صفحات مختارة

منظومة الفساد بوصفها أعمق وأقوى من السياسات…

إبراهيم غرايبة *
ثمة حاجة لإدراج الفساد موضوعاً للعلم والتدريس مثل «الجريمة والمخدرات» على سبيل المثال، وأن يتشكل وعي مجتمعي وثقافي للمسألة، لأنها ليست عمليات ساذجة وبسيطة يمكن إدراكها بسهولة، كما أنها أيضاً ليست فنوناً ومهارات معقدة لا يعرفها إلا الراسخون، ولكن الفساد منظومة من الإجراءات والسياسات والثقافة والسلوك يمكن السيطرة عليها ومواجهتها، ليس فقط بالإجراءات المشددة، ولكن بالوعي المجتمعي والثقافي والإداري والقيادي.
لقد ثبت دائماً أن التشدد الزائد في الإجراءات والسياسات والعقوبات في مواجهة الفساد يؤدي إلى المزيد منه. فالمؤسسات العامة والخاصة والمجتمعات تعمل في بيئة من القوانين والسياسات والثقافة والقيم والأخلاق، وما يتقبله الناس من الفساد تصعب مواجهته بالقوانين والعقوبات، وما يرفضونه ويجمعون على مواجهته تسهل مواجهته والقضاء عليه.
ويبدو لي أننا نمتلك رغبات ونيات حسنة، ومؤسسات وخبرات وتشريعات متقدمة وكافية في مواجهة الفساد أو الوقاية منه. ولكن الانطباع السائد أننا نعاني حالة فساد تضر بالقاعدة الأساسية للعدالة والأعمال والتنافس، ولم تنجح المؤسسات والتشريعات والجهود والأموال المبذولة في تحقيق شعور بالثقة والعدالة والرضا حول الاختيار والتوظيف والعطاءات والتنافس على الفرص، وذلك يصيب الموارد والنمو الاقتصادي بضرر كبير.
والأسوأ من ذلك بكثير أنه يلحق ضرراً بالغاً بالنسيج الاجتماعي والثقافي، ويضعف الأداء العام للمؤسسات كلها، سواء في القطاع العام أو الخاص أو المجتمعي، لأنه وببساطة لا يمكن الاعتماد الكامل على القوانين والرقابة والمتابعة والشكاوى في مواجهة الفساد. فتلك منظومة للوقاية والردع والمحاسبة وليست للتنظيم والإدارة. فالأعمال تؤدّى وفق تقاليد عمل روتينية وسائدة ويجب ان تكون معروفة ومتفقاً عليها بين الإدارة العامة والمواطنين، وأن يكون اللجوء المؤسسي إلى القوانين والتشكي استثناء نادراً.
الخطوة الأولى هي أن يشعر المواطن أنه قادر على إيصال صوته، أو أن صوته مسموع، ولكنه إذا كان عاجزاً عن ذلك، فإن حالة من الشعور بالاستعلاء على المواطنين والشعور بالتالي بالظلم والقهر ستضرب الأعمال والمؤسسات والعلاقات مثل الوباء، وستكون كلفة إصلاحها واسترداد ثقة المواطن عالية جداً، وربما لن تعود أبداً.
وربما تكون المجتمعات هي الحلقة الأكثر أهمية في مكافحة الفساد من مؤسسات الرقابة والتفتيش والضبط الإداري والتنظيمي والمالي. والعقد الاجتماعي اليوم للدول يعتمد على مثلث متساوي الأضلاع، قوامه: الحكومات (القطاع العام) والقطاع الخاص، والمجتمعات. وبالطبع، فإن المجتمعات لم تكن غائبة على مدار التاريخ في العمليات السياسية والاقتصادية والثقافية، ولكنها في ذلك كانت تضعف وتقوى، وتختفي وتظهر، وفي الحضارة العربية الإسلامية كان المجتمع هو صاحب الفضل وله الدور الأكبر في المنجزات الحضارية والعلمية التي قدمتها الحضارة العربية الإسلامية.
وفي مرحلة الدولة الحديثة تولت السلطة التنفيذية معظم دور المجتمعات في التعليم والخدمات والإدارة، وهي في ذلك وإن حققت منجزات تنموية كبيرة، فقد أضعفت المجتمعات وجعلتها تابعة للسلطة، وفي مرحلة الخصخصة، عندما أسندت الدولة جزءاً كبيراً من أدوارها وخدماتها للقطاع الخاص، أدى ذلك إلى جملة من التحولات العميقة وتطبيقات جديدة ومتنوعة ومعقدة من الفساد، والذي لم تعد مكافحته مرتبطة بإصلاح أو مراقبة الأداء المالي والإداري للحكومة والقطاع العام.
أصبحت عمليات مكافحة الفساد مرتبطة بالمجتمعات باعتبارها شريكاً في المسؤولية والعقد الاجتماعي، ومستهلكاً لكثير من السلع والخدمات، ولمواجهة أنواع معقدة وجديدة من الفساد لا يمكن مواجهتها بغير المجتمعات، مثل التحالف والشراكة بين السلطات التنفيذية والقطاع الخاص على حساب الأفراد والمجتمعات، وضعف مستوى الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص، ومواجهة الاحتكار وعدم العدالة في أسعار أو جودة الخدمات التي تخلى القطاع العام عن توريدها وتنظيمها، هذا إضافة إلى الأدوار السابقة والتقليدية المفترضة للمجتمعات في المشاركة والعمل العام والموازي للسلطات والقطاع الخاص.
لكن، لا يمكن أن تؤدي المجتمعات دوراً مهماً في مكافحة الفساد وهي ضعيفة ومهمشة، ولذلك فإن تمكين المجتمعات يعتبر هدفاً مباشراً وضرورياً في كل عمليات مكافحة الفساد.
يعني تمكين المجتمعات؛ قدرتها على تنظيم نفسها وإدارة مواردها وحقوقها واحتياجاتها الأساسية والقدرة على التأثير والمشاركة في الحكم والسياسات والتشريعات، على النحو الذي يوسع خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجعل مؤسسات الحكم والإدارة العامة أمينة وقادرة على التعامل مع التفويض الذي منحه المواطنون لها للتصرف بالموارد والضرائب العامة وفق مصالح المواطنين واتجاهاتهم، ويمكّنها (المجتمعات) من تحقيق توازن مع السلطات والمؤسسات ومن محاسبة هذه المؤسسات ومراقبتها وتوجيهها… وفي الوقت نفسه، فإن التحولات والتغيرات العالمية، القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، تعطي المجتمعات والطبقات الوسطى فرصاً جديدة، تجعلها قادرة على التحرك والمشاركة وحماية نفسها من استغلال السلطات التنفيذية والشركات واعتداءاتها على المجتمعات والأفراد.
ولكن يقع اختلاف في كثير من الأحيان إن لم يكن دائماً بين أهداف أو مصالح المجتمعات والحكومات، الحكومات باعتبارها مؤسسة للحكم والإدارة، أو باعتبارها طبقة اجتماعية واقتصادية، ويفترض أن يؤدي هذا الجدل بين المصالح والأهداف إلى حلول إبداعية في الحكم والإدارة، ولكنه في كثير من الأحيان يؤدي إلى مشكلات مزمنة وراسخة تعوّق الإصلاح وتكرس الفساد.
تميل الحكومات بطبيعة الحال إلى تقديم أفضل صورة عن أدائها ومنجزاتها. وفي استخدامها لمعلومات وأدوات قياس صحيحة تحاول أن تشكل اعتقاداً بالإيجابية أو شعوراً بالرضا، وتميل المجتمعات إلى ملاحظة النقص والتطلع الدائم إلى أهدافها المثالية والكبرى ومقارنة الواقع بهذه الأهداف والتطلعات، وبسبب ذلك فإنها تميل إلى النقد والتشاؤم.
في دراسة التقارير والإحصاءات، على سبيل المثال، تحاول الحكومة تزيين الإنجازات ومقارنتها بالسنوات وبالدول (الأقل حظاً). وفي الوقت نفسه، فإن المجتمعات تدعو إلى جسر الفرق والفجوة بين الواقع والتطلعات. ولأجل ذلك، فإنها تقلل من شأن الإنجازات، وتلاحظ التقصير والخلل، ولكن هذا الجدل والخلاف يفترض أن يؤديا إلى برامج لإدارة الفرق وتعزير الإنجاز، والأهم من ذلك كله أن يوجدا آليات للرقابة والقياس والتخطيط… وفي أسوأ الأحوال وأكثرها شيوعاً للأسف الشديد، فإن الجدل يتحول إلى مزيد من الجهود لأجل العلاقات العامة وتقليل الحريات والشفافية.
وتسعى الحكومات إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتقيس أداءها ونجاحها بقدراتها على زيادة الاستثمارات، ولكن المجتمعات تنظر إلى الاستثمارات الأجنبية بحذر وريبة، وتراها غالباً عبئاً على الموارد والمرافق العامة، وخطراً على الاستثمار الوطني، وربما تكون بحد ذاتها نوعاً من الفساد، ويفترض أن يؤدي الجدل حول ذلك إلى سياسات في التشغيل والمسؤولية الاجتماعية والإعفاءات والتسهيلات والتنافس تعود على الاقتصاد والتنمية والمجتمعات بالفائدة. ولكن مواصلة النظر إلى الاستثمار الأجنبي بأنه إنجاز تعتز به الحكومة وتدافع عنه في المؤتمرات والدراسات، بغض النظر عن حجم العبء الذي يشكله على الموارد، والفوائد الحقيقية المتأتية منه، يؤدي إلى عكس الأهداف المنتظرة. وتميل الحكومات إلى فرض الضرائب والرسوم ومنع التهريب، ولكن المجتمعات ترى في البضائع المهربة فرصة للحصول على سلع بجودة عالية وأسعار أقل، وبالتالي خدمة للاقتصاد، وأساساً لاقتصاد غير منظور يساهم في التنمية والتشغيل وخدمة المواطنين، ويفترض أن يؤدي ذلك إلى تعديل سياسات الضرائب والجمارك على النحو الذي يخدم المجتمعات وليس فقط لأغراض الجباية. وهكذا، فإن ملاحظة الاختلاف في الأهداف والمصالح تنشئ ديناميات جديدة تطور الأعمال والسياسات، ولكن ذلك لا يحدث تلقائياً، فقد يؤدي إلى الانفصال والإفشال.

* كاتب أردني.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى