سيرة المفاوض الفلسطيني
محمد سيد رصاص
اتهم ياسر عرفات من قبل أحمد جبريل، في مقابلة تلفزيونية بصيف عام 1983 أثناء أزمة انشقاق (فتح) وتداعياتها الفلسطينية، بأنه يطمح إلى أن يكون «سادات فلسطـينيا»، مستدلاً على ذلك بعدم قيامه بأي رد فــعل أثناء حضوره خطاب أنور السادات في مجلس الشعب المصري الذي أعلن فيه بأنه «مستعد للذهاب إلى آخر الدنيا من أجل تحقيق السلام، بما فيه الذهاب إلى إسرائيل» قبيل أحد عشر يوماً من تلك الزيارة للقدس الغربية والقائه خطاباً في الكنيست الاسرائيلي (19تشرين الثاني1977).
هنا، كان لافتاً للنــظر نزول ياسر عرفــات عند قناة السويس، من الباخــرة التي أقلَته بعد الخروج من طرابلس في الشــهر الأخــير من عام 1983، وذهابه للقاء الرئــيس مبارك في القاهرة، في أول كــسر لقرارات القمة العربية ببغداد 1978 التي أقرَت المقاطعة العربية للنظام المصري بعد قليل من توقيع اتفاقيات كامب دافيد. من جــهة أخرى، كان هناك تشابه في الأسلوب التفــاوضي بين الزعيم الفلسطيني والرئيس السادات الذي احتج في محادثـات كامب دافــيد (أيلول1978)، بعد أن أرهقه وأعجزه مناحيم بيغن في مفاوضات استغرقت أسبوعين، بأنه «قد قدم للإسرائيليين من خلال زيارته ما لم يحلموا بحصوله خلال ثلاثة عقود»، ليجيبه رئيس الوزراء الاسرائيلي بأن «الورقة في السياسة تفقد قيمتها بعد أن توضع على الطاولة».
في هذا الإطار كانت التنازلات الكبرى في مسارات العمل الفلسطـيني قد حــصلت في يـوم 15 تشـرين الثاني 1988 لماأعــلن المجلس الوطني الفلسـطيني 19 بالجزائر «قيام الدولة الفلسطـينية المستـقلة استناداً إلى قـرارات الشرعيـة الدولـية منذ عام1947»، وهو ما كان يعني عملياً الغاءَ للميـثاق الوطني الفلسطــيني واعــترافاً بدولة إسرائـيل وبالقرار 242. كـان هذا التحول الفلسطيني الجذري من أجل شـراء هدف واحد متمـثلاً في «فتح» حــوار بين «منظمة التحرير الفلسطيـنية» والولايات المتحدة الأميركية، وهو ما أعلن عن المــباشرة فيه في يوم 15كانون أول 1988 بعدها أن أعلنت واشنطن يومها بأن «المنــظمة قد استوفت الشروط الأميركية الثلاثة: اعتراف بإسرائيل، نبذ الإرهاب، القـبول بالقـرار242»، الأمر الذي كشف لاحقاً عن أن هذه الشروط الـثلاث هي فحـوى اتفاق سـري عـقد بين رئيس الوزراء الإسرائيــلي إســحق رابين ووزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر اشترطه رابين على واشنـطن لأي حوار فلسطيني ـ أميركي كشرط لتوقيـع تل أبيب على اتفاقية سيـناء الثانيـة مع مصــر في أيلول 1975. ولكن عملياً كان هذا التنازل الفلسطيني الضخم، والذي يمثل تنازلاً عن جوهر الصراع العربي الاسرائيلي الذي نشب في يوم 15 أيار 1948 بعد يوم من اعلان دولة إسرائيل على التراب الفلسطيني، من دون أي مقابل من تل أبيب التي اعتبرت نفسها «على غير صلة» بما يجري بين واشنطن والفلسطينيين.
ربما، كان أبلغ تعبير رمزي عن هذه الذهنية التفاوضية الفلسطينية هو ما حـصل في يوم 13 أيلول1993 بحديقة البيت الأبــيض أثناء توقيع (اتفاق أوسلو) لما بادر عــرفات إلى مد يده لمصافحة رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين، وتمنَع الأخير ثم تحت الحاح الرئيس كلينتون حصلت تلك المصافحة أمام الكاميرات مع ما أصبح عرفات يدعوه بعد ذلك ب«شريكي رابين».
في التعبير العمـلي كان مضمــون ذلك الإتفاق يمثل نتيجة كارثية ولَدتها تلــك الذهنية التفاوضية: حصلت أخطاء جسيمة من قبل المفاوض الفلسطيني، والتي لايمكن أن يرتكبها مبتدئ في السياسة، مـثل تعبير (أريحا) الخاص بالمراحل التطبــيقية للاتفاق في ما يتعلق بمرحلة (أريحا ـ غزة أولاً) حيث لعب الاسرائيلي حـتى توقيع اتفــاق القاهرة (4 أيار 1994) ـ أو )أوسـلو2) ـ على فضفاضية وغموض هذا التعبير الذي يمكن أن يعني محافظة أريحا كلها أو المدينــة أو المنطقة والمدينة معــاً.كانت هذه قضــايا اجــرائية، أما في الأمور الجوهــرية فقد حصل بيع كل شيء من قبل الفلسطيني (=اعتراف من مالك البيت المســروق والمغـــتصب بأحـقية السارق في المسروقات) مقــابل شــراء السـمك وهو في البحر لما تُرِكــت «مواضيـع الحل النهائي» (=الحدود ـ اللاجئين ـ القدس ـ المستوطنات ـ المياه ـ الأمن) إلى مرحلة لاحقة استطاعت إسرائـيل خلال سبعـة عـشر عاماً من عمر ذلك الاتفـاق ليـس فـقط منع الدخول في مباحثات جدية من أجل الخوض في «مواضـيع الحـل النــهائي» وإنما كادت في تلـك الفتـرة الفاصـلة عن (أوسـلو) تنجز وقائـع على الأرض لصالحـها جعلـت «مواضيع الحل النهائي» في أراضي1967مماثلة أو أقرب لما فعلته بين عامي 1948 و1967 في أراضي 48 آملةً في جعل ما قبله بعض العرب حيال وقائع 1948 بعد قليل من حرب 5 حزيران منذ موافقة مصر والأردن على القرار 242 (22 تشرين الثاني1967) يحصل ثانية من «السلطة الفلسطينية» والأنظمة العربية تجاه القدس وأراضي الضفة الغربية.
الآن، بعد أن ظل الطـرف الاســرائيلي يصرخ لعقــود من الزمــن بأنــه مستعد لمفاوضات مع العرب والفلسطينيين من دون شروط مسبقة، أصـبح بنيـامين نتنــياهو، غداة موافقة «السلطة الفلسطينية» على مفاوضات مباشرة مع إسرائيــل في 2 أيلـول 2010 ، يضع شرطاً مسبقاً لتلك المفاوضــات متمثلاً «في اعـتراف بيـهودية دولة إســرائيل» بعد أن نال كل ما يبغي مسبـقاً من عــدم اشــتراط وقف الاستيطان وعدم تحديد مرجعية لتلك المفاوضات كما جرى في مؤتمـر مدريد عام 1991 لما حددت مرجعيته في القرار 242.
في عام 1909 أسس دافيد بن غوريون منظمة (هاشومير)، أي الحراس. كان شعار تلك المنظمة هو التالي: «بالدم والنار سقطت اليهودية وبالدم والنار ستقوم ثانية»، وهو ما فعله مسترشداً به خلال أربعة عقود لاحقة حتى تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، الأمر الذي استمر عليه خلفاؤه.
كيف يمكن التفاوض مع هؤلاء؟
السفير