صفحات الناس

.. ثم قررت أن أصبح مخبراً..!!

null
فارس الحرّ
صارت وجوه الزملاء من حولي ميادين يجول فيها التوتر.. يشير إليّ أحدهم أن ثمة من يسأل عني في بهو المركز الثقافي. أخرج من القاعة فيطالعني وجه غريب لأني لم أره قبلاً، مألوف لأني رأيت فيما مضى ألاف الوجوه الشبيهة.. يراني مقبلاً. يقطع حديثه مع أحد الحضور الذي كان يخبره بما يعرفه عني. يقبل نحوي ببشاشة ظاهرة. يسلم عليّ بحرارة الأصدقاء، وهو يقول إنه أحب أن يتعرّف عليّ!.. لا أفهم شيئاً في البداية، فأسأله من أنت..
يقدم لي كنيته فقط (أبا علي) ويختم على الفور تعريفه المختصر بكلمة موظف!..
عنصر أمن إذاً؟!.. أردد فيجيب موافقاً على الفور، ومؤكداً على صفته المدنية! يعتذر للقائه بي من غير موعد، يقول إن لديه بضعة أسئلة لدقائق قليلة فقط! ويستدرك بأنه ينسحب مع الاعتذار إن كان الأمر يضايقني..
يربكني بلطفه وأدبه، وسابقاً كان سهلاً جداً عليّ التخلص من أمثاله بمجرد حرف فيه جفوة وعنجهية يتفوّه به أحدهم..
بينما يعود الحضور إلى القاعة ويخلو البهو، يظل أمام حيرتي واقفاً..
– أأنصرف أستاذ؟!!..
يسألني مجدداً، فأجيبه أن يسأل ما يريد..
بعد ثوان من أسئلة سريعة عن اسم الأب والأم والميلاد والأخوة والحالة السياسية للأعمام والأخوال.. يبدأ بلطفه الظاهر متسائلاً:
– أنت صحفي وناقد؟!!..
– هكذا إذاً! ثمة مقالة لي أثارت حفيظتكم؟!..
– لا أعلم إن كان ثمة مقالة أو لا! صدّقني يا أستاذ! لكن ليس صحيحاً أن المقالات تثير حفيظة الأجهزة الأمنية. كل ما في الأمر أنها تهتم بما يرد فيها من معلومات عن مشكلات وواقع البلاد، فتبادر إلى جمع المعلومات عن الكاتب، بقصد التثبّت من مصداقية المادة المنشورة، ثم تدارك الحلول!!..
– يا الله!!.. لو صحّ كلامك يا صاحبي، لكانت أقسى حقيقة أُصدم بها، هي حقيقتنا نحن معشر الكتّاب.. نحن مقتنعون بأن السلطة بكل أجهزتها تعاملنا بمبدأ الكاتب مشبوه حتى تثبت براءته.. بينما يتمتّع آلاف وآلاف من المفسدين والمرتشين بالأمان وتجري استثماراتهم ومشاريعهم، القائمة على الاختلاس والرشوة واستغلال النفوذ، بحماية كل الأجهزة.. إن صحّ كلامك نحن إذن واهمون، لم ننتبه إلى أن خيارنا الصحيح، الذي كان علينا اختياره، هو العمل مخبرين للأجهزة الأمنية، بمقالاتنا المدعمة بالأدلة عن واقع بلادنا ومشكلاتها..!!
يتجاوز، والتوتر بادٍ عليه، هذه النقطة ليسأل عن دخلي وانتماءاتي وعن علاقاتي بمجموعة من الأسماء منهم زملاء وأصدقاء كـ (فَلْن الفَلين الفالن)، (فلاني فلانة)، وآخرين..
– كل من ذكرتهم هم زملاء وأصدقاء. أحياناً أقضي معهم أوقاتاً على الموقف بانتظار الحافلة العامة..! هم كتّاب من الجيل السابق، لا يملكون سوى رواتبهم التقاعدية، وحين يمدّون أيدهم إلى جيوبهم أول ما يعلق بها تذاكر الحافلة العامة، أرخص وسائل النقل المتاحة تكلفةً، وأعظمها مشقةً وعسراً.. ولربما ظن بعض الأمنيين أن ذلك تمثيل وإخفاء. لكن التمثيل تأسيس للظهور الحقيقي. فهو مؤقت مهما طال.. فما الذي يمنع هؤلاء من إظهار ثرواتهم الحقيقية، إن وُجدت، وقد شارف كل منهم على سبعينيات العمر، والعيش كما يعيش آخرون من جيلهم ومن الجيل الشاب الذين تتسع ملكياتهم الفردية لتضم أبراجاً ومشاريع ومعامل وأساطيل من السيارات الخاصة والعامة..! الإدارات تعرف جيداً أن الثروات لا تنقل إلى الحياة الأخرى، وأن مجال الاستمتاع بها هي الحياة الدنيا فقط..!! أما بالنسبة لي يا صاحبي، أنا لست موظفاً، أُحصل رزقي أحياناً من بعض الأعمال الحرفية الخاصة حين تعجز المقالات والبحوث في الفكر والأدب التي أحترفها عن سدّ مصاريفي.. ما من جهة تقدم لي منحة أو معونة على الإطلاق. وما حسبت نفسي يوماً بحاجة إليها..! لا شيء! لا أحد! سوى القلم، وبعض الأدوات حين يقصّر الأول في تحصيل رزق بالكاد يغطي الأساسيات..
يتنحنح قليلاً ويطرح سؤالاً استنكارياً لكن برقة بالغة:
– لاحظ حدّة نبرتك! تخاطبني وكأني أتهمك أو كأني المسؤول عن كل فظائع العالم..! لا أفهم لماذا تقفون منا موقف الرفض! نحن أيضاً مواطنون أتينا من هذه الأرض ولم نهبط من القمر..!!
– وهل كنتَ تحسب أني أقف معك، وأجيبك على ما تسأل، لو أني أرفضك كما تقول؟! أجهزتكم وعلى مستوى إداراتها العليا لا تفهم حقيقة الكاتب وجوهر الكتابة بحق! وهي من ترفضه.. الكاتب الحقيقي لا يتخذ موقفه من أفراد مهما كانوا، لا يتأطّر همّه العام ومشكلات مجتمعه في عدائه مع هؤلاء أو أولئك!.. الكاتب الحقيقي يساوي بين الجلاد والضحية بعدسة الوطنية والانتماء المشترك، ويؤمن بأن من قال إن السوريين بعضهم لبعض عدو مبين فقد كفر بالوطن! كفر بالإنسان.. يساوي بين الجلاد والضحية، من خلال عدسة الوطنية، فقضيته هي القمع والتنكيل كظاهرة، لا هذا الجلاد أو ذاك من المتورطين بممارساتها.. وهو أيضاً يفرّق بينهما من خلال عدسة القانون والعدالة، فيطالب إلى الأبد بقضاء عادل مستقل يلاحق أي فرد، كائناً من كان، اعتدى على الحقوق وتجاوز على القانون..
– ولماذا تحسب أن الأمن بكل أجهزته خارج هذه الرؤية الوطنية؟! هناك ضباط كبار، وعلى أعلى المستويات، يكافحون الفساد ويسعون إلى كبح محاولات استغلال الأجهزة والنفوذ عموماً لتمرير عمليات وممارسات فاسدة..!
– أعدتنا إلى المربع السابق! طبعاً يوجد ضباط كما وصفت. لكن المشكلة ليست أبداً هذا الضابط أو ذاك.. المشكلة هي ظاهرة الأمن باعتبارها فوق القانون. وحلها يكمن في عقلنتها وقوننتها بموجب تشريعات وقوانين دستورية من غير استثناء أو طوارئ، وبعد ذلك لا أحد يملك أن ينتقد امتلاك الدولة لأجهزة، توفر لها وسائل الإكراه، طالما ظلت ضمن صلاحية القانون، وتحت قبة القضاء، و في متناول سلطة الإعلام.. بالتأكيد يوجد ضباط وطنيون ومسؤولون! لكن ماذا يستطيعون أن يفعلوا؟ وحلول مشكلات الوطن تجاوزت مستوى القرار الأمني منذ أمد بعيد!.. مشكلاتنا صارت أكبر ربما حتى من مستوى القرار السياسي..!
يغلق دفتره بارتباك. كأنه شعر بتورطه في حديث كان يجب أن يتجنبه. يعرب عن سعادته بمعرفتي، واعتذاره عمّا أخذه من وقتي. يردد بضعة عبارات قبل أن يحييني وينصرف مسرعاً:
– تشاؤمك في غير محله! جهود الإصلاح تمضي قدماً. والكل يتابع ما يجري. وكل ما يُكتب يقرأ من قبل إداراتنا ويستفاد منه في تلك الجهود.. الوطن ما زال بخير…!
كنتُ وحيداً في البهو أستغربُ تفاؤله كما استغربَ تشاؤمي.
.. يقرؤون ما نطرحه فيما نكتب من أجل حل المشكلات ومكافحة الفساد..!
أُشعل سيجارة جديدة وأستغرق في حوار الأصوات..
.. المشكلة أكبر مني ومن كل الكتًاب، أكبر من الأجهزة وكل دوائر القرار.. هي مشكلة العلاقة المريرة بين السلطة والثقافة، مشكلة مزمنة، ضاربة بجذورها في غياهب قرون وقرون خلت.. أزمة السلطة في مشروعيتها، وأزمة الثقافة في حواملها! وكلا الأزمتين تتداخلان، تداخل اللون باللون، ليرتسم المشهد المأساوي المستمر منذ عهود وعهود..! وإلا بماذا تختلف محنة آلاف سجناء الرأي اليوم عن محنة غيلان الدمشقي، صفوان بن جهم، أحمد بن حنبل، الحلاج، السهروردي…؟!!
ذاك حساب العقل والمعرفة، يُصاغ في شكل ذاك السؤال المستغني عن أية إجابة..!
.. لكن! لكن ثمة حساب آخر! يبدأ بسؤال يستغني أيضاً عن الإجابة.. بماذا نختلف نحن عن زملائنا من سجناء الرأي وبماذا يختلفون عنا..؟! كلنا نتمسك بحلم عن وطن مزدهر آمن عادل.. كلنا فيما أعلم يحدد موقفه ونقده من ظواهر عامة لا من أشخاص.. كلنا لا تتسطح قضيته في معاداة أفراد مهما كانوا.. لا ينزلق نحو مستنقعات الأحقاد. فمن أحب وطنه، وسكنته الأحلام، أوصد في وجه الكراهية مغاليق قلبه.. وتلك أوليات شرف القلم ونبل الكلمة. بل بماذا يختلف أبناء سوريا جميعاً حين يُوضعون تحت عدسة الانتماء إلى الوطن..!
سذاجة!! ربما! لكن من يملك الزعم أن حلماً حقيقياً يوجد بمعزل عن شيء من السذاجة؟!.. أول طموحات وأحلام البشرية كانت أمنيات وتصورات ساذجة..!
حلم الطيران بدأ تقليداً مضحكاً لأجنحة الطيور وحركاتها، أدى بالمقلدين الحالمين إلى الهلاك، واستمر الحلم. وطأ الإنسان القمر. والحلم ما زال مستمراً..!
سذاجة! هذا حساب الشعور والعواطف..!
بين الحسابين يتشوش ذهني.. أمضي في الشوارع التي أدمنت قدماي تضاريسها. أجول بعيني على الساحات. أقيس من جديد الأبنية بجفوني. للمرة الألف بعد الألف أشهد التلوث والمخالفات والفقر المدقع والترف الفاحش.. يعبر موكب مسؤول ما التقاطعَ مسرعاً. يمرّ قبالة عجوز ترتعش تحت أسمالها، وهي تجلس على الرصيف، تترقب من المارة من يشتري منها علبة بسكويت أو كبريت…!
هكذا وجدتُني أخرج من الحسابات إلى قراري.. قررت أن أصبح مخبراً بالمجان.. لا شيء سيتغيّر.. سأكتب كما كنت أفعل.. وأنشر كما اعتدت في كل الوسائل الإعلامية المتاحة من ورقية وإلكترونية.. لا شيء سيتغيّر على الإطلاق سوى أني سأبذل جهدي لأكون أكثر دقة في عرض قضايا ومشكلات بلدي، فقد أدخلت الآن في اعتباري قراءً جدداً يتابعون ما ينشر.. أدخلت في اعتباري أن سوريين في الأجهزة الأمنية يقرؤون، ولعلهم يملكون من مواقعهم قدرات المعالجة والحل.. على نحو ما قال عنصر الأمن الذي استجوبني..!!!
أعلم أن أكثر من يقرأ هذه السطور سيضحك بمرارة، وسينعتني بالسذاجة، بل وربما بالحمق أيضاً! لكن بالنسبة لي سأحضر لمقالتي التالية. فإن مرّت هذه المقالة والتي تليها، ركزت انتباهي على أية نتائج مهما كانت متواضعة.. أما.. أما إن جاءتني الدعوة إلى فنجان القهوة السادة العريق، حملت حلمي معي إلى حيث لا محل للسخرية من سذاجتي وحمقي في كشف حساب خسائري المفتوح..
لكن أهم ما أعلمه، هو أن سوريا إن ضاقت عليّ حتى صارت قبراً، اتكأت على حلمي، فإذا بها أجمل وأرحب الأوطان.. بالحلم فقط يفارق المرء الزمان.. يفارق المكان.. فيصل إلى ما بعد أجيال.. يصل إلى حيث يتصل ما تقطّع من علائق بين السلطة والثقافة، فتتعقلن وتتقونن الأولى، وتتجذّر وتتأصل الثانية في المجتمع والدولة..
هي الأحلام! ولربما صحّ ذات يوم أن يُعرّف بالحيوان الحالم الإنسانُ..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى