راتب شعبوصفحات الناس

روح قلـقـة

null
راتب شعبو
في ظهيرة أحد الأيام، ومن دون مقدمات، جلس على سريري في سجن دمشق المركزي (سجن عدرا) وأنا منهمك في القراءة، سجين شاب بتهمة إسلامية. شاب أبيضاني هادئ الملامح تزيده الصلعة الواسعة ألفة. هذا الشاب، واسمه أحمد، كان طالباً جامعياً يدرس الهندسة المدنية قبل اعتقاله، وهو واحد من السجناء الذين نقلوهم منذ حوالى الشهرين من سجن تدمر إلى سجن عدرا بعدما أتمّوا أحكامهم الميدانية. لم تربطني فيه سوى الحياة المشتركة في المهجع والاحتكاكات اليومية التي تفرضها. ظننت من هدوئه ونظرته المرتخية وهو يجلس على طرف السرير أنه يودّ ممارسة ما يراه واجباً دينياً في الهداية. وضعتُ كتابي جانباً وقلت له بدافع واجب الضيافة لا أكثر: أهلاً وسهلاً. ارتبك قليلاً وقال:
– أعرف أنني أفرض نفسي عليك، لا تؤاخذني، جئت فقط أسألك عن أمر فيك يحيّرني منذ بعض الوقت.
– ما هو؟ قلت بطريقة تنم عن رغبة في الاقتصاد في الحديث. قال:
– أنت لا تصلّي ولا تؤدي الفروض، ومع هذا أراك مطمئناً، من أين لك هذه الطمأنينة وأنت لا تلتزم ما أمر الله؟
فهمتُ أنه إنما يسأل بدافع المعرفة وليس تمهيداً لهداية ضالّ. لا بل إن لهجته وتعابير وجهه أثارت فضولي. هدأ انقباضي قليلاً وقلت له:
– يمكنك أن تقول إن قراءتي هي بمثابة صلاة، فأنا أطمئن بالقراءة كما تطمئن أنت بالصلاة.
– ولكنني لا أطمئن بالصلاة. فاجأني بردّه.
– ولكنك تصلّي!
– أصلّي الآن بحكم العادة. كانت الصلاة في السابق ملاذي وراحتي واطمئناني. صمتَ قليلاً وأكمل: لكنها لم تعد. قال ذلك ورفع عينيه إلى وجهي ببرود ليقرأ انفعالي.
هل انقلبت الآية؟ كرهتُ في البداية أن يكون هذا الشاب قد جاءني ليهديني وينقذني من ضلالي، وإذا هو يعرض نفسه “ضالاً” يبحث عن “هداية” لا دينية. هل الأمر حقاً هكذا؟ تهت في تفكيري. لماذا اختارني هذا الشاب كي يطرح عليَّ هذا الأمر ويحمّلني وزر قلقه. أنا لا أصلح أن أكون هادياً لفكر مضادّ للدين ولا هادياً لغير ذلك، لا أملك نَفَس الهداية أو موهبتها، ولا يفرحني أن أكون قد كسبتُ إسلامياً إلى خانة “شيوعية” مفهومة ابتذالاً على أنها خانة إلحادية. إذا كان هناك من شرف في ذلك فليأخذه غيري. ربما يتملكني بالفعل دافع قوي إلى أن أجادل ضد ارتكاز السياسة على الدين، لا أن أجادل ضد الدين ذاته. فهذا النوع من الجدال يبدو لي بلا معنى ما خلا كونه تمريناً ذهنياً ربما.
– وما شأني في ذلك؟ قلت له.
– أسألك فقط كيف تجد الطمأنينة. الطمأنينة بادية على وجهك وفي سلوكك اليومي وحديثك، أغبطك عليها وأتساءل عن مصدرها لديك. وأفيدك أنني كنت بين إخوتي في سجن تدمر مثال المؤمن المطمئن. كانت تهدأ عذابات السجن ما إن تتاح لي فرصة للصلاة، أشعر آنئذ أنني صرت بين يدي الله، وأنه سبحانه ينظر إليَّ ويرضى عما أفعل ويحتضن قلبي برحمته. لكن في الفترة الأخيرة من السجن هناك، تغيّر شيء ما داخلي. دخل إلى باحة عقلي سؤال ما كان يمكنه من قبل أن يجد سبيله إليَّ: ألا يمكن أن أكون واهماً في سبب اطمئناني؟ أخافني هذا السؤال وما عاد يمكنني الهرب منه. صرت أصدّه وأقول في نفسي إذا كنت واهماً، فهل كل من حولي في المهجع واهمون، وهل غالبية الناس في الخارج واهمون. ولكن عبثاً، فالسؤال صار مثل الذبابة التي تحوم حولك وتلحّ عليك، وما إن تبعدها حتى تعود أكثر عناداً. أقول في نفسي، أو تقول نفسي: ولماذا لا يكونون واهمين، ألم تكن غالبية الناس في زمن الرسول تعبد الأصنام وتطمئن لعبادتها قبل أن يأتي الإسلام؟ كثرة المعتقدين بأمر لا تجعله صحيحاً ما لم يكن صحيحاً في ذاته. وما انفك هذا السؤال يأتيني بألف شكل وشكل. لقد انتزع مني هدوء روحي ولبّ صلاتي. فاتحتُ هنا بعض إخوتي ممن أثق بهم، فعزوا ذلك إلى الشيطان ونصحوني بتكرار قراءة آيات معينة، ومنهم من كتب لي آيات وطلب مني أن أضعها تحت وسادتي حين أنام. بعد فترة من معاناتي، وحيث لم تنفع وصفاتهم، صاروا يتهربون مني. التزمتُ صلاتي وآداب ديني ولكن ذلك كلّه مني صار قالباً خشبياً لا أكثر. صار عادة وروتيناً. والحقيقة أن حيرتي وتخبطي وقلقي زادت في هذا السجن.
تكررت جلساتي مع هذا الشاب حتى لفتت الأنظار. صار أصدقائي يلقّبونني بالشيخ أو الحاج، وصار أصدقاؤه وأبناء تهمته ينفضّون عنه ويحذّرونه من إكثار الجلوس معي، ويذكّرونه بآيات مختارة أو يكتبون هذه الآيات له على قصاصات من ورق ويقتربون منه ليدسّوها في جيب قميصه أثناء سيره في باحة التنفس. وأحياناً أخرى كانوا يهددونه ويرسلون اليَّ التهديدات معه.
وصلتني مأساته وحرتُ في كيفية المساعدة. صار الأمر برمته بالنسبة اليَّ خارج فكرة كسب شخص إلى اتجاه ما. كان أمر مساعدة. ولكن كيف تساعد من يبحث لقدميه عن أرض ثابتة من دون دعائم إيمانية. كان من قبل مؤمناً مطمئناً، وكان يقف على أرض راسخة من رسوخ إيمانه، واضطرب إيمانه، فاضطربت الأرض التي يقف عليها. توسلتُ بالعقل ليكون الميزان والمقرّ، ولكن تبيّن أن العقل لا يمكنه أن يملأ فراغ الإيمان. لا يمكن من نام على حرير الإيمان أن يرتاح على حديد العقل. ولكن لبّ المأساة أنه إذا تشقّق حرير الإيمان فهو غير قابل للرتق. ازداد ضياعه وصار ينفرد بنفسه ساعات، يقرأ كتباً أوصيته بها ويبحث عن أرض قارة يرتاح عليها. صار يمطرني بأسئلة لا تنتهي كلما قرأ شيئاً، معتقداً أن سر “اطمئناني” إنما يكمن في معرفة شاملة عندي يريد اكتسابها دفعة واحدة أو يريد امتحانها بقوة وزعزعتها، في رغبة لا واعية ربما للزجّ بي معه في لجة القلق.
جاء شهر رمضان، وصلت أزمة صديقي إلى ذروتها. جاء إليَّ وقال بحزم غير مناسب إنه لن يصوم. للمرة الأولى مذ كان عمره 9 سنوات يفكر، يفكر فقط، بأن لا يصوم. إن مجرد التفكير بعدم الصوم شيء لم يكن يخطر له على بال. يمكن تصور ثقل الضغط الذي قاده إلى هذا القرار. تكلم بحزم حين قال لي ذلك، كي يتغلب على القوة المعاكسة. قال ذلك لي، أو بالأحرى أمامي، لا لكي يناقشني أو يستشيرني، ولا لكي أسانده أو أثبط همته. ربما قال ذلك كي يسمع قراره بأذنه، كي يسمع صوته وهو يقرر ذلك أمام شخص آخر، أمام ذات أخرى. ربما قال ذلك كي يلزم نفسه ما عزم عليه. في كل الأحوال، هو حمّلني عبء هذا القرار بمجرد أنه صرّح أمامي به، وكان لا بد لي أن أقول رأيي على الأقل:
–  لا أظن أن لي شأنا بذلك. وآمل أنك صرت تدرك أن قرارك هذا لا يسعدني ولا يحزنني. يحزنني أنك تتعذب في هذا المخاض الذي لا أعرف كيف سينتهي بك ولا إلى أين. أتمنى مساعدتك وأتمنى لو كنت أستطيع أن أنقل اليك اطمئناني الذي كان سبب اختيارك لي وسبب حيرتك أيضاً كما قلت، ولكنه اطمئنان لا يُنقَل لأنه اطمئنان إيماني أيضاً كاطمئنانك السابق وإن كان من نوع مختلف، دين مختلف، دين شخصي إن صح القول. هل يوجد إنسان من دون دين؟ لا أعتقد. ولكن ليس من الضروري أن يكون هذا الدين رسمياً وممأسساً ومعترفاً به، قد يكون ديناً خاصاً به دون سواه. قد يكون لكل امرئ دينه كما لكلٍّ بصمته وصوته. أنت تنشقّ حالياً عن دين “عمومي” وتشعر بالضياع وربما لن ترتاح روحك حتى تستقر على دين خاص بك، توليفة تجعلك ترضى عن ذاتك وتعتقد أن “الله” راض عنك بذلك. ولكل فرد صورته عن الله، لكل فرد “إلهه”. لا يمكن أن تتطابق صورة الله عند أحد مع صورته عند أحد آخر. كل الآلهة صالحون بالقدر ذاته. وكل الديانات قاطبة تقوم بوظيفتها حين تحقق الطمأنينة لمعتقديها. شأنها في ذلك شأن اللغات، تقوم اللغة بوظيفتها حين تحقق التواصل بين متكلميها. وكل اللغات صالحة بقدر ما تقوم بهذه الوظيفة ولا معنى للمفاضلة في ما بينها. صم يا صديقي إذا كان ذلك يجنّبك عذاب روحك.
أصغى الى ما كنت أقول ولم يقل شيئاً. لعل مداخلتي زادت روحه الحائرة حيرة. مضت ساعات لم ألحظه في المهجع وكان الطقس بارداً لا يسمح بالخروج إلى باحة التنفس. بحثتُ عنه بصورة غير مباشرة في كل المهاجع فلم أجده. سألت عنه من دون جدوى. اقترب موعد الإفطار ولم يظهر. خرجتُ إلى باحة التنفس الخالية تماماً بسبب البرد فوجدته جالساً في زاوية مستورة من الباحة على حجر وفي يده أحد الكتب التي كان يأخذها من عندي. حين لاحظ قدومي ابتسم قليلاً واحتقنت عيناه. وبادرني:
– خلوتُ بنفسي. جلبتُ معي هذا الكتاب وكسرة خبز كي أكسر بها صومي فأنا لم أقدر على تناول أي شيء طوال اليوم. غصبتُ نفسي على تناول لقمة خبز. أنا لست صائماً.
بتّ لا أعرف كيف أتصرف معه، وددتُ لو أرمي هذا الحمل عن كتفي كيفما كان. قلت له:
– يا أخي إذا كان الصوم يريح نفسك فلماذا لا تصوم؟
– لو كان يريح نفسي لفعلت.
– هل تعلم أنني قلقتُ عليك وبحثتُ عنك في كل المهاجع وسألتُ عنك، طيّب أخبرني! قلت له معاتباً.
– أعرف أنني متعب لك. وأرجو أن لا تؤاخذني.
مللتُ وشعرتُ بعجز وأصابني حياله شعور مختلط من الشفقة والحنق. أقام هذا الشخص في ما بعد علاقات طيبة مع بعض أصدقائي الذين كانوا أكثر حماسة في العلاقة معه (ربما بدافع الكسب السياسي). كان يشعرني أنه ممتنّ لي وأنه يقدّر وقتي وتعبي ومساعدتي. لكنه خفّف من علاقته بي لصالح علاقاته الجديدة مع أصدقاء شيوعيين آخرين، وهذا ما أراحني.
خرج أحمد من السجن حاملاً قلقه وحيرته معه. زار أهلي وأرسل لي معهم في أول زيارة بعد خروجه من السجن من بين أشياء أخرى سطلاً من اللبن. هذه الهدية، أو هذا الاستذكار أو العرفان بالجميل، تسبب لي في مشكلة طريفة حقاً وتستحق أن تروى. وكانت جودة ذلك اللبن في غير صالحي ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى