صفحات أخرىميشيل كيلو

الهروب إلى ماضٍ مُتوهَّم

ميشيل كيلو
أحدث مسلسل “باب الحارة” السوري رجة هائلة في الوطن العربي، بدا معها وكأنه انعطافة حقيقية في علاقة الدراما العربية بالوعي العام والشعبي . وقد بلغ من تأثير المسلسل أن صار الفلسطيني يرى فيه مسلسلاً فلسطينياً، والأردني عملاً أردنياً، واللبناني نموذجاً للدراما المطلوبة لبنانياً، بينما اندفعت الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية إلى التركيز عليه والتحدث عنه طوال أشهر وسنوات، ما حول نجومه إلى أبطال شعبيين قلدهم كثير من الناس وتماثلوا معهم ورددوا عباراتهم وأقوالهم، وأظهروا اهتماماً عاماً بتفاصيل حياتهم، فبدوا وكأنهم احتلوا في مشاعر وعقول العرب المكان الذي يحتله عادة الزعماء القوميون والوطنيون: أبطال الاستقلال والمقاومة والتحرير، ورموز الكبرياء الوطني .
إلى هذا، أثار المسلسل نقاشاً واسعاً حول هويته، فقال بعضهم: إنه تاريخي . وقال بعضهم الآخر: بل هو واقعي . وزعم فريق ثالث أنه اجتماعي . بينما أكد فريق رابع أنه مسلسل سياسي، ورأى فيه خلق كثير مسلسلاً جامعاً عالج كل أمر من أمورنا، فمن الخطأ مقارنته أو مقايسته بأي عمل آخر، درامياً كان أم فنياً، مرئياً أم مقروءاً أم مسموعاً . إنه عمل فريد ونسيج وحده، وحبذا لو أكثر التلفاز السوري من حلقاته – صرنا في الحلقة الخامسة – أو كرر عرضه .
اختلف الكتاب والنقاد والمعلقون في تفسير الصدى الهائل الذي أحدثه المسلسل، والإجماع الذي انعقد له وشمل سائر فئات الناس: من أقلهم إلى أكثرهم علماً، ومن أشدهم فقراً إلى أكثرهم ثراء، ومن قرويهم إلى بدويهم إلى مدينيهم . هز المسلسل وجدان الجميع وخاطب مشاعرهم، فبدا وكأنه سد فجوة في وجودهم، وقدم لهم ما كانوا يتلهفون إلى امتلاكه ويتشوقون إلى استعادته من حقيقتهم المغيبة، وجعلهم مشاركين بصورة ما في أحداثه، فلا عجب أن تفاعلوا معه وأن رأوا فيه ضرباً من تبني وإشهار ما هو مكبوت وخفي في أنفسهم، ويحوّل خوفهم دون الإفصاح عنه، فجاء المسلسل ليعبر عنه بأكثر الصيغ وضوحاً وعلانية وتكاملاً، مع إبقائهم خارج قبضة الخطر، فهم مجرد متفرجين يتابعون صور واقع فني مواز لواقعهم الفعلي، انغمسوا فيه وتماهوا معه، لكونه واقعاً وهمياً وحقيقياً، آمناً و”يفش الخلق”، متخيلاً وأصلياً، ينتمون إليه من خارجه، وينتسبون إلى واقعه المناقض لواقعهم الحقيقي المفروض عليهم، والذي يظل برّانياً بالنسبة إليهم، وإن تظاهروا بالانخراط فيه والقبول به .
هذا التوازي مع الواقع، هو مصدر قوة المسلسل وسبب طاقته التأثيرية . ومع أنه يقدم واقعاً وهمياً بكل معنى الكلمة، لا وجود له ولو من بعيد في واقع سوريا الراهن، فإنه يلعب لعبة ذكية تجعل مشاهده يعتقد أن هذا الواقع الوهمي كان قائماً ذات يوم في ماضيه القريب، وأن باب الحارة لا يختلقه أو يفبركه، بل يكتفي باستعادته وبرسم تفاصيله، لتعريف المشاهد إليه كماض خاص به، كان موجوداً بالفعل، فهو إذاً، قابل للاستعادة، في الوعي والواقع، وأن استعادته في الوعي شرط استعادته في الواقع، فإن كانت استعادته الفعلية صعبة أو مستحيلة، فلا أقل من أن يعيش المشاهد استعادته الفنية، خلال عرض حلقاته التي تتكفل بإخراجه من عالمه القاسي الظالم إلى عالم درامي إنساني/ تواصلي ورحيم، حكومته من الشعب العادي، تتكون من أبو فلان وأبو فلان وفلان من أبناء الحارة، يعرف المرء هويتها وأشخاصها، ويرى بأم عينه بعدها عن التعسف والأفعال الكيفية  التي تمارسها حكومته الواقعية، ويكون هو نفسه في الأغلب ضحيتها، بينما زعيم هذا العالم من لحم ودم، ملموس ومشخص وفي متناول الجميع، يمكن لأي كان الوصول إليه في أي وقت يشاء، لإسماعه ما قد يكون لديه من شكاوى، فهو زعيم بلغ مكانه بفضل مزايا ومؤهلات وضعته تحت تصرف الناس وفي خدمتهم، اختاره أهل الحارة من بينهم، يعرفه القوم ويعرفهم، ويطلب رأيهم ويأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ولا ينفرد برأي أو قرار، بل يشاور “أكابر الحارة وعقّالها” في كل شأن . إنه منهم وإليهم، كما يقول أبطال المسلسل، وهم على باله وفي خاطره، مصلحتهم – لا مصلحته الخاصة أو الشخصية – هي التي توجهه وتملي خطواته، ولا رهان له غير رهاناتهم، فهو ليس فقط رمزهم، بل كذلك محقق العدل والعدالة في مجتمعهم (حارتهم)، لذلك تراه يتابع – في تقليد واضح وحرفي لسلوك سيدنا عمر، رمز الحاكم العادل عند العرب والمسلمين – شؤون فقرائهم، ويهتم لما يطرأ على أيامهم من مفاجآت ونوائب، أو ينشب في ما بينهم من خلافات ويواجههم من مشكلات، ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم، وهو يتصدى لمصاعبهم بالنيابة عنهم أو بمعونتهم، باذلاً في سبيل خلاصهم منها ماله وجهده، لذلك يكون أكثرهم سعادة متى تخطوها، وأكثرهم قلقاً إن علقوا فيها . هذه هي صورة الذين هم فوق، أهل الحكم والمشورة . أما من هم تحت، فهم يشكلون مجتمعاً متآلفاً منسجماً، تقتصر منغصاته على مشكلات شخصية عابرة سرعان ما تحل، لا تعكر صفو الجماعة ولا تخرجها عن مسارها الحياتي الآمن . وهم كذلك جماعة لا تعرف الظلم، إن جاع أحد منها سارع الجميع إلى إطعامه، أو نزلت بأحد نازلة تسابق الجميع إلى مواساته وشد أزره، فالإنسان في تفاعل وتواصل دائم مع غيره، وهو ينال حقه من العيش والكرامة، بغض النظر عن أحواله الخاصة، وينعم بقرب زعمائه منه ووجودهم الملموس في حياته، وبالوحدة العميقة والأخوية التي تربط المنتسبين إلى “حارة” تسوسها أعراف وتقاليد يعرفها كغيره، ويخضع لها طوعياً كسواه، بينما يخلو عالمه من مؤسسات حكم قهرية، وسياسات تمييزية، ومراتب طبقية أو متعادية . إنه مجتمع الحق الطبيعي، الذي يصنعه ويقرر شؤونه أبناؤه الطبيعيون والمتساوون، ويجب أن تتكفل استعادته درامياً بتذكير المشاهد بما كان في ماضيه من عدالة ومشاركة وحرية وكرامة وعدل، وبدفعه إلى مقارنته مع ما هو قائم في راهنه من أوضاع وعلاقات .
يرسم مسلسل “باب الحارة” صورة عالم لا وجود له يريد للمشاهد أن يرى فيه عالمه الحقيقي، وأن يضعه في مواجهة عالمه الواقعي الذي لا يقول شيئاً عنه، تاركاً إدانته لمخزون المشاهد المعرفي والشعوري، ولخبرته الملموسة . والقصد: إثارة الاقتناع بتناقض هذين العالمين وباختلافهما، والشعور بأن على مشاهده الفرار من عالمه الواقعي إلى عالمه الوهمي: ليستمد منه مواقفه، أو ليريح نفسه لبعض الوقت . إنهما عالمان: واقعي يخلو مما يدل على الماضي، ووهمي ينتمي إليه، فيه كل ما يرغب الإنسان في امتلاكه: الفسحة الشخصية المحفوظة، والكرامة المصانة، والمشاركة المكرسة، والتواصل البسيط والمباشر والندي، والعدل والعدالة، وسلطان “الزعيم والأكابر” الخالي من السطوة والعنف، الملموس والقادر على حفظ الجماعة وتوازنها الحي . لا عجب إذاً، أن يكون المتوهم قد تغلب عند المشاهد على الواقعي، وأن يبدو وكأنه يزيحه من الواقع: بالتوهم الذي لا يغير شيئاً منه، بل ويوطد سلطانه، بعد فترة تماه عابر مع ماض لا يقبل الاستعادة، لأنه بكل بساطة لم يوجد أصلاً .
هكذا لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، ولا يتغير شيء في الواقع، ويصير الماضي ما كانه دوماً: مهرب المظلوم من ظلم لا يعرف كيف يتخلص منه، ولا يملك أدوات مواجهته والجرأة عليه .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى