صفحات ثقافية

لصوص الكلمة

null
محمد رُضا
تعرّض بعض النقّاد في السابق، ويتعرّضون دائماً، الى سرقة مقالاتهم من سوق الإنترنت المفتوح أكثر من سواه. وفي حين أن سرقة المقالات لها أوجه كثيرة وأساليب مختلفة، من بينها استلهام المادّة من دون الإشارة الى المصدر، وصولاً الى سرقة المادّة بفواصلها ونقاطها وأخطائها المقصودة وغير المقصودة، الا أن المنتشر بين لصوص الكلمة العرب، هو كتابة مقدّمة شخصية، ثم الإنقضاض على الأصل في ما بعد. المقدّمة لمنح الذات بعض الشعور بأنها “ساهمت” في الكتابة، ولمنح القارئ شيئاً من الإعتقاد بأن صاحب المقالة كتب كل شيء من نافوخه الخاص. لكن الحيلة لم تعد تنطلي على أحد، واللصوص، خصوصاً الذين ضربوا بعرض الحائط كل الحذر ونهبوا المقالات كما هي، بات لهم على الإنترنت موقع يرصدهم ويفضحهم، وهذا أضعف الإيمان.
المشكلة ذات رؤوس متعددة، والجهل، مرّة أخرى، يأتي كسيد الأسباب.
جهل بالقيمة المُثلى للحياة، وبالمسؤولية المقدّسة حيال الحقيقة، وبالإحترام للنفس الذي من بعده، وبسببه، يأتي احترام الغير. في إنجيل علم النفس الحديث، “مناطقك الخطأ”، لواين و. داير، فإن احترام الغير ينبع من الذات أولاً، كذلك فإن حب الآخرين يجب أن ينبع من حب الإنسان لنفسه. من دون ذلك الحب (بما يشتمل عليه من تقدير ورغبة في صون الذات من الأخطاء والسلبيات على اختلافها)، لا يمكن أن يثق المرء بنفسه وقدراته، فيصاب بعجز عن الإتيان بفعل صحيح وينقلب على الآخرين كارهاً ومعادياً ومخطئاً في حقهم.
مثل هذه الأمور تقع بين بائعي الخضر في الأسواق وبين المحامين في مكاتبهم، كما بين الوزراء في المقامات الرسمية، فلِمَ لا تقع بين النقاد؟ لكن في هذه الحالات كلها، هناك علاج واحد هو: أن يحب المرء نفسه ويقبل بالجيد فيها، ويبدأ بالتعرّف الى مواطن الضعف والأخطاء ومسبباتها، ومواجهة ذلك.
سارق الكلمة هو لص كغيره من اللصوص وما أكثرهم في دنيانا. من سرقة أراض ومياه وأوطان وبل قارات بأكملها، الى سرقة جهود الآخرين وانتحال الصفات والوظائف والنصب على القارئ او الجمهور وعلى الحقيقة. أسوأ أنواع هؤلاء، هم الذين مارسوها مرّة او مرّات، وحين طُلب منهم التوقّف لم يذعنوا. مثلهم في ذلك، من يعرف أنه يلطش لكن أحداً لم يواجهه بالحقيقة، فيستمر في غيّه، ولكل حادث حديث بعد ذلك.
للبعض منا، نحن النقاد، أسلوب لا أقول من المستحيل سرقته، بل من الصعب فعل ذلك، لأنه ينتمي الى دراية تشمل تقنيات ولغويات وأساليب ليست مُشاعة. كذلك، فإن الغرق في التفاصيل التقنية أحياناً يجعل السارق يبحث عن فريسة جديدة يفهمها بعض الشيء أكثر، او لا تفضحه حين المقارنة. لذا، فإن واحداً من الروادع القليلة المتاحة، هو التخصص في المادة التي يزاولها المرء الى حدّ تصعب معه على السارق سرقتها، فيبحث عن غيرها، سهلة ومريحة والى حد ما آمنة.
لكن ذلك ليس حلاً للمشكلة بالطبع. ولا يوجد حل من دون أن يعي السارق أنه كان يستطيع أن يؤلّف المادة كلّها عوض جمعها من أسطر الآخرين، لو اشتغل على نفسه. لا أطلب منه أن يقرأ ذلك الكتاب الذي يقترح حلولاً لمشكلات تستند الى فهم نفسي، بل أن يقرأ في الإختصاص الذي ينبري إليه: أن يثقّف نفسه. بكلمة أخرى: ينعش في ذاته حب المعرفة التي وأدها حين قرر أنه يستطيع أن يستنسخ ويلطش ويسرق ويستوحي ويقتطع مواد آخرين أحبّوا اختصاصهم واستحقوا ما وصلوا إليه من مستوى نقدي خلاّق.
عبر السرقة يقول السارق لنفسه: هو أفضل منّي. ولِمَ يكون أفضل منك؟ تقدّم عليه. استخدم الرجاحة الفكرية التي وهبها الله لك، ولا تخش الجهد الذي تبذله في سبيل أن ترفع من قدر نفسك لأنك ستجد أنك بعد ذلك لن تطيق أن تعامل ذاتك بما لا تستحقه منك.
أقول ذلك، وفي البال أننا وصلنا الى عصر لا يقبل فيه أحد النصيحة. ولأننا شعب غارق في نظريات المؤامرة وفي الندب على الماضي إثر كل ضربة موجعة نأكلها، فإن ملاذنا الإعتقاد، بل الإيمان، بأننا لا نخطئ، وإذا اخطأنا فإننا في منأى من الإعتراف بذلك، لأن الإعتراف يتضمّن إذلالاً ونحن قوم – ما شاء الله – لا نُذَلّ الا كمجموعات، كل يوم من أيام التاريخ. أما كأفراد فكل منا سلطان في مساحته التي قد لا تزيد على مساحة سريره وكرسيه.
الإنترنت جعلت السرقة سهلة، في حين أنه كان من الصعب الإقدام عليها قبل هذا العصر من دون اكتشاف صاحبها. هذا لم يمنع من سرقة كتب وإعادة طبعها، لكن المنتشر الاستيلاء على مقالات او قصص قصيرة وحذف إسم الكاتب الأصلي ووضع إسم الكاتب الجديد وإرسالها الى المجلات والصحف. كلنا قرأ كتّاباً تمت سرقتهم يصرخون كاشفين عما وقع. والحالات التي تم فيها كشف السرقة قبل نشرها في الصحف كثيرة لكنها غير منشورة.
لا أدري منزلة مَن هي الأدنى: السارق ام الجاهل. لكني سأرشّح السارق، لأن الجاهل ربما كانت لديه طموحات مشروعة. ذات مرّة دخلت مكتب صحيفة كنت أكتب فيها بانتظام. سألني رئيس أحد الأقسام ما إذا كان فيلليني مات فعلاً كما ورد في خبر عاجل بعث به مراسل جوّال. كان ذلك قبل عامين من وفاة المخرج الفذ عام 1993، فقلت لا. لكن الموت لا يأخذ أكثر من بضع ثوان، وربما يكون مات وأنا في طريقي الى المكتب. قال لا، لأن الرسالة التي تم إرسالها بالفاكس (حينذاك) أرسلت مساء أمس. تبيّن أن المرسل، الذي يجيد الإنكليزية والفرنسية لكنه لا يعرف شيئاً من الأسبانية، كان في سيارة تاكسي في مدريد حين سمع عبر أثير الراديو الأسباني إسم فيلليني. سأل سائق التاكسي، الذي لم يكن يعرف لا الفرنسية ولا الإنكليزية، ماذا يقول الخبر المُذاع. لم يفهم سائق التاكسي ما يعنيه الصحافي، والصحافي لم يفهم جواب السائق لكنه خرج بنتيجة مفادها أن المخرج مات وأحب أن يكون أوّل من يكتب الخبر مع ملامح مما شاهده من أفلام فيلليني او سمع به متداولاً.
في مهرجان كانّ  قبل سنوات، التقيت صحافياً يلهث من الركض طالباً قاعة المؤتمرات، لكنه توقّف ليسألني ما إذا كنت سأحضر المؤتمر، قلت له إنني لا أحضر المؤتمرات الصحافية، وسألته الى أي مؤتمر هو ذاهب، فذكر لي إسم المخرج. المشكلة أن المخرج (ڤيسكونتي) كان رحل عن دنيانا قبل سنوات وأن الفيلم المعروض كان استعادة، ولم يكن هناك مؤتمر صحافي له.
لكن السارق ليس كالجاهل تماماً. ربما يجهل الكثير من المعلومات، لكنه كان قرر أنه ليس أهلاً ليكون أميناً. وكانت هذه البداية ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى