ملاحظات على هامش السلاح
منى فياض
سألني مرةً صديق، طُلب منه الإجابة عن سؤال كيف يمكن تحسين صورة العرب في الغرب؟ أجبته أن ليس هناك من سبيل سوى في أن يتحسن جوهر العرب وأداؤهم نفسه وليس صورتهم. إذ كيف يمكن أن تحسّن صورة شيء ما، إذا لم تحسنه هو نفسه؟ كلنا نعلم أثر المعالجات التي صارت تجرى للصور الرقمية وتسمى “الفوتوشوب”، وكلنا نسخر من الصورة الزائفة التي تنبثق منها. لذا ربما لتحسين شيء ما، أو صورته، بمعنى عدم تدهورها هنا، يجب جعل أدائه نفسه أفضل. الإجابة عن السؤال المطروح: “كيف السبيل إلى إبقاء السلاح في وجهة المقاومة والحفاظ عليه، وعدم انزلاقه ليصبح، شبيهاً، بسلاح الميليشيات”، تكون في تعريف “السلاح المقاوم” نفسه: هل هو مقاوم بسبب حامله نفسه؟ يعني هل يكفي أن يكون مع من يطلق على نفسه لقب مقاوم لكي يكون كذلك؟ وهل يكفي ان يستخدمه لكي يصبح فعل القتل مقاومة، بحيث لا يعود يهمّ المكان أو الزمان الذي استخدم فيه لكي ينزع عنه هذه الصفة المقاومة او يثبتها؟ يعني هو مقاوم، سواء استخدم السلاح في بيروت ام على الحدودّ! ضد أخ أم ضد عدو! ما دام أن حامله هو “المقاوم بامتياز”!
أليس من الأفضل عندها إعادة طرح صيغة السؤال: بعد تحرير الأرض – باستثناء قرى متنازع على صفتها- هل يظل السلاح في يد فئة ذات لون واحد وصبغة واحدة، مقاوماً؟ وهل أن السلاح الموجود والمتداول في أحياء العاصمة وزواريبها هو سلاح مقاوم؟ وإذا كان كذلك حقاً، فهو مقاوم لمن إذاً في أحياء بيروت؟ ومستخدم في وجه من؟
نسمع كثيراً عن السلاح المقدس وعن السلاح الثقيل وعن السلاح النوعي الذي صار الحفاظ عليه غاية في ذاتها. لكن يخطئ من يعتقد أن المقاومة تعتمد على السلاح فقط مهما تكن أوصافه؛ خاصة عندما يتم عبره استعداء نصف الشعب اللبناني، ويظل يسمى “سلاحاً مقاوماً”، مع أنه يقمع هذا النصف، ويشهر في وجهه هذا السلاح نفسه، كما تمارس عبره أنواع الترهيب النفسي والتهديد، ويظل سلاحاً مقاوماً!
عندما طردت المقاومة الاحتلال الاسرائيلي من بيروت في البداية، فعلت ذلك بسلاح بدائي جداً عبّر عن روح الصمود والمقاومة التي تسببت برحيل المحتل مسرعاً. وعندما دحرت المقاومة إسرائيل من الجنوب، فعلت ذلك أيضاً بأسلحة أقل بكثير عدداً ونوعية من السلاح الذي تكدس منذ ما بعد التحرير حتى الآن. لماذا؟ لأن المقاومة كانت شرعية ولأن الشعب اللبناني في مجمله كان يعترف بحقها ويساندها. لذا، ومهما امتلكت المقاومة من سلاح، فذلك لن ينفعها عند استخدامه للاستقواء به على اللبنانيين – الأعداء والخونة، طالما أن لهم وجهة نظر مخالفة – وقتلهم عشوائياً عند كل مناسبة سانحة، لسبب تافه أو مهم، فردي أو جماعي، بذرائع الدفاع عن النفس او لدخول طابور خامس، أو بسبب نزاع بسيط بين إخوة (العذر الأقبح من ذنب)… فذلك كله يضعف روح المقاومة نفسها وينزع عنها أحقيتها وشرعيتها ومعناها ودواعي صمودها.
منذ 7 – 8 أيار وصاعداً، وفي كل مرة يستخدم فيها “حزب الله” سلاحه أو مجرد التهديد والوعيد باستخدامه، يفقد من رصيده وتتراجع عنه صفة المقاومة، التي باسمها يحتفظ بالسلاح. ومع كل خطبة مدججة بالتهويل ومع كل طلقة رصاص، خفيف أم ثقيل، في الداخل، تتراجع صورته كمقاوم ويتسبب بالمزيد من الأحقاد ويضيف جروحاً جديدة ويترك الصدور تغلي بمشاعر الغضب والغبن والانغلاب. الغريب، اتهام الطرف الآخر بتأجيج الصراع والأحقاد والانقسام المذهبي! عبر استخدام الكلمات الخجولة المدافعة عن نفسها؛ بينما الدم المراق في رمضان وفي المسجد هو المساعد على اللحمة الوطنية والوحدة الدينية والتسامح!
هل يمكن أن نتعلم من التاريخ؟ وننتبه إلى دور الغضب والضغينة في التأثير على مجرياته؟ هناك الآن اتجاهات اجتماعية وتاريخية وفلسفية متزايدة تجد أنه لفهم الأحداث يجب إعطاء أهمية للاعتراف بأهمية الجروح غير المداواة كعوامل نفسانية مؤججة للصراعات ذات آثار مدمّرة على المجتمعات؛ كما أن لدور مشاعر الإجحاف والغبن ورفض الاعتراف من قبل الآخر، الأثر نفسه. من هنا تساءل المؤرخ مارك فيرّو ماذا لو أن الغضب بين المجموعات الإنسانية يشكل نابضاً مستتراً أو خفياً في التاريخ؟ يعني أن يكون هو المسبب للحروب والصراع والعنف وليست المصالح الاقتصادية والسياسية فقط؟
هذا هو الخيط المهم الذي يجب حلحلته: معرفة دور الضغينة في تفسير بعض الحروب والثورات والمطالبات. فهل من يتعظ؟
كان الأجدر بالمقاومة، وبالدولة اللبنانية، العناية بالمواطن اللبناني لدعم صموده في الوقت الذي يتم فيه التسلح أو يطالب به.
أذكر أنه في عام 1969، أي في العام الذي وُقِّع فيه اتفاق القاهرة، حصلت حركة شعبية لبعض القوى اليسارية الداعمة للمقاومة في ذلك الحين من أجل حث الدولة اللبنانية على دعم صمود سكان القرى الحدودية، وخصوصاً بعدما تمركزت المقاومة الفلسطينية في “فتح لاند” من أجل شن حملاتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة. التحرك الذي حصل حينذاك، تمثل في شعارات طبعت على الليرة اللبنانية، أيام كان النضال سرياً، تدعو إلى بناء الملاجئ في المناطق الحدودية من أجل دعم صمود السكان وحمايتهم من ردود الفعل الانتقامية الإسرائيلية. وعلى حد علمي لم يتم بناء هذه الملاجئ، حتى الآن، لا من المقاومة ولا من الدولة!! فهل من يذكر أن للصمود شروطاً لم تتوافر في تاريخنا كله للجنوبيين وللبنانيين عموماً؟
لكن الخطير الآن ليس فقط غياب الملاجئ الفعلية الآمنة أو الشروط المادية للصمود، بل انهدام روح التعاون والوحدة عند المواطنين الذين تحولوا نحو ولاءاتهم الأولية الضيقة والبدائية لحماية انفسهم بعضهم من البعض ومن جيرانهم، حيث تسجل ظواهر خطيرة عن حركة انتقال سكاني وإعادة انتشار طائفي ومذهبي في العاصمة وغيرها من المناطق!
هل بهذه الروح ندعم المقاومة، مهما يكن لونها أو شكلها أو أصلها وفصلها؟! ¶
التهار