إيران على عتبة النادي: هل للسلاح النووي دين ومذهب؟
صبحي حديدي
لم تدخل إيران النادي النووي، بعد، رغم تشغيل مفاعل بوشهر مؤخراً، ولكنها اقتربت خطوة أخرى نوعية على طريق نادي النخبة الأثير ذاك، شاء القيّمون على قواعد التنسيب إليه، أم أبوا. فمن جانب أوّل، تظلّ قضبان الوقود النووي التي استُخدمت في التشغيل روسية الصنع والملكية، والبروتوكول ينصّ على إعادتها إلى بلد المنشأ بعد الاستخدام، رغم ما يتردد عن احتمال تمكّن إيران من انتاج الوقود النووي ذاتياً، عبر خلال تنشيط آلاف من أجهزة الطرد المركزي المتوفرة في منشأة نطنز. ومن جانب ثانٍ، لا ترقى نسبة تخصيب الوقود النووي، الذي ستؤمّنه القضبان الروسية لتشغيل مفاعل بوشهر، إلى المعدّل المطلوب لصناعة السلاح النووي، أي نسبة أعلى من 90 في المئة.
وأخيراً، ما دامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمارس الرقابة اللصيقة على هذا المفاعل، أو أي مفاعل إيراني آخر، بموجب البروتوكول الموقع مع روسيا أساساً، فإن انتساب طهران إلى النادي النووي يظلّ ناقصاً ومنتقَصاً، ويقتضي خطوات أخرى أكبر.
.. محفوفة بمخاطر أشدّ، في الواقع، وربما أبعد أثراً وعاقبة من تلك البرهة، يوم 7/6/1981، حين دكّت القاذفات الإسرائيلية مفاعل تموز العراقي؛ أو البرهة الأخرى، يوم 7/9/2007، حين دمّرت قاذفات إسرائيلية مماثلة موقعاً عسكرياً في الخبر، قرب مدينة دير الزور السورية، وتردد أنه مفاعل نووي قيد الإنشاء. وإلى جانب التهديد، الذي لا يهدأ التلميح إليه حتى يشتدّ مجدداً ويشتعل لهيبه أكثر، بضربة عسكرية قاصمة، إسرائيلية أو أمريكية أو حتى أطلسية؛ ثمة ذلك الخطاب الآخر الذي يضع البرنامج النووي الإيراني في قلب ما يُعرف باسم ‘الحرب على الإرهاب’، من جهة؛ وفي جوهر مخاطر ما يُسمّى ‘الإرهاب الإسلامي’، من جهة ثانية؛ فضلاً عن البلاغة المعتادة حول واجبات الغرب في حماية الحلفاء.
ففي خطبة حول السياسة الخارجية، ألقاها خلال اجتماع مع سفراء فرنسا في العالم، أعاد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استهلاك المفردات ذاتها التي يجري اجترارها منذ سنوات، حول مخاطر البرنامج النووي الإيراني: ‘إذا تعذّر التوصل إلى اتفاقية ذات مصداقية، فإنّ عزلة إيران سوف تزداد. وفي وجه تفاقم التهديد، سوف يتوجب علينا تنظيم أنفسنا للدفاع عن الدول التي تشعر بالخطر، وحمايتها’. ورغم أنّ ساركوزي لم يحدّد طبيعة ‘التهديد’، ولم يوضح أسماء ‘الدول’ المهدَدة، فإنّ خلاصات تصريحاته أوحت بأنّ فرنسا ـ بالأصالة عن ذاتها، وبحسب عضويتها في قيادة الحلف الأطلسي، وبصفتها الرئيس القادم لاجتماعات الـ G20 والـ G8 ـ سوف تتولى الدفاع عن السعودية والبحرين والإمارات والكويت واليمن، فضلاً عن إسرائيل بالطبع… الدولة النووية الوحيدة في المنطقة!
وفي جانب آخر من هذا التحريض، ثقافي وفنّي لا ينتظره المرء دائماً، ثمة الشريط السينمائي الوثائقي الجديد ‘العدّ التنازلي لساعة الصفر’، من إخراج لوسي ووكر، والذي يستفتي آراء أمثال جيمي كارتر وميخائيل غورباتشيف وزبغنيو برجنسكي وجيمس بيكر وتوني بلير وف. د. دوكليرك وبرفيز مشرّف وروبرت مكنمارا وسواهم، حول مخاطر السلاح النووي. وإذا كانت هذه هي رسالة السطح في الشريط، فإنّ رسائل الباطن يُراد منها الباطل تحت قناع الحقّ البسيط، وهي بمثابة تحريض مطلق ضدّ قنبلة نووية ذات ديانة واحدة محددة، هي ‘القنبلة المسلمة’، وليس ضدّ مخاطر السلاح النووي في الإجمال.
سوابق هذه الرياضة التأثيمية تكررت مراراً في الماضي، كلما تعالى لغط حول اقتراب دولة إسلامية من امتلاك التكنولوجيا النووية. نعرف، مثلاً، أنّ وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، أحد أشهر الأسماء في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، هو الذي أطلق تعبير ‘القنبلة المسلمة’ في وصف البرنامج النووي الباكستاني. وهو الذي قسّم نوويات العالم على أديان العالم: قنبلة مسيحية في الولايات المتحدة وأوروبا، بوذية في الصين، يهودية في إسرائيل، سيخية في الهند، مسلمة في الباكستان، و… ملحدة في الإتحاد السوفييتي! وقبل عقد ونيف، ولكي لا يحتكر أهل الغرب التعبير إياه، سارع عدد من المعلّقين العرب إلى إطراء التجارب النووية التي أجرتها الباكستان آنذاك، من منطلق مركزي ـ شبه وحيد تقريباً، وبروحيّة الحماس الصوفي ـ هو وضع تلك التجارب في خدمة ‘القنبلة المسلمة’.
وهذه مناسبة ملائمة للتذكير بحقيقة حاسمة، لعلّ البعض يتجاهلها أو يتقصّد التعتيم عليها، تفيد بأنّ البرنامج النووي الإيراني لم ينطلق في عهد الثورة الإسلامية الإيرانية، بل قبل اندلاعها بما يقارب ربع قرن، في أيام الشاه رضا بهلوي. كذلك كان البرنامج جزءاً من ألعاب الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، خلال عقود الحرب الباردة، ولهذا فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت الجهة التي رعت وأشرفت على تنفيذ البرنامج. وأمريكا، وليس سواها، هي التي زوّدت إيران بمفاعل نووي طاقته 5 ميغاواط، وهي التي زوّدته بالوقود اللازم، أي اليورانيوم المخصّب (ذاته… الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها اليوم)، كما قبلت إقامة منشآت لتخصيبه في إيران.
وفي عام 1975 كان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسنجر نفسه، هو الذي وقّع ما عُرف باسم ‘مذكرة القرار الأمني 292’، التي أرست دعائم التعاون النووي الأمريكي ـ الإيراني، بقيمة استثمارية صافية تبلغ ستة مليارات (للمقارنة، لم تقبض موسكو، حتى اليوم، أكثر من مليار ونصف لقاء إسهامها في تطوير البرنامج النووي الإيراني). وبعد سنة فقط، وقّع الرئيس الأمريكي الأسبق جيرالد فورد أمراً إدارياً بتمكين إيران من شراء وتشغيل منشأة تتيح فصل البلوتونيوم (المرحلة الأعلى على صعيد تصنيع القنبلة النووية!)، بذريعة أنّ هذه التكنولوجيا سوف ‘تحرّر ما تبقى من احتياطيّ نفطي، وتضعه في التصدير’. كلّ هذا تمّ بمباركة وحميّة ودعم أمثال كيسنجر، ونائب الرئيس السابق ديك شيني، ووزير الدفاع السابق دونالد رمسفيلد، وأحد شيوخ المحافظين الجدد بول ولفوفيتز…
وأخيراً، في السياق ذاته، لم تكن حكومات ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا والسويد بعيدة عن المساهمة في هذا البرنامج النووي، على نحو أو آخر، وحصلت على استثمارات بمليارات الدولارات من خلال مؤسسة Eurodif الإيرانية. الشركة الألمانية Kraftwerk-Union حصلت على عقد بقيمة 4 ـ 6 مليارات لإقامة مفاعل نووي للمياه الثقيلة في إيران، والشركة الفرنسية شبه الحكومية Cog’ma دخلت في شراكة مع إيران لتأسيس شركة الـ Sofidif لتخصيب اليورانيوم.
استذكار هذه الحقائق يخدم في فهم أولى قواعد الغرب بصدد إدارة الملفّ النووي الإيراني: التكنولوجيا النووية، حتى إذا كانت سلمية وبريئة بلا أظافر ولا مخالب، ممنوعة إلا على الحلفاء، والمقرّبين منهم حصراً؛ وهي مشروطة بأن تتمّ بأيدي الأخوة الكبار في الغرب عموماً، والأخ الكبير الأمريكي خصوصاً وأوّلاً. وحين كانت إيران هي البلد الصديق الحليف، وكذلك البلد النفطيّ الغنيّ واسع الاستثمار في الغرب ومع الغرب، فإنّ التكنولوجيا النووية لم تكن مشروعة طبيعية مطلوبة فحسب؛ بل كانت في الآن ذاته عربون صداقة بين إيران وأمريكا كدولة مقابل دولة، وبين ‘كوجيما’ الفرنسية و’بوشهر’ الإيرانية كشركة مقابل شركة. وحين صارت إيران خصماً، بعد ثورة 1979 تحديداً، انقلب الحال رأساً على عقب في ما يخصّ ذلك التعاون، وبات رجيماً شريراً، عسكرياً، غير سلميّ، لا يسمح به ‘المجتمع الدولي’، وتجب محاربته… بكلّ الوسائل!
والحال أنه من حقّ إيران، وكلّ دولة شرق ـ أوسطية تحديداً، امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض مدنية؛ وحقّها، كذلك، وضع خيار التكنولوجيا النووية العسكرية نصب أعينها، ما دامت إسرائيل دولة نووية، ليس عليها حسيب أو رقيب أيضاً. والإنتساب إلى النادي النووي، والنووي العسكري تحديداً، يبدو ضرورياً بالمعنى الاستراتيجي، في حالات محدّدة؛ وكذلك في تطويق نزاعات لا يفلح في تطويقها إلا ‘خيار الدرجة صفر’، حين يهيمن توازن الرعب على شروط النزاع، وحين يفرض حال التساوي في الحدّ الأدنى من الخسائر الكارثية.
وليس منطقياً اتكاء البعض على اعتبارات أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية، ‘عقلانية’ تارة و’بيئية’ طوراً، صادقة مرّة أو زائفة معظم المرّات (كما هي، تماماً، حال فريق فيلم ‘العدّ التنازلي لساعة الصفر’)، لتوجيه اللوم إلى الهند أو الباكستان أو إيران، بذريعة أنها أحوج إلى التنمية الإنسانية من التنمية النووية، وإلى تطوير الحياة الفعلية في الشوارع بدل تطوير الكابوس النووي في الترسانة. وحتى يأتي اليوم الذي يُجمع فيه النظام الدولي على تنظيم ‘ديمقراطي’ و’عادل’ و’متكافىء’ لشروط الإنتساب إلى النادي النووي، فإنّ من حقّ الجميع الدخول إليه دون حيازة إذن مسبق من الكبار، الذين يحتكرون مجلس إدارته.
لكنّ توازن الرعب هذا ليس له دين أو هوية ثقافية، كما يحلو للبعض أن يفلسف بين حين وآخر، وفي هذه الأيام الإيرانية النووية خصوصاً. وبهذا المعنى فإنّ القنبلة النووية الباكستانية لم تكن، وليست اليوم أيضاً، مسلمة إلا بمعنى محدد وحيد هو أنها أُنتجت في بلد مسلم الديانة، تماماً كما أن القنبلة الصينية ليست بوذية، والهندية ليست سيخية، والأرو ـ أمريكية ليست مسيحية. والقنبلة الباكستانية محلية في الجوهر، إقليمية ضمن نطاق ضيّق يكاد لا يتجاوز معادلات القوّة الثنائية الهندية ـ الباكستانية، أو يتسع قليلاً فقط ليشمل معادلات أخرى ذات صلة بما تبقّى من تراث التحالفات القديمة التي سادت في نظام العلاقات الدولية أثناء الحرب الباردة وسياسات الاستقطاب.
وغنيّ عن القول، استطراداً، إنّ التهليل لهذه القنبلة ـ أو للبرنامج النووي الإيراني، سواء بسواء ـ على أساس الهويّة الدينية، ليس ساذجاً أو تضليلياً فحسب، بل هو مضحكٌ مبكٍ أيضاً، مثير للشفقة، ومؤشّر على حال فاضحة من التردّي والعجز والتعكّز على الآخرين. نعرف الآن أنّ كشمير أولاً، وكشمير ثانياً وثالثاً وعاشراً، كانت في أعلى لائحة أغراض التجارب الباكستانية، ولم يكن هناك أي بند ‘إسلامي’ أو ‘مسلم’ على جدول أعمال الجيش الباكستاني عند إجرائها. وينبغي أن نعرف، في المقابل، أنّ مصالح إيران الوطنية والإقليمية، وموقعها على خريطة القوى الكبرى في الشرق الأوسط الكبير، هي أعلى دوافع البرنامج النووي الإيراني، ولإيران الحقّ في هذا، والفخر؛ وأعلى، بما لا يُقاس، من احتمالات أية أجندات دينية أو مذهبية.
وليس جديداً القول بأنّ منطقة الشرق الأوسط، ضمن هذا التعليل، هي الوحيدة التي تحتاج إلى قنبلة نووية من النوع الذي يحقّق توازن الرعب، ويعدّل انفراد إسرائيل بهذا السلاح، ويضع النزاعات العسكرية خلف خطّ أحمر أدعى إلى تأمّل طويل قبل الإنخراط في الحروب. وهذه القنبلة ينبغي أن تُبنى في الدولة الأنسب سياسياً وحضارياً واستراتيجياً، أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رغم أنّ المرء يتمنى لو كانت مصر أو العراق أو سورية هي التي تمتلك هذه القنبلة أوّلاً. لكنّ التجربة العملية برهنت أنّ هذه غاية محظورة استدعت، وسوف تستدعي، كامل إجراءات الردع والمنع، بما في ذلك القصف المباشر.
فكيف إذا كانت الأنظمة تابعة، راكعة، مستبدّة، وراثية!
خاص – صفحات سورية –