صفحات مختارة

الصادق النيهوم

محطات في سيرة خصبة
÷ ولد في مدينة بنغازي سنة 1937. وتوفيت والدته بعد أسبوع من ولادته، فعاش يتيم الأم لدى أخواله. ولما بلغ الثامنة عاد إلى والده رجب عبد الرحمن النيهوم البحار والنقابي اليساري.
÷ تلقى دروسه الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في الجامعة الليبية، وتخرج فيها سنة 1961. ثم سافر إلى القاهرة ليعد أطروحته للدكتوراه في «الأديان المقارنة» تحت إشراف عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، إلا أن الجامعة ردت الأطروحة لأنها، بحسب رأيها، معادية للإسلام. فانتقل إلى ألمانيا حيث نال الدكتوراه بامتياز من جامعة ميونيخ.
÷ اتخذ من شخصية «الفقيه» مدخلاً إلى نقد الإيمان اليومي والخرافات والمعتقدات الشعبية الموروثة.
ـ نشر في سنة 1967 سلسلة من المقالات في جريدة «الحقيقة» الليبية بعنوان «الرمز في القرآن». وقد تزامن ذلك مع هزيمة حزيران 1967، ومع كتابات صادق جلال العظم في بيروت. وصدمت هذه المقالات المجتمع الليبي المحافظ، وتُليت اللعنات عليه من منابر المساجد.
ـ عمل أستاذا مساعدا في قسم الدراسات الشرقية بجامعة هلسنكي من سنة 1968 حتى سنة 1972. وفي سنة 1972 جاء إلى بيروت وأقام فيها، وراح يكتب مقالة أسبوعية في مجلة «الأسبوع العربي» التي كانت تعتبر آنذاك أهم مجلة سياسية لبنانية، وربما في العالم العربي.
ـ غادر بيروت إلى جنيف سنة 1976 مع اشتداد الحرب الأهلية، حيث أسس «دار التراث» ثم «دار المختار»، وأصدر سلسلة من الموسوعات باللغة العربية أبرزها «تاريخنا» و«بهجة المعرفة».
÷ أبرز مؤلفاته: «الرمز في القرآن» (1967)، و«الإسلام في الأسر» (1991)، و«إسلام ضد الإسلام» (1994).
÷ توفي في جنيف في 15/11/1994.

الصادق النيهوم: فكر لا يستقيل من خوض المعارك
نصري الصايغ
أمة بلا رأس، كأن، لا عقل لها. تعتاش في السياسة مما يقتل الروح والمعنى، ويقوّض المستقبل، وتضع الشعوب العربية في منعطفات، إما تقود إلى اليأس، وإما إلى العبث، وإما إلى الاستسلام وإما إلى التبعية وإما إلى… الإرهاب والافتتان الداخلي. أمة، هزائم وانهيارات، أسلمت قيادتها لفكر سياسي، لا فكر فيه. إما هو منسوخ عن غرب يروج لسلع من «القضايا» و«الأفكار» و«المفاهيم» بلا مردود، وإما هو استعادة لتقليد بائت، لا حاجة لإعمال العقل فيه، لأنه مضاد للعقل والعقلانية.. وتسير الأمة على هدي عماها، خلف سراب الغرب، أو خلف وهم التقليد، حذو النعل بالنعل، أو على الأصح، حذو النقل بالنقل.. بلا عقل.
الانكسارات العربية، هي ولادة هذا العجز. الهزائم التي أصابت النخب وأقعدتها، دخلت المكان لقيادات سياسية وارثة لذاتها وموروثة لنفسها، بثقافة تمليها سلطات أمنية، قمعية، مالية، محمية، بهدف شل الإرادة، والتعود على «خير الأمور أسوأها».
قارئ الثقافة السياسية الراهنة، على امتداد النتاج العربي، يقع على ما «يدهش العالم»: ثقافة تروّج لقيم الفراغ الكبير، لكلام مصنوع على قياس حاجة الاستلاب المزدوج، لوهم العولمة وأضغاث الماضي. مساحة هذا الفكر السياسي الملتصق بالسلط العربية، مكتظة بلا شيء… كل ما هو جدي وصعب وتقدمي وقومي ويساري وإنساني وإنمائي وأخلاقي ومتحرر وديموقراطي، موجود فقط في الهامش العربي، وقد ضاقت أنفاس هذا الهامش، حتى بلغ مرتبة خنق المواهب، واختناق الإبداع والنقد.
لا مكان ولا مكانة للمفكرين العرب في المتن السياسي. احتل مكانهم الخبراء والفقهاء. الأولون، يلوذون بالنقل عن مراجع «البنك الدولي» ومجلس الأمن الدولي، والشرعية الدولية، ومنظمات النهب العالمية، وأسواق العملات، والبورصات. فكرهم يشبه النقود. الآخرون يلوذون بالنقل عن الكتب السميكة، وسلسلة حدثني فلان عن فلان قال… وليس في الأقوال، ما يدفع إلى إيمان، بل إلى صنمية.
الساحة العربية مكتظة بلا شيء: القومية، حاجتنا الأولى إلى الوجود، ملعونة ومطرودة ومنبوذة ومسخور منها.. الحكم الصالح، حاجتنا الأولى إلى السياسة، لوثة يعاقب عليها الاستبداد.. الثورة على حاجتنا الأولى إلى التغيير، متهمة بالمروق والإرهاب.. النقد، حاجتنا الأولى إلى تجديد المعرفة وتحصين الوعي، لا مكان لها في غث القيل والقال العربيين، المالئ دنيا الإعلام والكتابة.. التربية، حاجتنا الأولى لتأهيل العقل بآليات الكشف والبحث والتفكير والانفتاح والانتظام، تم تحويلها إلى مصنع تفبرك عقولا غرائزية، عصبوية، عنصرية، طائفية، مذهبية، اقوامية، تقول ما قيل، إلى درجة تغار منها الببغاء.
بلاد الفراغ هذه… ليست سوى مقدمة المشهد المعروض أمام الأمة بأسرها. خلف هذه الغلالة السخيفة من الفكر والإعلام، إعلام، تجرأوا دائما على الممنوع، وشهدوا للعقل والإبداع، بموقف يبدأ بصرخة: لا. لا مدوية. لا للتقليد والتزوير والنسخ والكسل والاتكال والتبعية. لا، للنمطية والاتباعية والنفعية المؤقتة. لا، للسلطة وأدواتها وقيودها وإغراءاتها وأموالها وأغلالها. من بين هؤلاء، الصادق النيهوم، أحد القلائل (الكثر جداً) الذي أثار في عقدين، ما لا يحصى من القضايا والمراجعة والنقد… والابتكار.
هذا الملعون الصادق، هو واحد من سلالة. يلزم ألا يندثر ضوء حبرها. واحد من رواد الوعي المتعدد، المتحرر، المستزيد، المغامر، المتخطي، والذي لصوته رجع التحدي والبسالة والعمق. هو واحد من كوكبة، من أمثال عبد الله العلايلي، صادق جلال العظم، أدونيس، ناصيف نصار، جورج قرم، هشام جعيط، عبد الله العروي، سمير أمين، محمد أركون، ادوارد سعيد، طيب تيزيني، حسين مروة، هشام شرابي، كمال الصليبي وأعداد لا تحصى من رواد النهضة، حتى رواد اليقظة الجديدة، في زمننا الراهن.
هنا، إضاءة خافتة، لكن ضرورية، على الصادق النيهوم، والبقية يجب أن تأتي، لتحتل مكانها ومكانتها، في انبعاث «الفوضى الخلاقة» بأيدٍ عربية… نحن بحاجة إلى «لغم الحضارة»، للخروج من حال الاستنقاع والاستتباع والموات.. بل نحن بحاجة إلى معركة.

أزمة ثقافة مزوَّرة أم أزمة ثقافة مصادرة؟
رياض نجيب الريس
لا بد من الاعتراف بأنني أجد صعوبة بالغة في الكتابة عن الصادق النيهوم. وأودّ الاعتراف أكثر بأنّ عجزي ناتج من تاريخ العلاقة بيني وبينه. هذا التاريخ الذي لا يعني أحداً، إلا ّ إيّاي وإياه. فعندما يغيب كاتب كبير كالصادق النيهوم، فإن ما بينه وبين أي صديق (على ما يبدو من أهمية لذلك الصديق) يتضاءل أمام ما بينه وبين الناس. والصادق النيهوم، على انطوائه الشخصي، كان مسكوناً بالتواصل، عبر كتاباته، بالناس. حيث شكّل له هؤلاء الناس، هواجس تاريخية وحوافز فكرية أقلقته طوال حياته وطبعت كتاباته إلى أبعد مدى.
وما يعني الناس عند موت كاتب ومفكر عظيم كالصادق النيهوم، هو ما تركه في حياته من آثار فكرية ساهمت في توعية الأمة من طريق فتح نوافذ لعقولها المغلقة وآفاق لنظرها المحدود، وتحريك ثقافتها المختصرة ونفسيتها المتهالكة، وتصحيح تاريخها المشوَّه ووقف قراءتها المغلوطة لذلك التاريخ، وتنوير فكرها الغارق في بحر الظلمات(…)
أما الصداقة، فهي أمر شخصي بحت، ينتهي بموت أحد أطرافها. وأما المعرفة فهي أمر يتواصل بعد رحيل الإنسان، يتواصل في كتبه وفي فكره وفي آثاره وفي ذكرياته، فتزداد عمقاً بمرور الوقت وتزداد حميمية مع الزمن. لذا فمعرفتي بالصادق النيهوم لم تتوقف بوفاته في جنيف في 15 تشرين الثاني 1994.
أقول كل هذا، لأننا منذ زمان كنا نتساءل، أنا والصادق النيهوم: كيف نعيد كتابة تاريخنا العربي؟
ومنذ زمان وهذا التساؤل يضيع في متاهات الحياة اليومية وبُعد المسافات الجغرافية بيننا، كما كان يضيع في لُجة الضمور الثقافي الذي نعانيه في عصر التخلف السياسي الذي نعيشه. فقد أغلقت القُطرية العربية الضيّقة كل الأبواب في وجه المفكر الحرّ، وأصبح الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعضنا على بعض (قبل أن تمارسه الأنظمة علينا) والتراجع الحضاري الذي نتباهى به، هما وحدهما المقياس لتقدم وهمي.
في عصر الظلمات العربية هذه كنت أقول للصادق النيهوم، إنه لم يعد من المجدي أن يُطرح تساؤل كهذا، بعد أن استسلم الإنسان العربي للأمر الواقع استسلاماً واضحاً، واكتفى بالبحث عن حد أدنى من المادة الفكرية أو الثقافية، أو حتى الصحافية، التي لا تهين عقله وقلبه، وقنع ـ مرحلياً ـ بالفتات. وكان الصادق النيهوم لا يوافقني على هذا الرأي.
وكان تساؤلنا هذا قد بدأ قبل نحو عشرين سنة، عندما وقفت مشدوهاً أمام مقالة للصادق النيهوم يتساءل فيها: كيف نستطيع أن نكون عرباً ومعاصرين في الوقت نفسه؟
وشدّتني مقالته هذه، التي حاول أن يحلل فيها كارثة الثقافة العربية المعاصرة التي تستورد عن طريق الترجمة لغة ساكتة لا تخاطب الواقع. وضرب مثلاً على ذلك بكلمة «الديموقراطية»، التي تعني في وطنها أن جميع القرارات يتم اتخاذها بعد إحصاء الأصوات، وأنها مصطلح خاص بالمجتمع الرأسمالي. وبالتالي فإن «الديموقراطية» الغربية التي نترجم عنها أنظمتنا السياسية، هي نظام خاص بالغرب وحده.
لكن النيهوم كان يؤكد أن هناك بديلاً في عالمنا العربي من مصطلحات الديموقراطية الرأسمالية، فيقول، مثلاً، إن كلمة «الجامع» في الإسلام هي صيغة أخرى من صيغ السلطة الجماعية، و«إنه مقر مفتوح في كل محلة. يرتاده الناس خمس مرات كل يوم. لهم حق الاجتماع فيه، حتى خلال ساعات حظر التجول. تحت سقفه مكفولة حرية القول، وحرية العقيدة، وسلطة الأغلبية. في لغته كل المصطلحات المطلوبة، وكل كلمة حية ترزق».
ربما لأني شغوف بالتاريخ وكاتب مثقل بأعبائه وقارئ ضنين بتفسيراته المختلفة، استفزتني بقدر ما أثارتني أفكار الصادق النيهوم. فلا شك في أن المقارنة بين مصطلح الديموقراطية الغربية ومصطلح الجامع تشكل صيغة مثيرة للجدل إلى أبعد الحدود. إلاّ أن الأهم من ذلك، أنها تثير تحدياً لفهم تراثنا الثقافي، بقدر ما تشكل تحريضاً على قلب كل طاولات التفسيرات التقليدية التي كبّلت الثقافة العربية سنوات وسنوات طويلة. فمن المؤسف أن ثقافتنا المعاصرة بدل أن تترجم وظيفة الجامع الإدارية ـ لأنها لا تعرفها ـ أخذت تترجم المصطلحات الغربية في الديموقراطية التي قامت أصلاً لفصل الدين عن السياسة.
فأصحاب الدعوة الدينية من مختلف الاتجاهات يطالبون بالعودة إلى الإسلام، بينما لا أحد يرفع صوته مطالباً بالعودة إلى الجامع، فإحياء الدين ليس موضوع خلاف، لأن الدين لم يكن خلال الأربعة عشر قرناً الماضية إلاّ حياً، بينما الذي لم يكن حياً حتى الآن هو الجامع بالمفهوم العلمي السياسي والإداري الحقيقي له. والجامع في التراث العربي كان يعني ويجب أن يستمر في أن يعني «الحرية» بكل المعاني العصرية لهذه الكلمة، بداية بحرية العقيدة، ومروراً بحرية الاجتهاد والإعلان والتجمّع، ونهاية بحرية القضاء.
[[[
ودفعتني أفكار الصادق النيهوم هذه إلى البحث عن مزيد من كتاباته. وإذا بي أجد بين يديَّ كتاباً ملوناً جميلاً يحمل عنوان: «قلب العالم ـ أطلس الوطن العربي». ولم يسترعِ هذا الكتاب انتباهي في بادئ الأمر، لأنه كان جزءاً من سلسلة اسمها «موسوعة الشباب المصورة». ولما أخذت أقلّب صفحاته وأقرأ بعض سطوره، أدركت أنني أمام أول عمل ثقافي عربي يملك الجرأة والكفاءة ليقدم أول تفسير ديموقراطي للتاريخ العربي.
ولا يضيرني، ككاتب في عصر الجاهلية العربية الجديدة، وقد اندثرت فيه القراءة الجدية كعادة وثقافة ومتعة، أن أقول إنني وقفت مذهولاً أمام نصوص لم أقرأ مثلها في رواية تاريخنا العربي وتفسيره وشرحه. ولا يعنيني في هذا الكتاب (الذي ليس أطلساً بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هو كتاب تاريخ) الذي يعالج كل مئة سنة أو أكثر بصفحة واحدة مصوّرة، إلاّ أن أقف عند محطات رئيسية في التاريخ العربي يرويها بأسلوب مشوّق مختصر، يعيد الكرامة إلى كل تراثنا وتاريخنا، ويحدد مباشرة في مواقفه، التفوق العربي والتخلف العربي إزاء الأحداث والأزمات، بوضوح كامل.
وكان عند الصادق النيهوم نموذجان وموقفان مختصران لتاريخنا يتعصب فيهما للعودة إلى الأصول الديموقراطية في الحكم العربي منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، من دون أن يكون هذا التعصب للتاريخ تعصباً ضد الحياة وضروراتها وظروفها، بقدر ما يجب أن يكون مهمازاً وحافزاً للتطوير والاستنباط، اللذين يتلاءمان مع ظروف العصر السياسية المستجدة.
النموذج الأول هو وضع العرب الـمُحرج تاريخياً. فالعجيب أن العرب لا يقدرون على الانفصال عن الماضي أو التنكر له، ولا يقدرون كذلك على أن ينفصلوا عن الحياة. فظلوا واقفين حيارى على الجسر المعلق بين الحاضر والماضي. هذا الوضع المقلق الشاذ جعلهم يتسامحون كثيراً مع مَنْ يُنقذ حياتهم أو يدافع عنهم، ولكنهم يرفضون التسامح مع مَنْ ينتقد تاريخهم. فهم ينتقدون حياتهم وأنفسهم وأساليبهم كلها، ولكنهم يصرون على تنزيه تاريخهم.
على هذا الأساس ظل التناقض قائماً وحاداً بين صراعهم الحضاري من أجل التقدم وتقديسهم لتاريخهم. وظلت جاذبية التاريخ أقوى من قوى التقدم الحضاري.
إن وقف الاجتهاد في التاريخ ودراساته هو من أهم أسباب قصورنا السياسي اليوم. فالحضارة ـ بأي تعريف ـ ما هي إلا جزء من التراكمات التاريخية بإنجازاتها وفشلها. فإذا كان كل شيء يجب أن يتغيّر في تفكيرنا وشعورنا وحياتنا، كذلك يجب أن يتغير مفهومنا لتاريخنا وماضينا ودراساتنا له ومصادرنا عنه وتقبلنا لمعطياته الأساسية من دون جدل أو شك، والشك هو الخطوة الأولى نحو التغيير. فالتشابه في تفكيرنا وتعبيرنا خلال الألف سنة الأخيرة على الأقل أمر مروّع.
النموذج الثاني هو توزيع الأحقاد التاريخية. هنا يجب أن يتوقف العرب عند الخلل الأساسي الذي أحدثته الخلافة العثمانية في الحكم ومبدأ الشورى والمشاركة فيه. فإذا كان للإسلام شكل ما للحكم أو نظام معيّن له، فهو عند الشيخ علي عبد الرازق مثلاً، حكم العقل. فإذا ما قضى العقل ودلّت التجارب على أن الديموقراطية هي أفضل حكم، كانت هي الحكم الواجب للمسلمين(…)
[[[
ومرت سنوات على أفكار الصادق النيهوم وآرائه التي استرعت انتباهي، عرفته بعدها عن قرب، وصادقته وصادقني، وجادلته وجادلني، واتفقنا واختلفنا ألف مرة ومرة. وحين أصبحت الصحافة العربية نفسها في طول الوطن العربي وعرضه، صرخة مستحيلة، لا يعترف لها أحد بالسلطة، ولا يضمن أحد حقها في القول، صدرت «الناقد» في صيف عام 1988.
ومنذ صدور «الناقد»، والصادق النيهوم كاتبها الأكثر إثارة للجدل على الإطلاق، وكاتبها الأكثر جرأة في التصدي للمفاهيم الغيبية السائدة عن الإسلام، وكاتبها الأكثر استفزازاً لأصحاب الأفكار المسطحة. فضلاً عن كونه الكاتب الذي شغل كل رقيب في الإعلام العربي، ربما أكثر من أي كاتب أعرفه حتى الآن، حتى بعد موته. وبقدر ما شغل النيهوم الرقباء، شغل القرّاء. فخلال سبع سنوات من عمر «الناقد»، حمل البريد إليها من الرسائل معه وضده تفوق ما وصل إليها عن أي كاتب آخر ظهر على صفحاتها. في هذه السنوات السمان صدرت كتب الصادق النيهوم الشهيرة.
وكانت كتب الصادق النيهوم كتباً جدلية يطالب فيها في أحيان كثيرة بالمستحيل ليصل إلى الممكن. رغم أنها في الدرجة الأولى كتب ثورية، بكل ما تحمل هذه الكلمة من عنفوان وحقيقة، لا مواربة فيها ولا وجل ولا دجل. وهي كتب يتحدى فيها العقل العربي، المغلق على مفاهيمه التقليدية الاستسلامية. وهي كتب يبسط مؤلفها مفاهيم الإسلام البسيطة والجريئة، بعد أن يعري كل الغيبيات من حولها(…)
كان الصادق النيهوم يتحدث بصوت الناس وهو يحاول إخراج الإسلام من الأسر، أو عندما يعلن الاختلاف مع شريعة من ورق. كانت متعته الحقيقية في الحوار وفي النقاش وفي مصارحة الناس بأفكاره وأسئلته. كان محاوراً ومساجلاً في قضايا العصر وشؤونه، تحضره جرأة في القول عزّ نظيرها.
وعندما توفي، قالت «الناقد» عندما نعته في حينه، إنها «ستفتقده في هذه الأيام السوداء من القمع والكبت والحجر والمنع». ولم يكن يدور في خلدها أنه بعد شهرين تماماً من غيابه، ستُصادر مؤلفاته في لبنان.
إن الرجل الذي تدبّ الحياة في كتاباته اليوم، ويكثر الجدل ويستمر في آرائه، هذا الرجل الذي كان يثير في كتاباته الذهول والدهشة والاستغراب والتأمل والنقد والترحيب، المشاكس النابش التاريخ والآيات والأحاديث والوقائع، كم واحداً مثله يا ترى في العالم العربي، يستطيع اليوم أن يجمع حول طروحاته، الجديدة والطازجة والسبّاقة دائماً، هذا العدد الهائل من أصوات الناس؟
في علمي، لا أحد.

ـ فصل من كتاب لرياض نجيب الريّس يصدر قريباً بعنوان «زمن السكوت» عن «رياض الريّس للكتب والنشر» ـ بيروت.

إسرائيل: الجريمة الذكية
الصادق النيهوم
في ملفات المحاكم الفرنسية حكاية مواطن عادي ارتكب ذات مرة جريمة قتل. زار عشيق امرأته في بيته وكسر رأسه بخمس رصاصات. ترك مسدسه بجانب القتيل. ترك أيضا قبعته وبطاقته الشخصية… ذهب بعد ذلك الى البيت وأخبر امرأته انه قتل عشيقها وطلب منها أن تبلغ عنه الشرطة. بعد نصف ساعة كان المواطن يدلي بأقواله لوكيل النيابة.
لم يعترف له بجريمة القتل. لم يهتم بالأدلة القاطعة ضده بل جلس في مقعده هادئا ولفت نظر وكيل النيابة الى أن المرء لا يقتل أحداً ثم يترك مسدسه وقبعته وبطاقته الشخصية في مكان الحادث، وأن القاتل لا يدبر جريمته في الخفاء ثم يترك عنوانه للشرطة، وأي مواطن في العالم يستطيع أن يكون القاتل ما عداه هو شخصيا… بعد ذلك استراح في مقعده ولفت نظر وكيل النيابة الى أن امرأته لم تكن على وفاق تام معه أو مع عشيقها، وانه من المعقول أن يتصور المرء أن تلك السيدة ارتكبت جريمة القتل وتركت أشياء زوجها في مكان الحادث.
بعد ثلاثة شهور أثبتت المحكمة جريمة القتل على الزوجة البريئة.
لم يصدق أحد أن زوجها يقتل غريمه ثم يترك له بطاقته الشخصية. لم يصدق أحد أن القاتل الحقيقي يخلّف وراءه جميع هذه الأدلة القاطعة… كان من الواضح بالنسبة للقضاة أن الأمر كله دسيسة مفضوحة ضد الزوج الطيب القلب، وكان من الواضح بالذات أن الدسيسة مفضوحة جداً. بعد عشرين عاما اعترف الزوج بلعبته البسيطة التي ضحك بها على ذقن العدالة وانتقم بها من غريمه وترك المحكمة تنتقم له من امرأته وخرج من المذبحة دون أن يصاب بخدش.
لماذا أحدثك عن القتلة واللصوص؟
لأني أريد أن أحدثك عن إسرائيل..
العالم كله يسمع أن إسرائيل تطالب بالمفاوضات معنا. العالم كله يعتقد أن ذلك يعني ببساطة أن إسرائيل ترغب في «التفاهم» معنا.. ونحن بدورنا نرفض المفاوضات رفضا باتا، والعالم يعتقد أن ذلك يعني ببساطة أننا نرفض «التفاهم». المحكمة تضعنا في قفص الاتهام مقدماً باعتبارنا دعاة حرب. المحكمة تبرئ إسرائيل مقدماً باعتبارها داعية سلام. لا أحد يريد أن يصدق أن طلب المفاوضات ليس دائما دعوة للتفاهم. لا أحد يريد أن يتذكر أن القاتل قد يترك بطاقته الشخصية متعمداً بجانب ضحيته لكي يجعل أمر اتهامه ـ ببساطة ـ أمراً غير معقول.
العقل الغربي الذائع الصيت، أعني حتى العقل الغربي بالذات الذي اشتهر بالحداقة والفهلوة لا يعرف أصلا أن إسرائيل لا تلجأ الى المطالبة بالمفاوضات لأنها «تريد» أن تتفاهم معنا بل لأنها تعرف ـ مقدماً ـ أنها لم تترك لنا فرصة للتفاهم. بكلمة بسيطة اخرى، العالم مخدوع بالبطاقة الشخصية التي تركتها إسرائيل عند رأس ضحيتها والمتهم البريء يرسله القاضي لحبل المشنقة. وأسوأ ما في الأمر أن هذه اللعبة غير العادلة تتم «بالذات» باسم الإنسانية.
فباسم الإنسانية يطالبنا العالم بأن نقبل إسرائيل.
وباسم الإنسانية يطالبنا العالم بأن «نتفاهم» مع إسرائيل.
العالم يديننا بالعنصرية وينسى في غمرة صراخه أن العنصرية بالذات هي الحجر الوحيد والأساسي في إقامة دولة خاصة باليهود.
هذا النقاش ليس حديثاً سياسياً… لان إسرائيل ـ بالنسبة لي ـ ليست سياسة بل دين نصف متحضر ونصف وثني، ولأني أعتقد أن قضية الشعب الفلسطيني لا تخصه وحده ولا تخص العرب وحدهم بل تخص الإنسانية بأسرها التي تحتاج الى الدفاع عن وحدتها ضد كل فلسفة عنصرية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى