من تطييف المجتمع إلى استلام الطائفية للسلطة
ياسين الحاج صالح
يقتضي التحول إلى نظام ديمقراطي أكثري أو تنافسي تكون أكثرية اجتماعية سياسية حديثة، عابرة للطوائف أو عازلة لها، أكثرية مهيمنة يقوم تكوينها ذاته على حصر الروابط الأهلية في المجال الخاص. فالديمقراطية لا تفرز أكثريات وأقليات سياسية إلا لأنها تنبني سلفا على تراكم وطني تأسيسي، منتج لأكثرية وطنية هي ما نسيمها الشعب أو الأمة، أي لجماعة وطنية على درجة متقدمة من التوحد والتجانس.
الأكثرية تلك ليست غير متاحة في بلداننا المشرقية متعددة الأديان والمذاهب فقط، وإنما يقوم النمط التسلطي لممارسة السلطة على تقويض أي احتمال لتكونها، لأن من شأن قيامها أن ينازع ويفاوض على السياسة والسلطة، فيدشن زوال التسلطية. من جهة أخرى تفضي هذه، التسلطية، وما يرافقها من إفقار سياسي إلى انتظام المجتمع المحكوم سياسيا حول روابطه الدينية والمذهبية، أي ببساطة تطييف المجتمع. وما من ملاحظ متجرد إلا ويرصد المزيد من تلاشي الشعب كفاعل سياسي محتمل في بلداننا، بينما يتقدم فاعلون جدد، طوائف أو عشائر، أو بقايا متحجرة لأحزاب تجمدت في إيديولوجياتها المتقادمة حتى غدت أشبه بالطوائف.
في مثل هذه الشروط من المرجح أن يؤدي التغيير السياسي إلا إلى نقل التطييف من المجتمع إلى السلطة، أي إلى التقاسم العلني والصريح ودون شكليات وطنية وجمهورية لسلطة الدولة على أسس طائفية، ما قد يسمى “الديمقراطية التوافقية”. ويتعين الانتباه إلى أن الهياكل التسلطية لا تتكفل بوأد فرص قيام أكثرية وطنية بوسائل إكراهية كشرط لإعادة إنتاجها ودوامها هي فقط، وإنما كذلك لأن نمط التراكم المادي لرأسمالية السلطة النافذة الكلمة في أروقة الحكم العليا هو أقرب إلى ما كان يسميه ماركس “التراكم الأولي”. ومعلوم أن هذا يشمل السلب والنهب والسطو والإكراه والأساليب المافيوزية كوسائل لانتزاع ثروات وملكيات كبيرة بيد طلائع الرأسماليين. ويبدو لنا أن دوام حالات الطوارئ المعمرة في بلادنا والقوانين والمحاكم الاستثنائية الدائمة، وما تعنيه من إطلاق يد نخب السلطة في حياة المجتمعات المحكومة، وتجريد هذه من أية حصانة أو قدرة على الدفاع عن النفس، يبدو هذا كله متصلا بنمط التراكم الأولي. وفي ذلك ما يحكم على المقاربات الحقوقية والسياسوية لحالات وأنظمة الطوارئ بقلة المحصول، إن لم تنفتح على تحليل أكثر اجتماعية وتاريخية لها.
وفي هذا المقام ليس ثمة أنسب من الإيديولوجية الوطنية، في شكل عداء للأجنبي ورفض “للخارج” لتسويغ نظم الطوارئ والاستثناء، ولتقنيع التفكيك الاجتماعي و”التراكم الأولي” معا.
ودون التخلي عن منطق التراكم الأولي تجنح الدول في منطقتنا نحو تحرير الاقتصاد في محاولة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها، وللتكيف مع العولمة، ولكن أساسا لأن لبرلة الاقتصاد أضحت أنسب لمصالح رأسمالية السلطة وتبييض أموالها وسمعتها. بيد أن تحرير الاقتصاد يسهم إلى جانب الإفقار السياسي في تأهيل بيئة اجتماعية مناسبة للتطييف. فبقدر ما تتراجع الوظائف الاجتماعية للدولة، وتتسع قاعدة الفقر والتهميش والبطالة مما هو مقترن تقليديا مع الليبرالية الاقتصاد (في مراحلها الأولى على الأقل)، فإن الطوائف والعشائر والروابط الأهلية هي المرشحة الطبيعية لملء الفراغ بعد تحطيم أشكال الانتظام الاجتماعي المدنية من أحزاب ومنظمات طوعية ونقابات مستقلة. وهكذا تتحالف التسلطية وما تتسبب به من إفقار سياسي مع الليبرالية الاقتصادية وما تتسبب به من حرمانات مادية على تغذية الطائفية وتعميمها. وليس الاقتران بين تسلطية سياسية بلا ضوابط قانونية وليبرالية اقتصادية بلا ضوابط اجتماعية أمرا استثنائيا، بل لعله القاعدة، بما في ذلك في أوربا الغربية حتى وقت متقدم من القرن التاسع عشر. وهو الحال في مصر مثلا طوال أزيد من جيل كامل عقب “الانفتاح الاقتصادي” الذي تلا حرب أكتوبر 1973. أما ما يميز الطور الراهن في سورية فهو التفكيك المطرد لما نسميه “العقد الاجتماعي البعثي”، الذي كان يقوم على سلطة غير مقيدة لطاقم الحكم مقابل تولي الدولة وظائف اجتماعية واسعة (تعليم، صحة، تشغيل، بنية تحتية، خدمات اجتماعية..). ما يجري اليوم هو التخلي عن المزيد من وظائف الدولة الاجتماعية دون التخلي عن شيء من سلطاتها، بل إنه يبدو أن هذه مرشحة لمزيد من التركز والإطلاق.
وعلى هذا النحو يبدو تطييف النظام السياسي مكتوبا منذ الآن في التطييف المتفاقم للمجتمع، المتولد هو ذاته عن اقتران تسلطية لا تكف عن بعثرة وفرط المجتمعات المحكومة كشرط لدوامها الذاتي مع تحرير اقتصادي يجعل من الطوائف حلا وحلالا.
ونفترض أن من شأن التنبه إلى ذلك أن ينقل النقاش حول الطائفية والسلطة والتغير السياسي في بلداننا من التفضيلات والانحيازات الإيديولوجية إلى وضع الهياكل والممارسات التسلطية. فهذه من جهة غير قابلة للاستمرار لكونها تفتقر إلى آليات إصلاح ذاتية ترفع من مستوى مرونتها وطاقتها على التكيف الإيجابي، وهي من جهة ثانية منتجة لأزمات حادة داخل مجتمعاتها وفي محيطها، الأمر الذي لا يتصور معه دوامها لأمد طويل. أما النقاش الإيديولوجي الشائع في سورية، والذي يوحي بأننا في معرض للنظم السياسية نختار منه ما يطيب لنا، ديمقراطية أكثرية ضد ديمقراطية توافقية مثلا، فهو يفوت على نفسه سلامة التحليل وسلامة العمل معا. هذا رغم أننا نتشكك في إمكانية تطوير سياسة عملية فعالة ضد الطائفية في ظل البنى السياسية القائمة اليوم. والمفارقة أن شرط عمل مثمر ضد الطائفية هو ذاته ما قد يؤذن بتولي الطائفية للسلطة، أعني زوال التسلطية.
فهل التحول محتوم إلى نظام طائفية الدولة؟ الواقع أنه مرجح. ففاعلي البعثرة التسلطيين أقوى أثرا وأثبت قدما في فاعليتهم التطييفية من أي مجموعات سياسية صغيرة حسنة النية لا تكف التسلطية عن استهدافها وتمزيقها.