بيروت منزوعة القرار… لا السلاح
عبد الوهاب بدرخان
قد يستلزم الامر “هيئة حوار وطني” اخرى للبحث في استراتيجيات السلاح المنتشر في الداخل، في بيروت وغير بيروت، ولتحديد معايير التمييز بين سلاح وسلاح. لكن الصدمة في برج ابي حيدر كانت ان الصدام حصل بين ذاك السلاح وذاته. وربما يقال انه، هو ايضا، رديف للجيش في حفاظه على الامن والاستقرار، ولذلك لا بد من بقائه، لكن لا بأس في “ضبطه”، مما يعني الاستمرار في منظومة “الامن بالتراضي”.
الارجح ان اللبنانيين مقبلون على التعرف الى معادلة جديدة – قديمة لم يكن معترفا بها ولا مشرعنة في البيانات الحكومية. فبعد معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” ضد اسرائيل، يبدو ان قضية السلاح في بيروت، نزعا او ضبطا، تتطلب معادلة “الجيش وسوريا وحزب الله” من اجل حماية السلاح بالسلاح نفسه.
نعرف ان المسألة اكثر من جدية، وانها تحتاج الى اكثر من شعار “بيروت منزوعة السلاح”، اي تحتاج الى قرار سياسي واضح وجريء. لكن، من يستطيع اتخاذه؟ انظروا الى الوجوه، والى ردود الفعل على هذا المطلب البديهي وكيف انها تلعثمت او غرقت في “المدرحيات” الكلامية لتعيد كل شيء في نهاية المطاف الى “أمن المقاومة” كحجة يجب ان تفحم كل من تسوّل له نفسه القول ان لا داعي للسلاح في زواريب العاصمة ايا كان من يحمله او من رخص له بحمله.
واقعيا، لا يمكن “نزع السلاح” من بيروت الا بموافقة صريحة ممن زرعه ورعاه وحافظ عليه وزاده وطوره، لذلك وجبت العودة الى دمشق وخصوصا ان من اشتبكوا الثلثاء الماضي هم اصدقاؤها وحلفاؤها، ولأن اي قرار يتخذه مجلس الوزراء لا بد من ان يحظى بموافقة مسبقة منها. وهي، على الاغلب، وعلى رغم استيائها مما حصل، ليست الآن في وارد نزع هذا السلاح، الا اذا كان لديها تفكير جديد بامكان الاعتماد على الجيش في بيروت، ولا ضرورة لـ”سلاح المقاومة”، هنا بعدما زالت الاخطار التي جرى التذرع بها لاشعال ازمة ما بعد حرب 2006، ولا ضرورة ايضا وخصوصا للحالات الميليشيوية التي اعيد احياؤها في سياق حملة 7 ايار 2008، وابقيت بعدها لاستخدامات شتى في الوقت المناسب، ولدواع تتعلق بالوضع الداخلي لا بالمواجهة مع العدو الاسرائيلي.
المشكلة ان مخادعة اللبنانيين، كما في مراحل سابقة، هي في اوجها خلال هذه المرحلة. فما يقال لهم يعاكس الاقتناعات التي تكونت لديهم من تجربة تقارب الاربعة عقود، بل يدعوهم الى عدم تصديق الواقع الذي يرونه بعيونهم. ينطبق ذلك على تسليح الجيش ودوره، على سلاح المقاومة وانتشاره في كل المناطق، على التطورات المتعلقة بالمحكمة الدولية والقرار الظني، على قضية الكهرباء، ولا بد من انه سينطبق ايضا على مسألة “بيروت منزوعة السلاح” و…”الميليشيات”، اذ بدا هذا المطلب كما لو انه “ثورة ارز” مستجدة، والامل كل الامل الا تلقى مصير “الثورة” الاولى. فكل ما يمكن ان يجمع عليه اللبنانيون، باندفاع وعفوية وتوق الى استعادة الدولة سلطتها، غالبا ما يلقى خيبات الأمل من الاوصياء العائدين هذه المرة من طريق التقمص، عبر وجوه حلت محلهم بالوكالة طوال الاعوام الخمسة الماضية، وتتنافس الآن مع وجوه تريد ان تحل محلهم بالاصالة.
ولأن ما يقال، مبدئيا او طمأنة او تمويها، بحسن نية او بسوئها، لم يعد يعني شيئا على ارض الواقع، فان الكلام الوحيد الوازن والفاعل هو الذي يأتي من دمشق او من “حزب الله”. ولان الاولى لا تفصح الا وراء الابواب المغلقة وينبغي استقراء الالغاز التي ينقلها اصدقاؤها او الوقاحات التي يتفوه بها ازلامها، فانه لم يعد مستغربا ان تخلو الشوارع ويجلس الجميع الى الشاشات منتظرين اطلالة جديدة للسيد حسن نصر الله ففيها “نشرة اخبار” الامس واليوم والغد، مرئية ومسموعة من فم “صاحب القرار” بالبث المباشر، وفي الآونة الاخيرة ندرت الاخبار المطمئنة. فهناك قرار ظني يجب قطع الطريق عليه ومنع صدوره. وسيكون مفيدا سماع ما رأى وما رسم بالنسبة الى “بيروت منزوعة السلاح”.
بعد اشتباك برج ابي حيدر وتداعياته في الاحياء المجاورة والبعيدة، صدرت مواقف ابرزها لرئيس الجمهورية (منع تكرار ما حصل) ورئيس الحكومة (السلاح غير مقبول). الموقفان متكاملان، لكن “منع التكرار” يمكن ان يعني او لا يعني ازالة السلاح، اما “غير المقبول” فيعني بالضرورة ان وجوده مرفوض، وبالتالي يجب نزعه. ولا شك في ان من يريد منع تكرار الحادث، كما الذي يرفض السلاح، يريدان عمليا نزعه، لكن كيف؟ لم يكن الامر يحتاج الى “لجنة”، وانما كان يحتاج الى نقاش معمق وهادف في مجلس الوزراء، ثم الى اجتماع حكومي – امني يتخذ فيه القرار بعد اقل من ثمانية واربعين ساعة على الحادث. هذا يحصل فقط في دولة ذات سيادة، وحتى في دول اقل سيادة، ما دام الامر يتعلق بالامن الداخلي.
القرار في مكان آخر. وهذا ليس جديدا، لكن الافضل لأصحابه الخارجيين والمحليين ان يكونوا اقلعوا عن هذه الطقوس اللعينة التي لم تأت في السابق ولن تأتي مستقبلا الا بنتائج عكسية هي الاخرى جربت واختبرت. والاكيد ان اللبنانيين لن يسمعوا اي شرح او توضيح عن اي من المعوقات والعراقيل والموانع والمحظورات او الضرورات التي تحول دون “نزع السلاح” في بيروت. وما عليهم سوى ان يكتفوا ببيان الاخوة المشتبكين وتأكيدهم ان لا دوافع او اسباب “سياسية او مذهبية” وراء اقتتالهم. لم يبق سوى ان نشكرهم كثيرا وجزيلاً على هذين التوضيح والتطمين.
النهار