سورية: الصين، ماليزيا… أم تشيلي؟
موفق نيربية
من دون إشارة إلى كلمة «الإصلاح»، عادت المسألة الاقتصادية إلى واجهة الاهتمام في سورية، لتنبش بقوة في رماد المسألة الاجتماعية الاقتصادية، ولترجع هذه إلى المقدمة بين قضايا السياسة. الحدث البارز الذي «حرّك» الموضوع هو رفع أسعار الوقود أكثر من 250%. هذه الزيادة -كما أشار رئيس الوزراء عن حق- لا تشكّل إلا نصف المطلوب للوصول إلى السعر العالمي، الأمر الذي يُمكن توقّع استدراكه في ما بعد.
وكانت مفاهيم الإصلاح الاقتصادي والإداري والسياسي ومفهوم التغيير المتدرّج وشعار التطوير والتحديث قد شغلت البلاد خصوصاً بعد منتصف العام 2000. كما حصلت محاولات عديدة للبحث عن «نموذج» يمكن اقتباسه كلّه أو بعضه. كانت الصين الملاذ الأول، ثمّ ماليزيا، ولم نعد نسمع بهما في هذه الأيام.
جوهر البحث كان عن طريقة تجنّبُ النظامَ أيّ مراجعة سياسية جدّية. هنا كانت التجربة الصينية نموذجاً ممتازاً للهروب. في عام 2004 شرح خبير ألماني كبير اسمه ألفريد كرافت لجريدة «الحياة» «ببساطة» فهمه للوضع في الصين: «إصلاح اقتصادي وليس سياسياً. حيث تتشكل طبقة وسطى بعد عشرين سنة تمهد لإصلاح سياسي وديمقراطية». فعشرون سنة فترة معقولة، لأنها تقارب «الأبد».
وكان مسؤول سوري كبير قد أشار بوضوح إلى ضرورة الإفادة من نموذج الصين القائم على «استقلالية القرار الوطني» وعدم السماح لأي جهة خارجية بالتدخل في الشؤون الداخلية.
تقوم التجربة الصينية على مبادئ خمسة هي على الترتيب: التنمية العلمية، والمتناغمة، والإبداعية، والعامة، والسلمية. ولا يمكن ترجمة هذه المفاهيم إلى اللغة العربية، فكيف إلى اللهجة السورية!
الصين بلد كبير واقتصاد هائل، ولديها حزب عملاق يقوم بعمله، وطبقة بيروقراطية تعمل وفق ضوابط، وسيادة للقانون، وسوق كبيرة جداً تكفيها، وسياسة خارجية سلمية متوازنة… ثم هي الصين قبل كل شيء، ولا يُطلب العلم فيها إلا كمثال على اجتراح المستحيل.
ثمّ ساعد -ربّما- تعبير «النمور»، والإسلام المشترك، والاستبداد المقنّع بذكاء، والغيرة الإيجابية والطمع الخلاّق والاستعجال، على الهروب أيضاً باتّجاه التجربة الماليزية. فذهبت وفود وجاءت وفود، وقام مهاتير محمد نفسه بإلقاء دروس في التجربة الماليزية أمام السياسيين والإداريين ورجال الأعمال في دمشق. وعبثاً بالطبع. فذلك البلد الذي استقلّ في عام 1957؛ المتخمّر كولونيالياً، والوارث لإدارة متطورة في المالية والجباية والقضاء أسّس عليها تطوره الإداري؛ وقام باجتذاب الاستثمارات الأجنبية بشراهة، وإرسال مئات الآلاف من الطلبة إلى الغرب -وعادوا- واستطاع التوفيق بين الأقلية القوية اقتصادياً والأكثرية المهيمنة سياسياً، ولم يخشَ التطور الديمقراطي، والشفافية والانفتاح… ذلك البلد مختلف في بدايته ومساره ومآله.
وظهر كأن النخبة الحاكمة في سورية قد عادت إلى النَسَق الصيني، ولكن مع الاختزال والتعديل الذي قامت به خبرات ألمانية. تجربة صينية بالألمانية.
فابتداءً من خبرة كرافت المذكور أعلاه، عملت مجموعة بحث ألمانية على الاقتصاد السوري وأزمته، وتوصلت في خريف العام الماضي إلى تقرير من بضع وخمسين صفحة، توصي فيه بخفض العجز المالي في الموازنة عن طريق: إلغاء الدعم كلياً، وتخفيض الاستخدام في القطاع العام، وتطوير العائدات غير النفطية والضرائب خصوصاً، وتوجيه التمويل العام المحدود أساساً إلى القطاعات الأكثر مردوداً.
التقرير فظّ غليظ القلب، لا يذكر شيئاً من تعبيرات المجتمع المدني وحقوق الإنسان واستقلال القضاء التي تملأ دائماً أي دراسة محايدة عن سورية واقتصادها، إلاّ أن هنالك أشياء أخرى صعبة، مثل النظر في من سيتضرر من هذه البرامج، ومن سيستفيد. لأن صدمة مثل هذه لن تستطيع السلطة احتمالها وحدها، ما لم يكن الشعب متفهّماً، وهذا غير ممكن في غياب الحريات وحكم القانون والشفافية. أو ما لم تستفد شرائح اجتماعية مؤسسة على البيروقراطية، نمت في حضن النظام وعاشت معه، وهذا أيضاً غير ممكن، فالإجراءات تستهدف مصالح هذه الشرائح بالحديث عن فائضها وقلة كفاءتها وغير ذلك. هكذا يبدو النظام وكأنه اختار النمط التشيلي في الإصلاح الاقتصادي.
في ذلك النمط، قاد نظام بينوشيه التسلّطي عملية التغيير، وألغى التأميم عن شركات مناجم النحاس، ثم أعادها في فترة أخرى. ومنع النقابات العمالية وحدّ من حركة المجتمع المدني، واستعان بعصبة أكاديميين أميركيين أطلق عليها لقب «صبيان شيكاغو»، وعاش مرحلة انتقالية طويلة لا يظهر منها على السطح إلا ّ نخبة أمنية وأخرى رأسمالية، تتناغمان.
تلك التجربة أيضاً، رغم أنها كانت في أيام الحرب الباردة، لم تعش عشرين عاماً من دون انتقال اجتماعي سياسي حقيقي. وقادها بينوشيه، نسيج وحده!
لو لم يكن أستاذنا عارف دليلة سجيناً، يعاني المرض والقسوة والعزلة، لقال شيئاً!
* كاتب سوري