ماذا سيقول لنا مؤرخو المستقبل؟
سعد محيو
الآن، وبعد ان انسحبت القوات الأمريكية المقاتلة، ماذا سيقول مؤرخو المستقبل عن نتائج غزو العراق؟
الكثير، الكثير، سيقولون، على صعيد الاستراتيجيات العليا، إن آمال الولايات المتحدة بإيجاد نظام عالمي آحادي جديد سقطت بالضربة القاضية:فلا هي تمكّنت من استيلاد هذا النظام، ولا القوى الدولية القديمة والصاعدة اقتنعت بأنها مؤهلة لقيادة هذا النظام بعد تعثّرها العسكري والأمني والسياسي في العراق .
وهكذا، وبدل أن يشق النظام الجديد طريقه إلى الوجود منذ حرب الكويت وحتى غزو العراق، حلّت مكانه فوضى دولية لا تزيدها الأزمة الاقتصادية الأمريكية العاتية إلا تفاقماً .
في المجال الإقليمي، سيسجّل مؤرخو المستقبل أن غزو العراق، الذي كان يُفترض أن يكون منصة الانطلاق لإقامة نظام إقليمي جديد بحراسة قوات أمريكية تحط الرحال قي خاتمة المطاف في دمشق وطهران، انقلب على نفسه وبات همّ واشنطن الرئيس حماية قواتها ونفوذها في بلاد الرافدين .
أما في ما يتعلق بالعراق نفسه، فنتائج المغامرة الأمريكية لن تحتاج سوى إلى استخدام تعبير “مروّع” لوصفها: 100 ألف قتيل ونصف مليون جريح وتشريد 3 ملايين عراقي و4 آلاف قتيل و30 ألف جريح عسكري أمريكي، وتدمير كل بنى ومؤسسات الدولة العراقية، وإشعال لهيب الصراعات المذهبية والعرقية التي تنسف الآن ركائز المجتمع بعد الإجهاز على مرتكزات الدولة .
هل يعني كل ذلك أنه لم يكن ثمة مستفيد من “الأشغال الشاقة” الأمريكية طيلة 20 عاماً (1990- 2010)؟
بلى، هناك طرف هو المستفيد الأكبر: “إسرائيل”، التي يُقال، وعلى نطاق واسع، إن حرب تدمير العراق شنّت من أجلها بقدر ما شنّت من أجل النفط . وهذا ما دفع الكثيرين، وعن حق، إلى إقامة رابط تاريخي مكين بين الخطة الأمريكية- “الإسرائيلية” المشتركة لتوجيه الضربة القاصمة إلى مشروع عبد الناصر التنموي والتحديثي عبر حرب ،1967 وبين حرب 2003 التي نسفت أسس الدولة العراقية . ففي كلا الحالين، كانت الرسالة واضحة: ممنوع بروز أية قوة إقليمية عربية قد تشكّل تهديداً أو حتى منافسة للإمبراطورية “الإسرائيلية” الصغيرة في المشرق العربي .
ثم هناك مستفيد آخر: “الكارتلات” النفطية والعسكرية- الصناعية الأمريكية، التي كانت، وستواصل، الإفادة القصوى من احتلال العراق . وهذا سيتأكد حين يتبيّن العام المقبل، وهو الموعد الافتراضي لانسحاب ما تبقى من القوات الأمريكية، أن القوات الأمريكية ستبقى، وأن الولايات المتحدة ستقاتل حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بسيطرتها على العراق .
مؤرخو المستقبل لن يتوقفوا عند هذه الخلاصات الاستراتيجية والدولية والإقليمية، بل سيرنون ببصرهم أيضاً إلى المحصلات الثقافية والإنسانية . وهنا سيكتشفون أن الولايات المتحدة باعت جلد 300 مليون عربي ومليار ونصف مليار مسلم ل3 ملايين “إسرائيلي” ولحفنة من أصحاب المصالح النفطية والصناعات الحربية، كما أنها ألحقت أفدح الأضرار بالمشروع الديمقراطي والتحديثي العربي، بعد أن لوّثت هذا المشروع بدم الضحايا المدنيين، وبلعنة العصبيات الطائفية والمذهبية، وبموبقات الفساد والانحلال الخلقي .
بيد أن مؤرخينا ربما يرون ما لا نستطيع نحن رؤيته الآن: الثمن الباهظ الذي ستدفعه الولايات المتحدة جرّاء تخبط سياساتها على هذا النحو الكارثي في العالمين العربي والإسلامي .
وهو ثمن سيكون، وفق كل المقاييس، باهظاً، على الأقل بالنسبة إلى مستقبل الزعامة الأمريكية في العالم، باهظاً للغاية في الواقع .
الخليج