هناك طريقتان لفهم أو قراءة التاريخ
مازن كم الماز
هناك طريقتان لفهم أو قراءة التاريخ : واحدة تعتبره نتاجا لأفراد عباقرة و أخرى تعتبره نتاجا لفعل الجماهير الخلاق كأفراد و مجموعات . الرؤية الأولى لا ترى بالتالي أي دور للجماهير أكثر من إتباع هؤلاء الزعماء و هنا يصبح التاريخ مجرد انعكاس للنزاعات بين القادة , بين الشريرين منهم و الجيدين , و لو أن هذه العملية التي هي عملية ليست سهلة و عسيرة غالبا تشبه تماما عملية التنافس بين رجال الدين و الأنبياء , بين المزيفين منهم و “الحقيقيين” , حيث الناس , المؤمنين هنا , منفعلين تماما أمام أحداث هذا التنافس الذي يقوم على تشويه سمعة “رجال الدين” المزيفين أو “النبي” المزيف أو “الزعيم” اليساري الشرير و المتآمر و المهرطق و تنتهي بانتصار رجل الدين أو النبي أو الزعيم أو القائد “الحقيقي” فالمنتصر دوما على حق و هو “الزعيم الحقيقي” من دون شك و هو في وضع يسمح له بكتابة ( أو إعادة كتابة ) كل ما جرى و تفاصيل الخلاف السابق بحيث يؤكد زعامته الروحية أو السياسية أو الفكرية التي لا “جدال فيها” . لكن هناك طريقة أخرى لقراءة التاريخ تراه نتيجة فعل ملايين البشر و نضالاتهم و صراعهم الدؤوب و العنيد مع مصيرهم المقرر سلفا في إطار علاقات الإنتاج و السلطة السائدة . لا يرى أكثر المثقفين النخبويين هذا الصراع المستعر تحت سطح الخلافات الحادة بين النخب و الأقليات المتنافسة لأنه صراع بعيد المدى و نتائجه لا تنكشف إلا عبر تاريخ طويل من المقاومة الجماهيرية و التضحيات شبه اليومية , عبر عملية تعلم تجري على مستوى الشارع لحقائق العلاقات الاجتماعية الإنسانية و كيفية الظفر بالحرية , عبر عملية إعادة كتابة مستمرة للفكر و السياسة تقوم بها النخب السائدة أو من يحل مكانها أو من يخدمها لمحاولة احتواء نجاحات الجماهير أو انتصاراتها الصغيرة و الكبيرة أحيانا و الأهم لروح مقاومتها و سعيها وراء حريتها الفعلية . أما الأسلوب الأنجع لتحديد الزعيم اليساري أو القومي أو الديني الحقيقي من المزيف , الجيد من الشرير , يعتمد غالبا على نفس طريقة تمييز النبي المزيف من الحقيقي الذي يوحى إليه أو رجل الدين الصحيح “المؤمن” من المزيف “الكافر” , هذه الطريقة يختصرها الحديث النبوي : “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد” ( أي من لم يلتزم بتفاصيل الخطاب السائد بحرفيته فقد ارتد عن الدين , و يوازي الدين في هذا الحديث أية إيديولوجيا أو قراءة سائدة لمفهوم الوطن أو الأمة أو الشعب مثلا في القراءات العلمانية المعاصرة ) أو “إياكم و محدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة” ( و أضاف البعض : و كل ضلالة في النار ) . قد يكون هذا السلف الصالح إسلاميا أو دينيا من أي الأديان أو ماركسيا أو قوميا أو أي شيء آخر . إن تحويل السلف – الماضي إلى سلطة مطلقة غير قابلة للنقد أو النقاش هو في الحقيقة تعبير عن سلطة واقعية زمانية راهنة , سلطة قوى محددة بعينها . هكذا لا تصبح أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد , و لا يكون أفضل البشر أو أجملهم أولئك الذين لم يولدوا بعد كما قال ناظم حكمت , بل ذلك السلف الصالح و أيامه . يصبح الناس أسوأ و أقبح كلما ابتعدوا عن أيام السلف الصالح ناهيك عن محاولة نقد ما قاله و فعله هذا السلف , ليس أمام الناس بالتالي إلا أن يلتزموا حرفيا بما قاله و فعله السلف الصالح . يستخدم الفكر السلفي , من كل الإيديولوجيات , تقريبا ذات الوسائل و المقاربات الفكرية : يمكن فقط الرجوع إلى هذه الكتب و تلخيص الأفكار الرئيسية فيها لنتعرف على هذه الوسائل و المقاربات :
– الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية , هذا السيف المسلول يرفع ليس فقط على شاتم الرسول , بل على أي نقد يوجه ضد أي زعيم , أي رجل دين أو إيديولوجيا دينية الجوهر أو المضمون سواء أكانت دينية الشكل أو ماركسية أو قومية أو وطنية أو ليبرالية بوشية أو أتاتوركية . لا يحتاج ابن تيمية إلى كثير عناء لتبرير حق استخدام مثل هذا السيف , يكفي بعض الأحاديث المنسوبة إلى “الصحابة” أو الأفعال المنسوبة إلى الرسول و تنتهي القصة , يصدر ابن تيمية الحكم بالإعدام على من يتجرأ على شتم الرسول , مع ملاحظة أن الشتم ليست عملية تفكير حرة بعد أو إعادة تشكيل حرة للعالم , الأمر الذي يسمى في عرف الفكر السلفي بإتباع الأهواء أو التحريفية عند البعض الآخر , إنها عملية تحطيم للأصنام تماما كما فعل إبراهيم الخليل في الكتب التي تسمى سماوية عندما حطم الأصنام التي كان قومه يعبدونها , إنها لذلك عقوبة وقائية على طريقة الحرب الوقائية لجورج بوش , لمنع أي تفكير مستقل , لإجهاضه في مهده قبل أن يصبح ثورة على الماضي و سلطة الحاضر التي تستخدمه كمبرر لقمعها و ديكتاتوريتها , محاولة وقائية لمنع أية محاولة لتحطيم الأصنام العاجزة عن رد الشتائم عن نفسها فتحتاج لسيوف بعض الجلادين القتلة المتعطشة لدماء الهراطقة . تنتصب الأصنام – تماثيل الطغاة في كل مكان , و هي جميعا تختبئ خلف سيوف على شاكلة السيف الذي تحدث عنه ابن تيمية .
– الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع و الزندقة و يليه كتاب تطهير الجنان و اللسان عن الخطور و التفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان لابن حجر الهيتمي الأنصاري . هذه الصواعق المحرقة على أهل البدع و الزندقة تناقش قضية رجل الدين – النبي – الزعيم الحقيقي من المزيف بواسطة طريقة لاعقلانية تقوم على أحاديث منسوبة للزعيم الأول – لأول ذلك “السلف الصالح” ( للغرابة قد يكون هذا السلف الصالح كارل ماركس نفسه بالنسبة للبعض في ذروة لعملية تديين الفكر اليساري أي تحويله إلى دين غير سماوي لكنه كلي القدسية ) , لتحسم أي نقاش بشكل غير عقلاني لصالح سلطة ما , من “الأئمة من قريش” إلى “اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر و عمر” ( الصواعق , ص 31 ) ثم “أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي” ( الصواعق , ص 85 ) و من ثم “حب أبي بكر و شكره واجب على أمتي” ( الصواعق , ص 92 ) لتنتهي أخيرا إلى “إذا أنا مت و أبو بكر و عمر و عثمان , فإن استطعت أن تموت فمت” ( الصواعق , ص 95 ) . ( هذه كلها أحاديث “مثبتة الصحة” تماما مثل التأريخ الرسمي الستاليني لتاريخ الحزب الشيوعي الروسي و ثورة أكتوبر الذي أعد بشكل كاريكاتوري ليظهر التاريخ فقط كتناقض ساذج غبي بين الزعماء الحقيقيين واجبي الطاعة أبطال هذا التاريخ الذي لا يجري شيء في هذا التاريخ إلا نتيجة إرادتهم أو أفكارهم العبقرية و بين الزعماء الشريرين الذين يجب معاقبتهم دون هوادة على شرهم و خياناتهم التي لا تنتهي إلا باستئصالهم على يد الزعيم الحقيقي الظافر , أو التاريخ الرسمي لما يسمى بالأمة العربية الذي صور على أنه من صنع سيوف ما مسلولة كما السيف الذي تحدث عنه ابن تيمية , يجب هنا ملاحظة أن السيف المسلول على الخارج هو نفسه الذي يستخدم لقمع المرتدين و استئصالهم : خالد بن الوليد , و من ثم سيكون في خدمة الملك العضوض , السلطة المطلقة , كما جرى مع ابنه عبد الرحمن الذي كان واليا على حمص و أرسل إليه ابن عفان و معاوية قادة الثورة في العراق لتأديبهم ) .
– تلبيس إبليس لأبي الفرج الجوزي . هنا يجري تأسيس علاقة هذا الفكر السلفي مع الآخر : إنها لا تكتفي بوضع قاعدة “كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة” أو “البدعة أحب إلى إبليس من المعصية” , بل إنها تضع قواعد أكثر تشنيعا , ليس فقط على الآخر بل على عقل الأنا و على حدوده و على صلاحيته حتى في الاستماع للفكر الآخر ناهيك عن أي نقد أو معارضة “لفكر” السلف الصالح , “كان طاوس ( من كبار التابعين ) جالسا و عنده ابنه , فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه و قال : يا بني , أدخل أصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئا فإن هذا القلب ضعيف , ثم قال : أي بني أسدد , فما زال يقول أسدد حتى قام الآخر” ( تلبيس إبليس , ص 17 ) , هذه ليست نكتة , إنها موقف جدي تماما , اسمع المزيد , “مرض سليمان التيمي فبكى في مرضه بكاءا شديدا , فقيل له : ما يبكيك ؟ أتجزع من الموت ؟ قال : لا , و لكني مررت على قدري ( من القدرية , أحد فرق المعارضة الإسلامية التي أعدم بعض مؤسسيها و كفرت و كانت عرضة للقمع و الملاحقة ) فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني ربي عليه” ( ص 19 ) , و أخيرا “قال صاحبنا – يعني الليث بن سعد ( إمام أهل مصر في عصره ) – لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته , فقال الشافعي : إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته” ( ص 20 ) . سيصل رفض الآخر الرهابي القمعي ليس للآخر فقط بل أولا و قبل أي شيء للذات ( أو لأي مدى لاستخدام العقل كأساس لمقاربة فكر الآخر ) نفسها إلى هذه النقطة , لو سار المخالف – الآخر على الهواء , أي لو كانت حجته أقوى من حجج النبي أو الزعيم أو القائد المتبع نفسه و أكثر وضوحا على هذه الدرجة , فسيستمر رفضه و إنكار حجته أيا تكن . هكذا يغلق على العقل تماما , على الإنسان كذات حرة و مستقلة , و يوضع المفتاح في أيدي أجهزة أمن القوى السائدة , هكذا تتوهم القوى السائدة أنها قد هزمت الإنسان داخل البشر و أنها قد أبدت عبوديته ربما إلى الأزل .
لا ريب أن الفكر السلفي من أية إيديولوجيا هو فكر منغلق و متخلف لكن هذا لا يمنح ميزة أو أفضلية صريحة للأفكار غير السلفية , إنها في أفضل الأحوال قادرة على أن تعطي حلولا أكثر مرونة لمشاكل اليوم , هذا لا يعني الكثير , و يجب هنا أن نلاحظ أن كلا الخطابين الفكريين قد استخدما على نطاق واسع من قبل الطبقات السائدة لصالح تعزيز سلطتها , رغم أنه أكثر رجعية لكن يبقى الفرق بين الفكر السلفي و الفكر غير السلفي فرق تقني . إن الفكر المناهض للسلفية يمكنه ( و هو كذلك بالفعل ) أن يمثل مرجعية فكرية و سياسية لديكتاتورية أقلية ما على ظهور الناس…
هناك طريقتان لفهم التاريخ , و بالنتيجة هناك شكلان لممارسة السياسة , شكل يكون فيه على الناس أن يخضعوا لأقلية ما , أن يكونوا مجرد تابعين , أي أن تركز كل السلطة بيد أقلية ما , و هناك طريقة أخرى لممارسة السياسة تكون فيها كل السلطة للجماهير ( في بعض المراحل التاريخية ترجم هذا الشعار إلى شعار كل السلطة للسوفيتيات )…
خاص – صفحات سورية –