من أفسد الملح؟
الياس خوري
ربما كان العنصر الأهم في مهنة الكتابة الصحافية هواحترام القارئ. فللقارئ كل الحقوق، لأن الكتابة تخاطبه بشكل مباشر. والكتابة الصحافية بالنسبة لي، هي بحث عن تماس بالحدث، واقتراح لموقف يومي يتخذه المثقف، لأن المثقف، كما اراه، صاحب رأي مستقل، هدفه خدمة الحقيقة.
يستطيع الروائي او الشاعر، امام من يسأله لماذا تقول ما لا يُفهم، ان يتحصّن خلف عبارة ابي تمام الشهيرة ويُجيب: ‘ولماذا لا تفهم ما يُقال’؟
لكن كاتب المقالة لا يستطيع ذلك، فالأدب عالم تأويلي شاسع، اما المقالة فموقف، واذا طرح القارئ سؤالا، فعلى الكاتب ان يجيب، مثلما عليه ان يتفاعل مع وجهات النظر المختلفة التي يطرحها القراء.
مناسبة هذا الكلام هو تعليق صدر في ‘القدس العربي’ بتاريخ 17 آب/اغسطس على مقالي: ‘فساد اللغة’. والتعليق بتوقيع ‘عربي ديموقراطي’، وفيه يذكّرني القارئ الكريم بدوري في تأسيس ‘حركة اليسار الديموقراطي’ في لبنان، من دون ان ينسى انني انسحبت مبكرا من الحركة. ومع ذلك فهو يطالبني بنقد ذاتي على ‘فساد الملح في مطبخي’، بحسب تعبيره.
في البدء كنت اتمنى معرفة اسم القارئ الذي يحاسبني او يدعوني الى محاسبة الذات، فمحاسبة الذات يجب ان تكون علنية والا فقدت معناها.
كما انني لا استطيع لوم القارئ الكريم اذا لم تتسنّ له قراءة عدد كبير من مقالاتي، التي نُشرت في ‘ملحق’ جريدة ‘النهار’، وتحدثت عن تجربة ‘اليسار الديموقراطي’. عملت رئيسا لتحرير ‘الملحق’ مدة ثمانية عشر عاما متواصلة. لكن ‘الملحق’، كان يتأخر كثيرا في الظهور على الانترنت، كما ان لا ارشيف له على الشبكة العنكبوتية، وهذا لم يكن مصادفة، بل كان جزءا من سياسة تهميش منظّمة، كانت ترى في ‘الملحق’ منبرا مختلفاً، لم تكن تستسيغه ذائقة بعض ادارة ‘النهار’، خصوصا بعدما تسلمها الاستاذ جبران تويني رحمه الله.
سوف افترض حسن النية واقول ان كاتب التعليق لم تتسنَّ له لأسباب مختلفة قراءة نصوصي، لكنني استغرب مثلا ان لا يكون قد قرأ الرسالة التي وجهتها بالاشتراك مع الصديق زياد ماجد خلال حرب تموز 2006، الى قوى الرابع عشر من آذار، والى ‘حركة اليسار الديموقراطي’، وفيها موقف نقدي واضح من الاداء السياسي لهذه القوى، واعلان لا التباس فيه، بأن المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي هي المسألة الرئيسية، التي يقود التنازل عنها او تهميشها الى الكارثة. وقد نشرت الرسالة في اكثر من صحيفة عربية.
غير ان السيد ‘عربي ديموقراطي’، سقط على الأرجح، في فخ خطاب سائد، يطالبنا بأن ننسى شهداءنا من سمير قصير وجورج حاوي الى حسين مروة ومهدي عامل، وبقية رفاق الألم، في مسيرة المقاومتين: مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ومقاومة انظمة الاستبداد العربية. كما يريدنا ان نتناسى طرد المقاومة الفلسطينية من طرابلس بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وحرب المخيمات، وتل الزعتر، وقافلة كوادر المقاومة الفلسطينية التي سقطت اغتيالا في شوارع بيروت وصيدا خلال الثمانينات، ناهيك عن التصفية الدموية لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
واذا كان من نقد ذاتي مطلوب، فهو لن يكون بالتأكيد مراجعة للموقف من الهيمنة السورية المديدة على لبنان، وهي هيمنة بدأت بضرب الحركة الوطنية العابرة للطوائف والعصبيات، كي تُستبدل بقوى طائفية ومذهبية، ساهمت في اعادة عجلة السياسة اللبنانية الى الوراء، عدا عن ان الموقف من الهيمنة لم يكن، بالنسبة لي، موقفا معاديا لسورية او للشعب السوري، بل كان جزءا من التضامن الأخوي مع المناضلين الديموقراطيين السوريين الذين سجنوا، وبعضهم لا يزال الى اليوم سجينا، دفاعا عن حرية الرأي، وعن حق الشعب في الديموقراطية والحرية عبر ازاحة كابوس قانون الطوارئ.
لكن في المقابل هناك نقد للطبقة السياسية اللبنانية يجب ان يحتل موقع الصدارة، من اجل فهم الواقع السياسي اللبناني. وهو نقد يطاول المعسكرين السياسيين اللبنانيين: قوى 14 آذار وقوى 8 آذار. فالمعسكران اضاعا فرصة بناء الدولة المستقلة بعد حدثين كبيرين: تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005. بدل توحيد الانجازين في مشروع بناء دولة مستقلة، كانت مؤهلة ان تكون الدولة العربية الوحيدة التي لا توقع معاهدة سلام مع اسرائيل، لأنها نجحت في تحرير ارضها بالمقاومة ومن دون قيد او شرط. غرق المعسكران في لعبة الهيمنة المذهبية على السلطة، فانقسمت السلطة بين قوى يتزعمها التيار الحريري، وهي تستند الى العصبية السنية، وقوى يتزعمها التحالف الشيعي: امل وحزب الله. والقوتان تجدان السند والمدد في القوى الاقليمية والدولية المتصارعة على الهيمنة على المنطقة. فصارا امتدادا لقوى خارجية، وصار تجديد تسوية الدوحة في حاجة الى زيارة مشتركة للملك السعودي والرئيس السوري لبيروت، لم يلعب فيها الساسة اللبنانيون سوى دور الكومبارس.
واللافت ان القوتين لا تختلفان على البرنامج الاقتصادي الاجتماعي، بل تجمعهما الليبرالية الاقتصادية التي تسمح لهما بتأكيد الزبائنية، وتجعل المواطن عبدا لطائفته في سبيل تأمين لقمة عيشه، وحقه في المدرسة والطبابة، الى آخره…
سقطت تجربة ‘اليسار الديموقراطي’ ، عندما لم تتمايز عن ‘حلفائها’ المؤقتين في حركة 14 آذار، ولم تكتشف ان القوى الطائفية، مهما اتخذت لنفسها من شعارات، عاجزة عن بناء مشروع استقلالي، لأن شرط البنية الطائفية هو التبعية للخارج.
هنا فسدت لغة هذا اليسار، ومكمن فسادها يتمحور حول المسألة الوطنية، فعندما يجري تناسي ان التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال الاسرائيلي والعنصرية الصهيونية وحلفائهما، تضيع البوصلة، وتصير لغة اليسار لغوا.
لهذا السبب كان انسحابي من ‘حركة اليسار الديموقراطي’ ضرورياً. وعلى الرغم من العلاقة الوجدانية التي حملت اسم دمٍ غالٍ بذله رفيقي واخي سمير قصير، فإن الاستمرار كان خطأ. فالتجربة فقدت بوصلتها النقدية، ولم تستطع دمج نقدها للحريرية الاقتصادية والسياسية في المشروع الاستقلالي، كما لم تستطع متابعة المشروع المقاوم، (التي كان الكثير من كوادرها من مؤسسيه، سواء في المقاومة الوطنية اللبنانية او المقاومة الفلسطينية)، مع رفضها للهيمنة والتبعية.
قد يكون هذا الفشل ابنا لمرحلة هزيمة الحركة الوطنية العربية، خصوصا بعد انهيار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لكن هذا لا يعفينا من تحمل المسؤولية، ومن جعل التجربة جزءا من ذاكرة تتذكر، كي يبقى هناك امل بولادة يسار جديد في المستقبل.
واخيرا، اريد ان اشير الى ان لجوء بعض اصدقائنا من اليساريين الى ركوب موجة المقاومات الاسلامية، يدعو الى الرثاء. اذ بدلا من ان نعترف بان احد اهم اسباب ازمة اليسار تكمن في عدم القدرة على المحافظة على معادلة ترابط مقاومتي الاحتلال والاستبداد، نلجأ الى خزعبلات لفظية، تجعل العلمانيين اصوليين جددا!
هذا الرأي لا يقلل من احترامي وتقديري للمقاومة، مهما اتخذت من اسماء. لكن من يحترم الآخر فعلا، عليه ان لا يتوانى عن نقده، خصوصا اذا كان على اقتناع بأن طريق التحرير والحرية واحد، وان الموقف الوطني يجب ان يتعالى على الانتماءات الطائفية والدينية، والا سقط المشرق العربي في شراك حروب اهلية لا تنتهي، وقُضي على فكرة فلسطين، التي هي اسم آخر للتحرر من الصهيونية والطائفية والعنصرية والاستبداد.
القدس العربي