اقتباسات
سامر أبو هوّاش
لا بدّ من أننا ضعفاء في الاقتباسات. جرّب أن تكتب بالإنكليزية على محرك “غوغل” كلمة Quotes مثلما فعلت، فستجد 140 مليون نتيجة، أما إذا كتبت كلمة “اقتباسات” بالعربية فستجد 47 ألف نتيجة. إذا دخلت إلى المواقع “العربية” المتعلقة بالاقتباسات فستجد أن 90 في المئة منها اقتباسات أجنبية (مترجمة)، من أفلاطون مروراً بشكسبير (غالباً عن المرأة) وصولاً إلى هتلر (اقتباس متعلق باليهود طبعاً). من المضمون أن تجد الكثير من الاقتباسات الدينية وبعض الاقتباسات السياسية التي هي في الغالب كناية عن شعارات تفتقر إلى الظرف والفطنة. الآن، جرِّب أن تدخل إلى مواقع الاقتباسات الإنكليزية، فستجد أولاً مواقع متخصصة بالكامل بهذا الأمر، لا “منتديات” محتشدة لسبب غامض بالورود والألوان الزهر والفراشات والنباتات، وستجد أن هذه الاقتباسات مقسمة في كثير من الأحيان بحسب الموضوع أو بحسب الأشخاص الذين قالوا هذه الاقتباسات. ستجد اقتباسات من أفلام، وأخرى من أغان، وثالثة من كتب متعددة الأجناس، من سياسيين ومن نجوم غناء، من فنانين ومن أدباء، من رجال أعمال ومن علماء واقتصاديين. وستجد اقتباسات من إعلانات، حتى أنك ستجد اقتباسات من شخصيات الرسوم المتحركة والدمى. وستجد أيضاً اقتباسات قديمة جداً، وأخرى لا تتجاوز أياماً قليلة. ستجد اقتباسات مرحة مضحكة وأخرى متجهمة كئيبة. إيجازاً، ستجد “أدباً” كاملاً من الاقتباسات.
ما جعلني أتساءل عن أمر الاقتباسات، مسابقة على إذاعة أجنبية تسأل فيها المذيعة، من هي المرأة القائلة: “بعد الثلاثين يصبح للجسد عقل خاص به؟”. عبارة جميلة، لمّاحة، وفي الحدّ الأدنى طريفة. بينما كنت أحاول أن أتخيل من يمكن أن تكون قائلة هذه العبارة، وعقلي متأرجح بين سيمون دو بوفوار وحنة أرندت، بدأت الأجوبة (الصحيحة) تتدفق من المستمعين المستعدين للاتصال أو إرسال رسائل نصية عبر الهاتف المحمول. إنها الممثلة الكوميدية الأميركية بيتي ميدلر التي ربما كثيرون لا يعرفونها، لكنها بالتأكيد ليست شخصية قيادية، لا في الفن ولا سواه، ليست “عبقرية” ولا صاحبة تيار أو حزب أو مدرسة أو اتجاه، لكنها قالت ذات مرة، ربما في الحياة أو في فيلم ما، عبارة “سارت مثلاً”، كما تقول العرب.
ما القضية إذاً؟ لماذا نحن ضعفاء إلى هذا الحدّ في الاقتباسات؟ في إنتاج الاقتباسات؟ من يذكر اقتباساً عربياً لمّاحاً وذكياً، عدا “الأم مدرسة…”، و”لو كان الفقر…” و”الويل لأمة…”. صدقاً. الآن، فلنتذكر قولاً ما، معاصراً، ولا سيما لماحاً وغير أخلاقي ولا وعظي في الضرورة، ليوسف شاهين، فيروز، أم كلثوم، طه حسين، مصطفى أمين، محمود درويش… بلاش… جورج وسوف، إليسا، روبي…إلخ. بلاش. جبران (عدا “الويل لأمة…”). ميخائيل نعيمة. نجيب محفوظ. أليس كاتبنا العربي الوحيد الحائز نوبل؟
هل يكمن السبب في أننا لا نتكلم كثيراً؟ جميعنا للأسف نعلم أن هذا غير صحيح. فنحن ربّ الحكي. هل يكون السبب أننا نفضل العمل (النتائج) على الكلام (الثرثرة والتنظير)؟ أيضاً هذا أبعد ما يكون عنا. فمجدداً، نحن ربّ الحكي. ماذا إذاً؟ ربما ببساطة، الاقتباسات تعبّر عن علاقة ما بين الناس ومن ينتجونها. بين مرسل ومتلقٍّ. فإذا كنت مهتماً بالأدب مثلاً، فستعجب بالمقال الذي نشرته إحدى الصحف الأميركية وتورد فيه أفضل 100 اقتباس من عمل روائي. أو ذلك الذي نشرته صحيفة أخرى ويتضمن اقتباسات من أفضل الجمل السينمائية. بيد أن الاقتباس بصورته الأكثر شيوعاً – وفي حين يعبّر تكراره عن تأييد لأفكار معيّنة – يعبّر أولاً وأخيراً عن إعجاب باللغة نفسها وتقدير لها. لطريقة التعبير، لقدرة اللغة – بما فيها اليومية – على توليد الأفكار ووضعها موضع نوع آخر من التأمل والنقاش. ربما لهذا السبب لا نكترث كثيراً بمسألة الاقتباسات، لأن اللغة والتعبير لا يعنياننا إلى هذا الحدّ. ربما لا نقتبس من أحد لأننا ما عدنا نصدّق شيئاً، ربما لأن نعدّ “الذكاء” غير مطلوب في مجال الكلام. ربما لهذا السبب لا نضجر من هذا التكرار كلّه في الخطب السياسية، والمقالات، والتصريحات، وكلمات الأغاني، وحوارات الفنانين والأدباء… إلخ. لأن كلّ العبارات مكرّرة إلى حدّ أنه يكفي أن تسمع أول كلمة منها حتى تعرف بقيتها. ربما لأننا بتنا أكسل من أن نفاجئ أنفسنا بعبارة لمّاحة.
على ذكر الكسل، آخر اقتباس أعجبني في فيلم نيوزيلندي شاهدته قبل يومين. في الحقيقة آخر اقتباسين. في الأول تقاطع السكرتيرة مديرها لكي تهزّ نهدها قائلة له: “أفق… إنه يتكلم إليك”. الثاني: تقول الزوجة لزوجها الذي خانها: “لست غاضبة منك لأنك خنتني، بل لأنك كنت كسولاً إلى حدّ أن تخونني مع صديقتي”
النهار