هل يمكن الغفران؟
فلورنس غزلان
حطموا كل الكؤوس، رموا بمحتويات البيت قطعة قطعة…كدسوا أواني الطبخ وأضرموا فيها حقدهم، عبثوا بأدوات المكتب ورموا وثائق أقتنيها…ساروا فوق كتب جمعتها على حساب لقمتي، مرت عجلات سياراتهم فوق جثتي وهي تعبر حقل البيدر وساحة الدار..لم أستطع البكاء ولم يخرج صوتي المكتوم عويلاً .
تدفقت عناصرهم المكتنزة تفتح كل الأبواب وتكسر زجاج النوافذ فربما أخفت بين دفتيها ورقة تُعَّبر عن حلم ممنوع..أرادوا مسح خريطة الزمن وخريطة الوجود…من ذاكرتي…أرادوا أن أعترف بأن المستقبل غامض ومُنتهك ومُجَّير ، أرادوا أن أردد تعاليمهم القدسية الجديدة، أن أسجل في كتاب التاريخ أسماء لم يقرأها أبي ولم يروِها جدي…أرادوا تلقيني درساً في نهج البلاغة وفي فقه الإله المحتل لأرض لاتعطي مفتاحها السري لأي طاريء..، فكيف لي أن أخون الأمانة؟ وأنى لي أن أمسح الأحلام من عيون الأطفال في حارتي الصغيرة ومدينتي التاريخية؟..إن غفرت للجميع خطاياهم …إن غفرت لنفسي أخطاءها…وعفوت وصفحت عن هفوات الصديق والرفيق..أو عن إساءة جارتي وقريبتي، فهل يمكنني أن أغفر لحفاري القبور المدججين بالفؤوس وأسلحة الاقتلاع استمرارهم في نبش كتبي وذكرياتي؟ هل يمكن أن أغفر لمن تسمرت قدماه أمام بيتي كي يقتل حبيبي؟ هل أغادر أرضاً اغتصبت …وحفظت صور وأشكال المغتصبين…وأسماء الجنازات المدفونة دون علم أهلها، ودون أن تفتح مآتم لموتاها…دون أن أسجل هذي الصور وأحملها معي صندوقاً من ألم الحكاية، جزءا من ألمي وألم بعض من حولي إلى أن يعود القمح في البيدر، إلى أن تهبط كل النوارس المهاجرة في شاطيء أوغاريت وتقرأ خطوط الأجداد الأولى وتنقش من جديد وشمها الحديث فوق لوح من ألواح زمن ولى وغادر؟!!
لا أملك جسداً مطاطياً يقاوم الصدمات ولا روحاً من جليد تقاوم النار، لكن قلبي تحَّول لرماد افترسته وحوش بشرية الصورة، أرتعش لفجيعتي ترمقها العيون فتلوذ بالصمت أو تدير الرؤوس حين يكتمل افتراسي، عيون لاتحرس الطريدة وإنما تهادن القناص .. يُفتَرَسُ الضوءُ في عيوني…تُغتال الكلمة في قاموس لغتي ولغتهم ، لم يبق مني سوى أشلاء تقاوم القتل النهائي..أُذبح ورفاق دربي نهاراً جهاراً فوق صواري الإعلام ، تقام أعراس الفرح بالنصر المؤزر المعلن والمبطن فوق رائحة الدم المسفوح على درجات الأقبية المظلمة، تضيق الأرض أمام حجم المؤامرة وغفوة الإنسان أمام نحر الصدور وطعنات الظهور لملوك الكلمة ، لشرارة الحكمة تشعل نيرانها في دفاتر الشباب وتنشر أشرعتها نحو الشمس، لكن أحداً لايراها…أحداً لايأبه لموتها أو لاندحار قلوعها…فعدة السفن والبحارة لايمكنها أن تقوى على المرصود من كمائن لتشكيل خريطة جديدة لوطن برهن الأسرة الحاكمة.
اخترقت نصالهم لحمي، لم يبقَ في جسدي المُزرَّق بقعة آمنة من الخوف والذل ، لم يبقَ لرجفة أصابعي قدرة على الإقلاع فوق صفحات مزقوها ونعتوها بالكفر… أليس وجعاً غير محدود أن يصنف العاشق لوطنه بأنه الكافر الملحد بالوطن وربه…رب نعمته ! أو نقمته؟!..هي حقيقة مفجعة…ومتاهة أردت أن أخرج منها بأقل الأضرار..هزيلة مراكبنا…هزيلة قصائدنا أمام حجم الموت وقوة الصمت، غزيرة ذكرياتنا…وقليلة حقائبنا…ففي دوامة القتل ودوائره ، لامجال للبطولة ولا مجال للوقار..هناك عيون صغيرة تنتظر بهجة لم ترَها…فقدتها منذ الولادة، وأمامها يصبح جبروتك وعنادك مستحيلاً…أعلن الرحيل..لأن جغرافيا المكان لم يعد لي فيها موطيء قبر أو فسحة فرح لصغاري..
بعد بطش العناصر بخلاياك…بعد قذفك بكل التهم والجرائم…لم يعد ممكناً أن تصمدَ قواك…فالقوى أمر نسبي …وأنا أعلن ضعفي أمام عيون صغيرتي الدامعة…سأرحل وستحملني جغرافيا الكرة الأرضية حيث أشعر أني إنسانة…حرة…
أعطوني اسماً…ورقماً في سجل ناصع جديد خالٍ من التُهم ، خالٍ من رصدٍ لتحركاتي أو تنصت لهاتفي…نقية جديدة صرت…للغتي لَكنةُ تشبه نطق الأرمني في حارتي القديمة…لكني متمسكة بها…لأنها تدل على منشأي..طمأنوني وأكدوا لي أني لا أحتاج لقناع كي أقول ما أريد في صفحاتي المخفية…وأن لا أهمية لماضٍ لايدخل هذا البيت ولا يجرؤ على الظهور فوق سطحه أو على بابي….لكن ماهذا الهذيان الذي ظل يلاحقني حيناً من زمن موطني الجديد؟…استطعت ترميم ذاتي …بعد فترة استطعت استعادة النطق…واستبعاد الرجفة عن يدي حين ترقب القلم وتريد أن تروي ماحدث…بذلت جهداً كي أنتقل من جحيم التفتيش اليومي إلى تزاحم الأفكار في رأسي..وإلى أن أدرك أن أجنحتي مازالت قادرة على التحليق.
من دفاتر باريس وطن الانتظارــ 2007
خاص – صفحات سورية –