عجلة صائب عريقات ومنجل النبي أشعياء
صبحي حديدي
تفتقت عبقرية صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، عن هذا المستهلّ الذي يطفح تفاؤلاً بما ستنتهي إليه جولة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية المباشرة، التي استؤنفت يوم أمس برعاية أمريكية: ‘لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة. الوقت الآن ليس للمفاوضات، بل للقرارات’.
في المقابل، كان يحلو للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ترديد عبارة أخرى مجازية، تعلن أنّ الشعب الفلسطيني لا يطلب القمر من الإسرائيليين، بل البتّ في القضايا العالقة واتخاذ القرارات بشأنها. التجربة، في المقابل، برهنت أنّ إعادة اختراع أيّ ابتكار إعجازي في تاريخ الإنسانية، أو اشتراط نزول القمر إلى مقرّ السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، لن يكونا أصعب كثيراً من تنازل إسرائيل عن مواقفها بصدد تلك القضايا العالقة إياها، فما بالك باتخاذ قرارات ـ من أي نوع، في الواقع، حتى على مستوى اللفظ والرمز ـ تتمتع بأوالية تنفيذ… من أيّ نوع، هنا أيضاً!
ومن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إلى خَلَفه بيل كلنتون، ثمّ جورج بوش الابن، وخلفه الراهن باراك أوباما، لكي نضع جانباً ريشارد نكسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان؛ ومن واشنطن إلى كامب دافيد، ومدريد، وأوسلو، وواي بلانتيشن، وشرم الشيخ، وطابا، وأنابوليس… ظلّ القمر أو إعادة اختراع العجلة أسهل منالاً من زحزحة إسرائيل قيد أنملة في مسائل تعريف الدولة العبرية لأمنها، وتفسيرها لمفهوم المستوطنة، وقراءتها لحقّ العودة، وتحديدها لجغرافية مدينة القدس بوصفها ‘عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة’. وفي كلّ مرّة، كانت عبقرية ما تتفتق على الجانب الفلسطيني ـ من هذا المفاوض الأريب، إلى ذاك الخطيب اللوذعي ـ لتبرير أحدث خطوات انحناء السلطة، وعودتها صاغرة إلى طاولة مفاوضات عبثية. ويحدث دائماً، إذْ هكذا يتطلب الإخراج، أن تتوفر تغطية أمريكية ـ عربية، وأحياناً دولية محفلية يختلط فيها الحابل بالنابل (كما في مؤتمر أنابوليس، خريف 2007، حين ارتأى بشار الأسد أنّ فضيلة ‘الممانعة’ لا تمنع هرولة نظامه إلى ذلك المؤتمر، والمشاركة في رذيلة الهفت والتهافت).
وهكذا فإنّ القرارات حول تسيير العجلة مرجأة حتى إشعار آخر طويل، ليس على الجانب الإسرائيلي وحده في واقع الأمر، فهذا أمر بات مكروراً معاداً، بل عند الراعي الأمريكي ذاته. ذلك لأنّ سيد البيت الأبيض، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، لا يهمّ بإطلاق ‘مؤتمر تاريخي’، داعياً الفريقين إلى اغتنام ‘فرصة تاريخية’، حتى تعاجله دورة انتخابات لتجديد الكونغرس (الذي يصغي معظم أعضائه إلى رجالات الـ AIPAC، مجموعة الضغط اليهودية الأقوى في أمريكا، أكثر بكثير من إصغائه إلى رجال البيت الأبيض)؛ أو يدنو موعد انطلاق حملته الانتخابية الشخصية لتجديد رئاسته إذا كان في الولاية الأولى، أو لإنقاذ مرشّح حزبه من هزيمة نكراء إذا كان في ختام ولايته الثانية.
وبالطبع، منذ أن صار الشرق الأوسط بحيرة نفط لا غنى عنها، وتحوّل نزاع الشرق الأوسط إلى مسألة قارّة على أجندات القوى الكبرى عموماً، وبات الحفاظ على أمن الدولة العبرية أولوية أمريكية داخلية، قبل أن يكون مصلحة ستراتيجية عليا؛ لم يعد لأي رئيس أمريكي الخيار في النأي ببرامجه عن إطلاق ‘مؤتمر تاريخي’ واحد، على الأقلّ، في كلّ ولاية. والتقصير في هذا لن يكون في صالح رئاسته على أي نحو، ليس من منطلق إظهار الحرص على الأمن الكوني، وتوطيد السلام العالمي وحلّ النزاعات العالقة، وممارسة دور الشرطي الكوني، فحسب؛ بل لكي يبدو سيّد البيت الأبيض، في ناظر مجموعات الضغط اليهودية والكونغرس وغالبية رجال الرئيس نفسه، أشدّ ولاء لإسرائيل من قادتها أنفسهم. كأنّ مشهد واشنطن، يوم أمس، كان يعيدنا إلى أواخر آذار (مارس) 1993، حين انتُخب بنيامين نتنياهو زعيماً لحزب الليكود وصار مرشحه لانتخابات رئاسة الوزراء، وبدا أنّ الذين انتخبوه تناسوا تماماً كيف حلّت عليه نقمة الناخب في سنة 1999، ومُني بهزيمة ساحقة مهينة أمام إيهود باراك، أجبرته على الإستقالة الفورية. وإذا كان في هذه الحلقة التعاقبية الأشبه بالباب الدوّار بعض قواعد اللعبة الديمقراطية في تبادل السلطة، فإنّ فيها أيضاً الكثير من ذلك المزاج الخاصّ الذي يتحكّم بالناخب الإسرائيلي وبصندوق الإقتراع تحديداً: خوف من السلام، يبلغ درجة الرهاب، وانكفاء إلى الشرنقة الأمنية كلما لاحت تباشير تسوية ملموسة تتضمّن، أوّل ما تتضمّن بالطبع، هذه أو تلك من مساحات الانسحاب.
للإسرائيليين في ديمقراطيتهم شؤون بالطبع، غير أنّ للتاريخ دروسه التي يجب أن تمسّ معظم الحاضر والكثير من المستقبل في ما يخصّ مآلات ما تبقى من ‘عملية سلام’، إذا جاز الاستمرار في استخدام تعبير كهذا، صار خالياً من المحتوى العملي الملموس. وللمرء أن يذهب، بحثاً عن قياس مقارن، إلى أشهر ‘اتفاق’ سلام تضمّن أيضاً ‘انسحاباً’ عسكرياً في عهد حكومة نتنياهو، أي اتفاق الخليل الشهير الذي وقعه الأخير مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في كانون الثاني (يناير) 1997. آنذاك، وبعد شدّ وجذب وأخذ وردّ ومواجهات مسلحة في عملية تفاوض كانت تسير ‘على سكّة أفعوانية من تقلبات العقل والعاطفة’، حسب تعبير المبعوث الأمريكي الشهير دنيس روس، صار من المشروع لكلّ مَنْ قرأ بنود الاتفاق أن يتساءل ببساطة: علام كان الخُلف والخلاف؟
ورغم ما لاح في السؤال من سذاجة فطرية، فإنّ مسوّغ طرحه لم يكن ساذجاً: هل كانوا يختلفون حول عدد أفراد الشرطة الفلسطينية (600 بدل 400 مثلاً)؟ أو حول أعداد أخرى تزيد عن 20 عربة و200 مسدس و100 بندقية، هي كامل التجهيزات المسموح للشرطة الفلسطينية باقتنائها؟ أيكون بعض النقاش قد دار حول القسمة غير الطبيعية بين 200 مسدس مخصصة لـ 400 شرطي، وكيف سيتاح لكلّ شرطيَيْن فلسطينيين أن يستخدما نصف مسدس، أو يتناوبا على المسدس ذاته؟ أم كانت ‘العقدة’ حول حكاية رشاشات ‘إنغرام’ الصغيرة للفلسطينيين، وبنادق M-16 للإسرائيليين؟ وفي شكوى نتنياهو من ‘المعضلات الأمنية العويصة التي تكتنف إعادة إنتشار الجيش الإسرائيلي’، هل كانت ‘جغرافية الحدود’ بين المنطقتين H1 و H2 هي جوهر التأجيل والتطويل والذهاب إلى واشنطن، واستضافة دنيس روس، والاستجارة بالملك حسين؟
لعلّ المرء يعثر على بعض الإجابات في ما نشرته آنذاك مطبوعة نافذة، تعكس عادة رأياً دولياً لا يُستهان به أبداً، لأنه رأي المال والأعمال من جهة؛ ولأنه، من جهة ثانية، لم يعوّدنا على هذا النقد القاسي للدولة العبرية. ففي تشرين الأول (أكتوبر) من العام ذاته، وفي افتتاحيتها الرئيسية التي تكرّس عادة لموضوع الغلاف، شنّت أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية العريقة هجوماً كاسحاً ماحقاً، بل ومقذعاً في الروحية العامة والعديد من المفردات، ضدّ نتنياهو. عنوان الإفتتاحية وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ ‘الأخرق على حلقات’ أو على نحو مسلسل بدأت فصوله الأولى منذ أيار (مايو) 1996حين انتخبه الإسرائيليون، فأدخلوا بذلك انعطافة نوعية على تقليدهم العتيق في الموازنة الإنتخابية بين اليمين ووسط اليسار، الأمر الذي لم يكن يشكل أي فارق كبير، ولكنه مع انتخاب نتنياهو صنع ويصنع الفارق كلّ الفارق. الفصول الأخرى لم تكن تبرهن على شيء قدر برهنتها على ‘موهبة نتنياهو الإستثنائية في الخروج بقرارات سيئة التدبير، استفزازية، وفي التوقيت الخاطىء’: شقّ النفق الأركيولوجي في قلب الشطر الشرقي المحتلّ من مدينة القدس، الشروع في بناء ضاحية استيطانية على أراض محتلة، وإبقاء إنسحابات جيش الإحتلال في حدود نسبة 2′ ليس أكثر.
مسمار الافتتاحية أبقته الـ’إيكونوميست’ إلى الخاتمة، حين قالت دونما تأتأة: ‘صحيح أنّ شركاءه في التحالف الديني القومي الحاكم مصممون على عدم التنازل للفلسطينيين عن بوصة واحدة من أراضي الضفة الغربية، وأنهم لو خيّروا لاختاروا الأرض على السلام. ولكن هل في وسعهم أيضاً أن يزوّدوا رئيس وزرائهم بالذريعة التي يحتاجها للقيام بما يريد القيام به أصلاً؟ في الماضي تمتّع نتنياهو بفضيلة الشك، فهل تتواصل هذه الحال إلى ما لا نهاية؟ كلا، بالتأكيد. إن إسرائيل، إذْ تدخل نصف قرن من عمرها، لا تستحقّ رئيس الوزراء الذي يحكمها الآن. وينبغي عليه أن يرحل’.
ومع ذلك، ورغم أنّ القيادة الفلسطينية كانت تعرف ما هو أدهى وأمرّ في تفاصيل شخصية نتنياهو، طلع رئيس السلطة الوطنية محمود عباس بتصريح يسير عكس صورة ‘بيبي’، لكي لا نقول إنه يجمّلها: ‘لقد خرجنا من هذه القمة مرتاحين وذلك لما لمسناه من الجانب الإسرائيلي، من استعداد لمواصلة المفاوضات بطريقة مكثفة. كما أنّ هذا اللقاء بيننا، كفلسطينيين وإسرائيليين يتولون قيادة جديدة، ساعد في أن نفهم بعضنا بعضاً. وأعتقد أنّ العمل سيكون في المستقبل مريحاً مع نتنياهو، وكذلك مع مستشاريه الذين أخذوا يتعوّدون على التعاون معنا. وآمل أن يطال هذا التعاون أيضاً بعض الوزراء، كما أعتبر أن الكلمة العاطفية التي كان وجهها نتنياهو بعد عودته من واشنطن إلى الشعب الفلسطيني قد يكون بعضها صادقاً’.
فانظروا أيّ ‘صدق’ تكشفت عنه ولاية نتنياهو تلك، وما تتكشف عنه ولايته الراهنة هذه؛ وأيّ عجلات يمكن أن يعيد المفاوضون اختراعها هناك في واشنطن، لكي يعجزوا بعدئذ عن تسييرها هنا في فلسطين المحتلة. لا قرارات، إذاً، يمكن أن تخرج بها مؤتمرات يغلب عليها المسرح إجمالاً، ويتعالى فيها الضجيج والعجيج والجعجعة، شرط أن لا تنتهي إلى أي طحن، وأن تغرق في قيعان البلاغة واللفظ. خطبة عباس اختارت المكوث في موقع الضحية، وفضّلت نبرة الاستعطاف: الشعب الفلسطيني ‘هو الأكثر احتياجاً للأمن والعدل والسلام، لأنه الضحية الأولى والأكثر تضرراً من استمرار دوامة الحروب والعنف’؛ ولذلك فإنّ رئيس هذا الشعب، المنتهية ولايته أصلاً، يحمل ‘إلى جيراننا الإسرائيليين’ رسالة مفادها أنه ‘الأحرص’ على السلام العادل.
نتنياهو، من جانبه، التفت إلى ‘شريك السلام’ عباس، وذكّره بمزايا افترض أنّ الأخير يجهلها: ‘لو عملنا معاً، فإننا نستطيع الاستفادة من المنافع الكثيرة التي يوفّرها موقعنا الفريد تحت الشمس. جغرافيتنا، تاريخنا، ثقافتنا، مناخنا، ومواهب شعبنا قادرة جميعها على خلق فرص غير مسبوقة في السياحة، والتجارة، والصناعة، والطاقة، والمياه، وسواها كثير’. كذلك تعمد نتنياهو، وهو المعلّق التلفزيوني البهلوان، ضخّ جرعة توراتية في خطابه، فعاد إلى غابر الأزمان، وإلى أسلاف الأسلاف، وبطون نصوص ترتدّ 4500 سنة إلى الوراء: ‘لا نستطيع، أيها الرئيس عباس، أن نمحو الماضي. ولكن في مقدورنا أن نغيّر المستقبل. قبل آلاف السنين، فوق الهضاب ذاتها التي عليها يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون اليوم، كان النبي اليهودي أشعياء وسواه من الأنبياء الآخرين من شعبي قد أبصروا رؤيا سلام دائم للإنسانية جمعاء’.
.. ما خلا أنّ رؤى أشعياء كانت تُظهر ملائكة يحملون مناجل قاطعة، ليس لحصيد الأرض وعناقيد العنب فحسب؛ وإنما لإيقاع الخراب أيضاً؛ وشتّان بين منجل من هذا الطراز، وعجلة صائب عريقات التي لا تدور!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –