صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول
ياسين الحاج صالح
في شهر شباط الماضي كتبتُ في هذه الصفحة أنه ليس من الضروري وجود “طوائف” في مجتمعاتنا المشرقية حتى ينتظم الحقل السياسي فيها انتظاما طائفيا. كانت المقالة تحيل إلى صراع حماس وفتح في فلسطين، أيام استطاع محازبون فتحاويون من غزة أن ينسبوا حماس إلى “الشيعة”، مضمرين لأنفسهم سندا إسلاميا سنيا، ومقدمين تأويلا عراقيا (بعيد إعدام صدام بأسابيع قليلة) لنزاعهم مع المنظمة الإسلامية، “السنية” بطبيعة الحال، بل الإخوانية، لكن المدعومة من إيران.
تطورت أوضاع فلسطين بعدها في اتجاه ما يؤول إليه صراع طائفي بلغ حده الأقصى: الانفصال السياسي، وقيام سلطتين. ساعد على ذلك الانقطاع الجغرافي بين غزة والصفة الغربية وجنوح القوى الغربية النافذة إلى معاقبة حماس على فوزها في الانتخابات التشريعية في مطلع عام 2006. بيد أنه ما كان لهذه العوامل أن تدفع نحو الانفصال لولا إخفاق النخب الفلسطينية، في فتح وحماس على حد سواء، في تطوير “ضوابط وتوازنات” تكفل تنظيم التفاعلات السياسية بين القوى والتيارات والمناطق الفلسطينية، وضبط تدفق النزاعات الممكنة في أقنية سياسية ومؤسسية وقانونية يمكن التحكم فيها. كان من شأن توفر نظام من التوازنات والضوابط والرقابات الفاعلة في النظام السياسي الفلسطيني أن يحد من، أو حتى يمنع تسييس الطوائف لو وجدت. غيابها، بالعكس، صنع طوائف من لا شيء. أو بالأحرى من صراع سياسي منفلت، يدور حول السلطة والهيبة والنفاذ إلى موارد مالية شحيحة يسخو بها، لإراحة ضميره، نظام دولي وعربي بلا ضمير.
لقد فشل النظام الفلسطيني والثقافة السياسية الفلسطينية في ضبط نزاع بين القوتين الأكبر في المجتمع الفلسطيني. مبدأ الدولة لم يكن غائبا عن حماس، بل عن فتح أيضا. وظل الطرفان يتصرفان كأنهما حركتا مقاومة لغايات تتعلق بالتنافس على الشرعية. حماس “تقاوم” كي تنتزع مساحة أكبر من الشرعية من فتح. وفتح لا تستطيع أن لا “تقاوم” كيلا تخسر كل شيء أمام حماس. أما إسرائيل، المحتل الذي يفترض أن يقاومه المقاومون، فتغدو ذريعة لفعل مقاومة تحولت محركاته ودوافعه إلى الصراع على السلطة. وبدلا من توحيد السلاح واحتكاره بيد “الدولة”، ستتكون حول سلاحين “دولتان”. إسرائيل مستفيدة جدا من هذا الشرط، لكن تحميلها المسؤولية عنه لا يعني غير فقدان تام لاحترام الذات ولمعنى المسؤولية. إن الوحشية العقلانية للسيطرة الإسرائيلية ليست ظرفا مخففا للتآكل الفلسطيني، بل بالأحرى ظرف مشدد.
ولم يلبث التنافس غير المكبوح بين التشكيلين التعيسين أن تفجر صراعا مطلقا على سلطة نسبية جدا. والصراع المطلق ينتج طوائف، خلافا للصراع النسبي الذي ربما ينتج أحزابا ومنظمات سياسية. هذا لأن الصراع المطلق ممتنع على التسوية تعريفا، مثل صراعات الطوائف والأديان. بعبارة أخرى، يعيد الصراع المطلق إنتاج ذاته عبر إنتاج الطوائف، أو بالأحرى طائفتين حصرا، لكن كذلك عبر إضعاف الأحزاب والمنظمات المدنية التي سيدفعها التجاذب الحاد إلى التوزع عليهما. الطائفتان هما فتح وحماس، وكل منهما تجتهد الآن لتنظيف منطقتها من الأخرى. فالتضييق الذي يتعرض له الفتحاويون في غزة والحمساويون في الضفة هو معادل فلسطيني لحرب تطهير طائفي منخفضة الحدة. أما إضعاف التنظيمات المدنية في سياق “إعادة إنتاج” الصراع غير المنضبط فأمر يتعين التأكد منه تجريبيا. لمراقب خارجي مثل كاتب هذه السطور تبدو المنظمات الفلسطينية القديمة مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية.. والجديدة مثل المبادرة الوطنية المستقلة (مصطفى البرغوثي) أدنى تأثيرا مما كانت قبل تفجر الصراع. والأكثر لفتا هو حدة الاستقطاب في أوساط المثقفين الفلسطينيين. كثيرون اضطروا إلى أن يعلنوا موقفا مع هذا الطرف أو ذاك، أو بالأصح ضد هذا الطرف أو ذاك، رغم أنهم كانوا ينأون بأنفسهم عن الاستقطابات السياسية الفلسطينية عندما كانت هذه نسبية وممكنة التدبر. أعلن محمود درويش موقفا ناقدا بصراحة لحماس. وعبر حسن خضر عن مواقف لاذعة ضدها. فيما بدا موقف عزمي بشارة وحزبه التجمع الوطني الديمقراطي أقرب إلى حماس. وهكذا يبدو أن المستقلين، السياسيين والثقافيين، يخضعون لمنطق التجاذب العنيف فتتمزق صفوفهم ويتآكل استقلالهم رغم أحسن مقاصدهم؛ فيما يفترض المرء أن الصراعات السياسية المنضبطة بتوازنات وآليات تحكّم مستقلة تتسم باتساع مواقع التوسط والتسوية والاعتدال. وتصلح الهجمات التي تعرض لها محمود درويش إثر تلبيته دعوة إلى حيفا من جهات ثقافية فلسطينية مقياسا لحدة الاستقطاب الفلسطيني، ولاتخاذه طابعا “طائفيا”. في هذا الاستقطاب الطائفي المطلق انهار المجال العام الفلسطيني، الهش أصلا، فما كان لـ”الشاعر العام” أن يترك خارجه.
ولا تبدو الرثاثة المطلقة لكل من “الطائفتين” و”الدولتين” الفلسطينيين شيئا خاصا بفلسطين. إنها أوثق صلة بمستوانا الحضاري المتدهور منها بوضع فلسطيني خاص لا ريب في استثنائيته من وجوه عديدة. لذلك نرجح أن مزيج الوحشية والرثاثة، هذا الذي يشكل عراق اليوم معرضا له، سيطبع أي صراع طائفي يحتمل تفجره في منطقتنا. فإذا صح هذا التحليل، ويبدو أنه صحيح، فربما يمكن استخلاص عبرة منه تعني الدول العربية جميعا: لا محيص من توسيع وتكثيف شبكات التفاعل بين القوى الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية في مجتمعاتنا، ولا غنى عن بناء توازنات وضوابط تضمن استقرار النظم السياسية، تحت طائلة أن يتفجر الصراع السياسي المقموع في أشكال مطلقة. فإن وجد الصراع هذا في متناول يده جماعات دينية ومذهبية جاهزة حولها إلى طوائف، وإن لم يجد صنع الطوائف التي يقتضيها استمرار الصراع المطلق من مادة اجتماعية لاطائفية أصلا.
والحال تبدو نظمنا السياسية مصممة على حراسة التفرق الاجتماعي، وحرمان المجتمعات المحكومة من تمثيل دينامي ربما يساعد على كسر التطابق بين الأهلي والسياسي، فيمنع التطييف. هذا فضلا عن احتكار مطلق للميدان العام من قبل سلطات طغموية يتفوق العنصر العضلي في تكوينها كثيرا على العنصر المعنوي والإقناعي. فضلا أيضا عن افتقار دولنا إلى آليات ضبط وتوازن مثل القضاء المستقل والسلطات التشريعية الفاعلة والأحزاب السياسية المستقلة والصحافة الحرة. وكل ذلك على خلفية حرمانات مادية مرشحة للتفاقم، وقطاعات مجتمعية مقذوفة إلى البطالة والهامشية والجوع مرشحة للاتساع. هذه بيئة مناسبة لتحول منازعات اجتماعية قد تكون عارضة إلى صراعات مطلقة قد تغدو دائمة، قد تفضي من ثم إلى انهيار الدول وتفتتها. وأما الوقود الطائفي فهو وفير. وقد تكفي شرارة تطلق التفاعل الانفجاري المتسلسل، كما هو جار في العراق. وفي “الشرق الأوسط” لا يشكو أحد من قلة الشرر و.. الأشرار