الكتابة للأطفال
أنور بدر
ربما تكون الكتابة للأطفال من أصعب أنواع الكتابة، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أغلب ما يُكتب للأطفال يكتبه الكبار، أي الذين غادروا عالم الطفولة، وأكثرهم بكل أسف انفصل عن تجارب طفولته وطرائق وعيه للأشياء والتعبير عنها، ومع ذلك يصر على الكتابة للأطفال. دون أن ينفي ذلك وجود قلّة من المبدعين الذين يُجيدون هذا النمط من الكتابة، وهؤلاء برأيي مربون حقيقيون، يمتلكون موهبة التواصل مع عوالم الطفولة والتعبير عنها ومن خلالها، وهذه قدرة فذّة باعتقادي لا أدعيها لنفسي.
لذلك فإن الكتابات الحقيقية الموجّهة للأطفال هي قليلة عموماً، والجيد منها هو الأقل بشكل عام، ولن أتحدّث في هذه العُجالة عمّا يُكتب من قصص ومجموعات شعرية للأطفال، بل سأكتفي بالتوقف قليلاً مع العدد الأخير من مجلة ‘أسامة’ التي تصدرها وزارة الثقافة السورية، وتملك تاريخاً عريقاً في الإصدار يرجع إلى عام 1969 حين أصدرها الراحل سعد الله ونّوس، وقد كانت مُتميّزة في بداياتها إذ تعاقب على رئاسة تحريرها كل من ونّوس وزكريا تامر وعادل أبو شنب ودلال حاتم، ومن الرعيل الجديد رأس تحريرها الشاعر آصف عبد الله والقاصة رباب هلال مؤخرا، كما ساهم بها كتّاب وفنانون كبار في سورية، وعلى رأس قائمة الفنانين الذين زينوا صفحات مجلة ‘أسامة’ نقرأ الأسماء التالية: ممتاز البحرة ونذير نبعة وخزيمة علواني ويوسف عبد اللكي وأسعد عرابي ولجينة الأصيل وغسان السباعي وغيرهم من أعلام التشكيل السوري الحديث، لكنها كأغلب الدوريات الثقافية تراجعت فيما يعتبره البعض حالة عامة، ثمّ عاودت الانطلاق بزخم من النوايا التي لا تكفي لصناعة مشروع ثقافي وللأطفال تحديدا. وليس هذا موضوع اهتمامنا، لأنّ ما لفت انتباهي في العدد الأخير الذي حمل الرقم 687 تاريخ آب/اغسطس 2010 هو الافتتاحية الموقعة باسم صديقكم أسامة، والتي يُفترض أن يكتبها رئيس التحرير القاصة ‘رباب هلال’، وكان موضوعها اللغة وانتقال الإنسان من مرحلة التعبير بالأصوات المُبهمة إلى مرحلة التميّيز باللغة. وفي هذا السياق نقرأ: ‘ولم يهدأ أوار حاجة الإنسان للتعبير والتواصل مع محيطه، إلى أن اخترع اللغة الشفهية ثمّ المكتوبة’، وقد فاجأني حقيقة استخدام لفظة ‘أوار’ فكم طفل عربي يعرف هذه المُفردة ودلالتها؟!! بل كم خريج يُدرك ذلك المعنى؟! وأستطيع القول إنني لم أكتف بالملاحظة العابرة، وإنما سألت بعضاً من أصدقائنا في جلسة عامّة، وقد عرفها البعض والبعض أكد جهله بها أو أنه يسمعها للمرّة الأولى. وكان مُلفتاً للانتباه أنّ الذين لم يعرفوا هذه المفردة من الكبار كانوا أكثريّة، فكيف الحال مع الأطفال؟!
المسألة الثانية أنّ موضوع اللغة هو موضوع جامد يصعب إدراكه بالنسبة للأطفال، ولذلك نحن نحتاج إلى الكثير من الدراية والخبرة، للحديث فيه مع الأطفال أو لهم. كما أننا نحتاج إلى المصداقية في التعامل مع الطفل والابتعاد عن الإنشائيّة المُزيّفة، لنقرأ هذه العبارة: ‘وممّا لا ريب فيه أنّ لغتنا العربية هي من أجمل وأغنى لغات الأرض، وقد سُمّيت لغة الضاد لفرادتها بامتلاك حرف الضاد’، ولنتساءل ما معنى أو أهميّة أن تنفرد اللغة العربية بحرف الضاد مثلاً؟ ونحن نعرف أنّ كثيراً من اللغات الأخرى تحتوي على أحرف أبجدية أقل أو أكثر من أبجدية اللغة العربية، وهذا في كل الحالات لا يُعتبر امتيازاً لأيّ لغة في العالم. ثمّ هذه اليقينيّة التي تؤكد أنّ لغتنا العربية هي من أجمل وأغنى لغات الأرض، وأنا أعتقد أنّ لغة أي شعب في العالم هي الأجمل والأغنى بالنسبة له، وأن نحب لغتنا شيء مهم، لكن أن نتفاخر بها عن الآخرين شيء آخر. فأنا أحب وطني وبلدي ليس لأنه أجمل بلد في العالم ولا أغنى بلد في العالم، كما أحب أمي مثلاً ليس لأنها الأجمل والأغنى في الأرض، كذلك أحب لغتي ليس لأنها أجمل وأغنى لغة في العالم، بل لأن هذه الأشياء تعتبر خاصتي التي تشكّل هويّتي وفضائي الذي أعيش فيه. مع أنه بعيداً عن مقوّمات الحب وعدم الحب، نستطيع الجزم أنّ هذا الموضوع لا يزال خلافيا حتى داخل اللغة العربية ومُتكلميها. إذ يتخوّف البعض من انقراضها كما جاء في تقرير لـ ‘اليونسكو’ مثلاً، وآخرون لا يتوانون عن الدعوة لتطويرها، بينما مجامعينا اللغوية وإعلامنا العربي يجهدان لتثبيت تخلفها وخنقها.
سأورد مثالاً آخر من مجلة ‘أسامة’ جاء في العدد ذاته، وهو مادة تعريفيّة بمعبد ‘بل’ من آثار مدينة تدمر كتبها ‘باسل زينو’. وأعترف أنها مادة جميلة وغنيّة بالمعلومات رغم أنها لا تتعدّى 250 كلمة فقط، لكنها كمادة كان يمكن أن تنشر في أي صحيفة يومية أو ثقافية، إذ ليس فيها ما يُميّز الكتابة للأطفال، وبشكل خاص في استخدام الكاتب الأسماء والمصطلحات، والتي أشك أنّ الكثير من خريجي الجامعات يعرفوها، لنقرأ مثلاً ‘نجد في هندسة هذا المعبد تأثيرات العمارة الكلاسيكية (الإغريقية ـ الرومانية) المتمثّلة في التيجان الكورنثية والأيونية والجبهات المثلثة الشكل والبنية العامة للهيكل’. وحتى لا أبقى في مجال الظن والتخمين سألت عدداً من طلاب الجامعة وخريجيها، بمن فيهم طلاب في السنة الثالثة لكليّة الفنون الجميلة عن الفرق بين التيجان الكورنثية والأيونية دون أن أحصل على جواب. فكيف سيعرف الطفل هذه المصطلحات إذا كان الكبار لم يسمعوا بها؟
وحتى عندما تبرّع أحدهم بالتبرير التالي: إنّ مجلة ‘أسامة’ موجّهة للأطفال حتى السن العمرية 15 سنة، فإنني أستطيع الجزم أنّ اللغة التي تستخدم في تحرير هذه المجلة وكتابة موادها تستعصي على من يبلغ العشرين من العمر وتخرّج من الثانوية، بفرعيها العلمي والأدبي، وحتى الثانوية الشرعية، ناهيك عن الصناعة والتجارة.
لن أتحدث عن الإخراج الفني ولا عن سوية الرسوم التوضيحية ولا عن فرز الألوان، مع علمي اليقيني أن الإمكانيات الفنية وعمليات الطباعة قد تطورت آلاف المرات عن ستينات القرن المنصرم، ونحن نلاحظ ذلك في العديد من المطبوعات الخاصة التي تصدر في سورية وحتى في مطبوعات ودوريات وزارة الثقافة السورية.
أكتب هذه السطور وأنا مُشفق على أطفالنا ممّن يكتبون لهم، مُشفق على هذه المجلة التي استمرّت لأربعة عقود ونيف، وهناك من يطالب بإيقافها. اكتب وأنا أعرف أنها كانت مجلة أسبوعية تباع بربع ليرة سورية فقط، والآن أصبحت مجلة شهرية وتباع بخمس وعشرين ليرة سورية، أكتب وأنا أدرك حاجة أطفالنا لهذه الدورية الشهرية الوحيدة التي تصدر في سورية للأطفال، ومدركاً أنّ في بلدي خبرات كثيرة في هذا المجال لا أحد يسعى للاستفادة منها، مع أنها تشكّل ضرورة تربوية وثقافية، وحاجة تنمويّة ملحّة في حياتنا.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي