لجميع العراقيين. ثمة هنا أيضا اتفاق مع قوى أجنبية وتحريض منظم لقوى البلد الداخلية بعضها ضد بعض. ويتم إنضاج طبخة السلطة على نار أزمة وطنية شاملة تأخذ العراق تدريجيا إلى حال لن يبقى بعدها ما كان عليه قبلها، فيها نهايته المؤكدة وتمزيقه إلى أوطان صغيرة، لكل منها طائفته أو قومه، تجمع بينها عداوات وثارات ستفضي حتما إلى الصراع وتربص كل فريق بغيره: قاتلا أو مقتولا. ومثلما غلّب البشير السلطة على الوطن عبر زج السودان في مأزق يقوض وجود دولته، يتبنى المالكي سياسة ترهن بقاء وحدة العراق ببقاء السلطة في يده، وتضعه أمام ابتزاز يقول ‘إما أنا وإما الوطن’. وقد أعلن مرات عديدة أنه وحده يمتلك مؤهلات رجل السلطة، وأكد أنه لن يتخلى عنها مهما حدث، رغم أن خرج من الانتخابات البرلمانية ثانيا، ورغم أن الدستور العراقي يقول بتكليف الكتلة الفائزة كتلة العراقية في هذه الحالة – تشكيل الوزارة. هكذا، إما أن يقبل الجميع وضع السلطة بين يدي المالكي، مع ما في ذلك من مخالفة للدستور ولإرادة معظم أبناء العراق، أو أن يدير أزمة ستنهي بالإجهاز على العراق كوطن، وبإحلال أوطان دنيا مكانه، في قيامها موته. ابتليت الدول العربية بنمط من الحكم يسمى ‘النظام السلطوي’، الذي يشرعن في كل مكان أولية السلطة على ما عداها: دولة كان أم مجتمعا أم وطنا أم مواطنا. هذا النظام يقوم على إعادة إنتاج الدولة والمجتمع انطلاقا من السلطة، خدمة لمصالح القابضين عليها، ليكونا دولة ومجتمع السلطة وعلى صورتها ومثالها، فلا يبقى لهما من وظيفة غير خدمتها وتقويتها، ولا يكون لها من عمل غير إضعافهما: لصالح سادتها ومن يساندهم من قوى ينتجها النظام السلطوي لتكون بدورها في خدمته. في هذا النمط من الحكم، لا يمكن ولا يجوز رؤية الوطن بغير دلالة السلطة ومنظارها. من غير الجائز أيضا أن يكون للمجتمع كيان مستقل عنها أو قادر على امتلاك هوية سياسية خاصة به. ليست الدولة بدورها فوق السلطة أو مستقلة عنها، إنها مجرد ذراع وحسب من أذرعتها. في هذا الوضع الواقف على رأسه، ليس للقانون أو للدستور أية أهمية، لذلك تتجاهلهما السلطة وتتلاعب بهما على هواها، فهما منفصلان عن المجتمع والدولة والمواطن، يخدمان الممسكين بأعنتها وحدهم، فلا معنى ولا وظيفة لهما خارج علاقتهما مع هؤلاء، ومن الضروري تكييفهما مع رؤاهم وحاجاتهم، فهم وحدهم حملة الشرعية، والمعصومين الذين لا بد من تبرير أية ممارسة يعتمدونها. في النظام السياسي العادي، تكون الدولة تعبيرا عن المجتمع في مستوى مصالحه العليا والسياسية، وتكون السلطة جهاز إدارة يخضع لتداول انتخاباتي يتمثل فيه الاختيار الشعبي الحر. أما في النظام السلطوي، فيتبع المجتمع والدولة ويخضعان للسلطة، فهي بنيتهما الفوقية والتحتية ومصدر أية شرعية أو ممارسة ‘قانونية ‘، والجهة التي يتوقف مصيرهما على أهواء الممسكين بزمامها، فلا يجوز ارتباط أي شيء يخصها بإرادتهما، لسبب جلي هو أنه لا يجوز أن يكون لهما إرادة، وإلا وقع المحظور وقبل النظام مواقف تتعارض مع مستلزمات وجوده، وتهدد وجوده وقد تتسبب في انهياره!.
بسبب طغيان السلطة وحضورها الكلي/الشامل، وتلاشي وجود ودور الدولة والمجتمع والمواطن إلى درجة قريبة من الصفر، تنتشر في بلدان عربية عديدة رؤية تجعل السلطة معادل الوطن والدولة والمجتمع والمواطن وشكل وجودهم. لذلك، يقول إعلام السلطة إن الموقف منها هو موقف من الوطن، فإن انتقد أحد صاحبها كان خائنا للوطن عدوا للشعب، حتى أن بعض أهل السلطة قالوا دوما أن نقدهم ليس موقفا منهم بل هو خيانة للوطن، الذي يجد فيهم تجسيده الملموس، ما دام الوطن هو سلطته وحكامه، ولأن هؤلاء هم حقا الوطن جسدا وروحا!. لا داعي للتذكير بنتائج هذه النظرة إلى الوطن والمواطن، الدولة والمجتمع. ولعل الناس لم تنس بعد تلك اللغة التي جعلت هزيمة حزيران انتصارا، لمجرد أنها لم تنجح في إطاحة السلطة، مع أن هذه خسرت الحرب وفقدت أجزاء واسعة من أرض الوطن. لقد هزم الوطن ونجت السلطة، فاعتبر ذلك انتصارا.
في تطور عرفته بلداننا العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ساد الاقتناع بأن السلطة الجديدة، ذات الجذر العسكري، تجسد الوطن والدولة والمجتمع. بمرور الأيام حدث افتراق تزايد باضطراد بين الطرفين، وصار على الممسكين بالحكم الاختيار بين السلطة والوطن، فاختاروا، للأسف الشديد، السلطة، كما نرى في السودان والعراق اليوم، وسنرى في غيرهما غدا. ذلك جعل استمرار هذا النمط من السلطة يعادل هلاك الوطن. لذا، يطرح نفسه سؤال يصعب أكثر فأكثر التهرب منه هو: كيف نوفق بين السلطة والوطن، ومع أي منهما سنقف، إن تواصل التعارض الحالي بينهما؟ يطرح هذا السؤال نفسه على مجتمعات ومواطني العرب، في ضوء تطورات تضع السلطة في جهة والوطن في أخرى، وتحول السلطة إلى خطر على وطنها. إنه سؤال يكتسب أهمية متعاظمة، بما أن الممسكين بالسلطة شرعوا يقامرون بوجود أوطانهم، مثلما يؤكد سلوك السلطة في السودان والعراق!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي
كل احترامي للأستاذ ميشيل كيلو و كل تقديري لتضحياته التي لاأطالبه بالمزيد منها.
ولكن يؤلمني أن أقول أن كتاباته منذ خرج الى الحرية هي أكبر دليل على نجاعة العقوبة الظالمة التي أصابته.
فبالله عليك كفى تنظيرا عن السياسة العربية والمجتمع العربي والساطة في البلدان العربية والقوى السياسية العربية,,الخ الخ وكل ذلك بغرض تجنب تناول الوضع السوري والمجتمع السوري والسياسة السورية…مباشرة,
والا فهناك حل أخر وهو توقيع مقالاته ب كاتب و مفكر من \ عربيا \ ولا أظن ذلك يزعج الناشرين
تحية عربية.