السياسة الأميركية حيال “حماس” تقف عائقاً أمام السلام
هنري سيغمان
هذا النص هو لخبير اميركي يعتبر مؤيدا دؤوبا لعملية السلام وهو من الاصدقاء المعروفين للسلطة الوطنية الفلسطينية:
أظهرت المحادثات الثنائية الفاشلة في الأعوام الستّة عشر الماضية أنّ الطرفَين لا يستطيعان أبداً التوصّل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط من تلقاء نفسَيهما. تظنّ الحكومات الإسرائيلية أنّها تستطيع تحدّي الإدانة الدولية لمشروعها الاستعماري غير القانوني في الضفة الغربية لأنّ بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة لمعارضة العقوبات الدولية.
لا يمكن أن تنجح المحادثات الثنائية التي لا تؤطّرها معايير تضعها الولايات المتحدة (بالاستناد إلى قرارات مجلس الأمن، واتّفاقات أوسلو، ومبادرة السلام العربية، و”خريطة الطريق”، واتفاقات إسرائيلية-فلسطينية سابقة أخرى).
تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنّ الكونغرس الأميركي لن يسمح لرئيس أميركي بأن يُصدر مثل هذه المعايير ويطلب قبولها. إنّ أيّ أمل يمكن أن تحمله المحادثات الثنائية التي تُستأنَف في واشنطن يتوقّف بالكامل على إثبات الرئيس أوباما بأنّ ذلك الاعتقاد خاطئ، وعلى ما إذا كانت “اقتراحات مدّ الجسور بين الأطراف” التي وعد بها، في حال اصطدمت المحادثات بحائط مسدود، هي تعبير ملطَّف يُقصَد به عرض المعايير الأميركية على الطاولة. يجب أن تقدّم مبادرة أميركية من هذا القبيل تطمينات جازمة لإسرائيل حول أمنها داخل حدود ما قبل 1967، لكن يجب أن توضح في الوقت نفسه أنّه لن يكون هناك وجود لهذه التطمينات إذا أصرّت إسرائيل على إنكار الفلسطينيين حقّهم في دولة سيّدة وقابلة للحياة في الضفة الغربية وغزة.
تركّز هذه الورقة على العائق الكبير الآخر الذي يقف أمام اتفاق الوضع النهائي: غياب محاور فلسطيني فعلي. من شأن معالجة مظالم “حماس” المشروعة – وكما ورد في تقرير صدر حديثاً عن القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، لحركة “حماس” مظالم مشروعة – أن تؤدّي إلى عودتها إلى حكومة ائتلافية فلسطينية تمنح إسرائيل شريك سلام ذا صدقية. إذا فشل مدّ اليد هذا بسبب رفض “حماس”، تكون قدرة الحركة على منع التوصّل إلى اتفاق معقول من طريق التفاوض الذي تتولاّه أطراف سياسية فلسطينية أخرى قد كُبِحت إلى حد كبير.
إذا لم تقد إدارة أوباما مبادرة دولية لتحديد معايير اتفاق إسرائيلي-فلسطيني وتعمل بنشاط على تحفيز مصالحة سياسية فلسطينية، فعلى أوروبا أن تفعل ذلك، على أمل بأن تحذو أميركا حذوها. لسوء الحظ، ليست هناك عصا سحرية يمكن أن تضمن الهدف المتمثِّل بقيام “دولتَين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن”. لكنّ المسار الحالي للرئيس أوباما يحول كلياً دون بلوغ هذا الهدف.
الطريق إلى العدم:
محادثات السلام في مأزق
لقد اعتمدت إدارة أوباما مساراً مغايراً عن الإدارات السابقة في انخراطها في عملية السلام في الشرق الأوسط. تفادى الرئيسان بيل كلينتون وجورج دبليو بوش التعامل مع المسألة في المراحل الأولى من رئاستهم. وقد أظهر الرئيس كلينتون جدّية أكبر بكثير من الرئيس بوش في سعيه إلى التوصّل إلى اتفاق سلام، لكنّ سعيه هذا لم يبدأ إلا في الأيام الأخيرة من ولايته الثانية. في المقابل، انكبّ الرئيس أوباما بقوّة على المسألة في اليوم التالي لقسم اليمين. فقد عيّن السناتور جورج ميتشل مبعوثه الخاص للسلام في الشرق الأوسط، وألقى خطاباً تاريخياً أمام العالم العربي والإسلامي في القاهرة، ووجّه إلى حكومة نتنياهو الطلب الأصعب الذي يصدر عن أيّ إدارة أميركية حتى الآن بتجميد أي توسيع إضافي للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية – وكل هذا في العام الأول من ولايته الرئاسية الأولى.
لكن كل شيء يسلك مساراً انحدارياً منذ ذلك الوقت. فقد تبيّن أنّ تجميد المستوطنات الذي وافق عليه رئيس الوزراء نتنياهو خدعة، ومحادثات التقريب مضيعة كبيرة للوقت. لقد أثار لقاء الرئيس أوباما الأخير مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض في 6 تموز الماضي، والذي شعر فيه بأنّه مضطرّ إلى التعبير عن إعجابه بجدّية التزام نتنياهو بحلّ الدولتين مع العلم بأنّ الأخير لم يظهر سوى الازدراء للفكرة، درجة من اليأس في مختلف أنحاء المنطقة أكبر من تلك التي عرفتها خلال إدارة بوش المتفلّتة من الانخراط.
المحادثات الثنائية لا يمكن أن تنجح
أعلنت الإدارة الأميركية إطلاق محادثات مباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وأنّ الطرفَين وافقا على تحديد مدّة هذه المحادثات بسنة واحدة. لكن جل ما يمكن أن نتوقّعه من هذه الإدارة هو التشويش للإبقاء على وهم “الانخراط” الأميركي المستمر إلى ما بعد انتخابات الكونغرس في تشرين الثاني على الأقل، وربما أبعد من ذلك. تتيح هذه الفترة الوقت لإعادة النظر في الاستراتيجيات التي انتهجتها هذه الإدارة لإحلال السلام في الشرق الأوسط، والتي لم ينفكّ نتنياهو يُجهز عليها بسهولة مذلّة.
يجب أن تبدأ إعادة النظر هذه برفض مفهوم أنّه بإمكان الفريقَين التوصّل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط من تلقاء نفسَيهما، مع اقتصار الدور الأميركي على “التسهيل”. لقد أظهرت المحادثات الثنائية الفاشلة خلال الأعوام الستّة عشر الماضية أنه إذا تُرِكت المفاوضات بين الحكومات الإسرائيلية – التي تعتبر أنّ اللجوء إلى القوة العسكرية الساحقة هو الحل لكل التحدّيات السياسية والأمنية – وخصم فلسطيني لا حول له ولا قوة، على غاربها، فلن تؤدّي سوى إلى توسيع المشروع الاستعماري الإسرائيلي في الضفة الغربية وإتمامه، بغض النظر عن “التسهيل” الأميركي أو “اقتراحات مدّ الجسور” الأميركية بحسب ما يحلو لهذه الإدارة تسميتها. لا يمكن أن تنجح المحادثات الثنائية التي لا تؤطّرها معايير تضعها الولايات المتحدة (بالاستناد إلى قرارات مجلس الأمن، واتّفاقات أوسلو، ومبادرة السلام العربية، و”خريطة الطريق”، واتفاقات إسرائيلية-فلسطينية سابقة أخرى).
سوف يبقى حل الدولتين خارج متناول الجميع، لأنّه حتّى الحكومات الإسرائيلية الأكثر تشدّداً مقتنعة بأن الكونغرس الأميركي لن يسمح لرئيس أميركي بأن يُصدر مثل هذه المعايير ويطلب من إسرائيل قبولها. تظنّ الحكومات الإسرائيلية أنّها تستطيع تحدّي الإدانات الدولية لمشروعها الاستعماري غير القانوني في الضفة الغربية لأن بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة لمعارضة الإجراءات الدولية التي من شأنها معاقبة سلوكها غير القانوني.
كي يتكلّل مجهود أميركي لإنقاذ خيار الدولتين بالنجاح، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدّة لتقديم تطمينات جازمة لإسرائيل حول أمنها داخل حدود ما قبل 1967، لكن يجب أن توضح في الوقت نفسه أنّه لن يكون هناك وجود لهذه التطمينات إذا أصرّت إسرائيل على إنكار الفلسطينيين حقّهم في دولة سيّدة وقابلة للحياة في الضفة الغربية وغزة.
غياب شريك فلسطيني موثوق
يقودنا هذا إلى العائق الأساسي الآخر أمام اتفاق الوضع النهائي، وهو غياب محاور فلسطيني فعلي بسبب الانقسامات الداخلية الشديدة بين حركتَي “فتح” و”حماس”، وهي انقسامات حفّزها وعمّقها الدعم الأميركي والأوروبي لتصميم إسرائيل على إقصاء “حماس” من الحياة السياسية الفلسطينية والقضاء عليها. لا بدّ من أنّه بات واضحاً أن هذه السياسة لم تؤدِّ سوى إلى تقوية “حماس”، وأنّ الحركة تحتفظ بالقدرة على نسف أي اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني لا تكون طرفاً فيه.
هذه النظرة التي يتشاطرها تقريباً كل الخبراء السياسيين والأمنيين حول الشرق الأوسط، معبَّر عنها بدقّة في مقال نشرته أخيراً مجلة “فورين أفيرز” حول الموضوع: “وُجِدت حماس لتبقى. ورفض التعامل معها لن يؤدّي سوى إلى تفاقم الأمور: سوف يصبح المعتدلون الفلسطينيون أضعف، وسوف تزداد “حماس” قوة. إذا أرادت إدارة أوباما أن تدفع
خططها من أجل السلام نحو الأمام، يجب أولاً رفع التحدّي الذي تمثّله حماس”.
من شأن مقاربة أكثر توازناً حيال “حماس” تُعالج مظالمها المشروعة أن تؤدّي، كما نُعلِّل في هذه الورقة، إلى عودتها إلى حكومة ائتلافية فلسطينية تمنح إسرائيل شريك سلام ذا صدقية. إذا فشل مدّ اليد هذا بسبب رفض “حماس”، تكون قدرة الحركة على منع التوصّل إلى اتفاق معقول من طريق التفاوض الذي تتولاّه أطراف سياسية فلسطينية أخرى قد كُبِحت إلى حد كبير.
سوء قراءة “حماس”:
تفويض “حماس” الديموقراطي
لا يمتدّ حكم محمود عباس أبعد بكثير من رام الله. فعلى الرغم من أن “فتح” لم تلقَ مواجهة من “حماس” (أو أي حزب سياسي منظَّم آخر) في الانتخابات المحلية في الضفة الغربية في 17 تموز الماضي، يعاني الحزب من خلل وظيفي كبير ومن عدم الشعبية إلى درجة أنّ مرشّحيه واجهوا خطر الخسارة أمام مرشّحين محليين لا ينتمون إلى أي حزب، مما دفع بعباس إلى إلغاء الانتخابات في اللحظة الأخيرة. في المقابل، ليست “حماس” الحاكم الفعلي في غزة وحسب، بل إنّها الحزب السياسي الوحيد الذي حصل على تفويض ديموقراطي لحكمه من الناخبين الفلسطينيين في انتخابات 2006 التي رفضوا فيها “فتح”.
نصّت اتفاقات أوسلو على أن غزة هي جزء لا يتجزأ من فلسطين، وأرغمت إسرائيل على تأمين رابط من الأراضي لا يشوبه أي عائق يصل غزة بالضفة الغربية. وتعزّز ذلك البند من خلال اتفاق إسرائيلي-فلسطيني رسمي (اتفاق المعابر) عام 2005 نصّ على التنقّل الحر للأشخاص والسلع بين هاتين المنطقتين، وجرى التوصّل إليه عبر وساطة قام بها جيمس وولفنسون الذي كان آنذاك مبعوث وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الخاص لفك الارتباط في غزة، وقد انتهكت إسرائيل هذا الموجب حتى قبل أن يجفّ حبر الوثيقة.
أُنكِر على “حماس” التفويض الانتخابي الذي حصلت عليه، وأقصيت من الضفة الغربية لأن “فتح” تآمرت مع الحكومة الإسرائيلية وإدارة بوش كي تنفّذ قوات محمد دحلان الميليشيوية انقلاباً في غزة لإطاحة “حماس”. وقد استبقت “حماس” الهجوم وتصدّت له دموياً. لكن الطريقة التي تعاملت بها قوات دحلان سابقاً مع عناصر “حماس” الذين سجنتهم (أو الطريقة التي تتعامل بها “فتح” عباس معهم في الضفة الغربية منذ ذلك الوقت) لا تترك مجالاً للشكّ بشأن المعاملة التي كانت تنتظر “حماس” لو نجح انقلاب دحلان.
ميثاق “حماس” الذي تجاوزه الزمن
لكن هل يمكن أن تنخرط إسرائيل أو الولايات المتحدة مع “حماس” التي تتقيّد بميثاق عنصري ومعادٍ للسامية، ويُلزِم التنظيم بوضوح إقصاء اليهود بوسائل عنيفة داخل حدود ما قبل 1967 الإسرائيلية المعترَف بها دولياً؟
صحيح أن الحكومة الإسرائيلية لا تملك ميثاقاً يعد بطرد الفلسطينيين من منازلهم ومصادرة أراضيهم، لكن هذا ما تفعله بالضبط – بصورة منتظمة ومنهجية. لقد بدأت عمليات المصادرة والطرد هذه حتى قبل وجود “حماس”، ومع ذلك لم يطالب أحد في الغرب بعزل إسرائيل، أو حتى بحرمانها المساعدات المالية والعسكرية الأميركية المكثَّفة.
ولعل النقطة الأهم هي أن “حماس” أظهرت بوضوح شديد أنّ ميثاقها – على غرار ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي وصفه عرفات في عبارة شهيرة عام 1989 بأنّه caduque (تجاوزه الزمن، انتهت صلاحيته) قبل وقت طويل من إلغائه رسمياً – لم يعد يمثّل أيديولوجيتها. فاقتراحاتها المتعدّدة للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، شرط موافقتها على إقامة دولة فلسطينية داخل حدود ما قبل 1967، تتناقض بكل وضوح مع ميثاقها.
وقد صدر الرفض الأكثر مباشرة للكلام اللاذع المعادي لليهود وللسامية الذي ينطوي عليه الميثاق، عن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، في مقابلة أجرتها معه في تموز الماضي الصحيفة الأردنية الصادرة باللغة العربية “السبيل” (والتي يترجمها مركز أفريقيا-الشرق الأوسط في جنوب أفريقيا إلى الإنكليزية).
سئل مشعل إذا كانت مقاومة “حماس” موجّهة “ضد الصهاينة كيهود أم كمحتلّين”. فأجاب “المقاومة والمواجهة العسكرية مع الإسرائيليين سببها الاحتلال والعدوان والجرائم التي تُرتكَب ضد الشعب الفلسطيني، وليس الاختلافات في الدين أو المعتقد”. وأضاف أنّه على الرغم من أن “الدين هو حجر زاوية في حياتنا… لا نجعل منه قوّة للتسبّب بالكراهية، ولا سبباً أو ذريعة لإيذاء الآخرين أو إهانتهم، أو الاستحواذ على ما ليس لنا، أو التعدّي على حقوق الآخرين” – وهو يقصد بذلك بالطبع استشهاد المستوطنين الإسرائيليين بالكتاب المقدّس لتبرير سرقة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
لنقارن هذا الكلام بتصريحات الحاخام عوفاديا يوسف، كبير حاخامات إسرائيل السابق وزعيم الحزب السياسي المتشدّد الأهم في إسرائيل، خلال خطبة حديثة له يوم السبت “يجب أن يموت أبو مازن وكل هؤلاء الأشرار ويختفوا من العالم. يجب أن يُنزل بهم الله وباء، بهم وبهؤلاء الفلسطينيين”. وقال لأنصاره في خطبة سابقة عام 2001 “يُمنَع إظهار رحمة حيال [العرب]. يجب أن ترسلوا إليهم صواريخ وتبيدوهم. إنهم أشرار ولعينون”.
لم يشجب عضو واحد في الحكومة الإسرائيلية الحاخام عوفاديا يوسف بسبب هذه التصريحات.
الاعتراف بإسرائيل
في مؤتمر صحافي في نيسان 2008، أعلن مشعل أنه في سياق حكومة ائتلافية فلسطينية تكون “حماس” جزءاً منها، سوف تجيز الحركة لعباس إجراء مفاوضات سلام مع إسرائيل بصفته رئيس السلطة الفلسطينية. وقال إنّه إذا جرى التوصّل إلى اتفاق، فسوف توافق “حماس” على إحالته على استفتاء فلسطيني، وإذا تمّت الموافقة عليه في الاستفتاء، فسوف تلتزم الحركة النتيجة حتى لو كانت تعارض الاتفاق. (كان هذا الترتيب أيضاً جزءاً من الاتفاق الذي تم التوصّل إليه في مكّة لإقامة حكومة وحدة بين “حماس” و”فتح”، والذي تداعى لاحقاً).
بعد وقت قصير من المؤتمر الصحافي، قلت لأسامة حمدان، وهو عضو بارز في المكتب السياسي لحركة “حماس”، إنه لا يمكن حكومة فلسطينية توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل ومواصلة الإصرار على عدم الاعتراف بها. وافقني حمدان الرأي، وقال لي إن مشعل موافق أيضاً. ولفت إلى أنه نظراً إلى أن الاعتراف من دولة إلى أخرى هو مسؤولية حكومية، وليس أمراً منوطاً بالأحزاب السياسية، لا يحول رفض “حماس” الاعتراف بإسرائيل دون قيام حكومة تكون الحركة جزءاً منها بمنح ذلك الاعتراف. وأشار إلى أن الحكومات الإسرائيلية – بما في ذلك الحكومة الحالية التي يزعم رئيس وزرائها أنه يريد حل الدولتين – ضمّت أحزاباً سياسية تعارض قيام دولة فلسطينية، ولم يقترح أحد تجريد هذه الحكومات من أهلية الشراكة في مفاوضات السلام، أو يرشّحها لعقوبات من النوع المفروض على “حماس”.
تناقضات إسرائيلية
لا شك في أن الحكومة الإسرائيلية ترفض التمييز بين الأحزاب السياسية والحكومات وتعتبره سفسطة، كما تعتبر أنّ مروّجيه يسوّقون بروباغندا مؤيّدة لـ”حماس”. لكن على نتنياهو نفسه أن يتطرّق إلى هذا التمييز لشرح التناقض بين قبوله المعلَن حل الدولتين ومعارضة حزب “الليكود” الذي ينتمي إليه، رسمياً قيام دولة فلسطينية.
بالفعل، بعد وقت قصير من إعلان نتنياهو تأييده حل الدولتين، شكّل معظم الوزراء في حكومته تكتّلاً برلمانياً في الكنيست الإسرائيلية يُدعى “تكتّل أرض إسرائيل”، ويهدف إلى إحباط الجهود التي قد تبذلها حكومتهم للسماح بنشوء دولة فلسطينية في أي جزء من فلسطين، مع العلم بأنّه من غير المرجّح أن تحاول القيام بذلك (ليس من الصعب أن نتخيّل كيف كان نتنياهو ليردّ على حكومة فلسطينية مؤلّفة من أحزاب تنكر الدولة الإسرائيلية).
أعلن خالد مشعل في مقابلة تلفزيونية أجراها معه تشارلي روز أخيراً، أنّ “حماس” ستوقف نشاطات المقاومة عندما تنهي إسرائيل احتلالها وتقبل بقيام دولة فلسطينية ضمن حدود ما قبل 1967. هذا مخالف لالتزام “حماس” السابق مواصلة المعركة حتى استعادة فلسطين كاملة. يهزأ الإسرائيليون وداعموهم في الولايات المتحدة من كل من يعطي صدقية لهذه التصريحات، مشيرين إلى أنّ مشعل أشار في المقابلة نفسها إلى “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين، والذي يعرف أنه لن تقبل به أي حكومة إسرائيلية.
يبدو أنّهم يتوقّعون من “حماس” أن تتخلّى عن ذلك الحق – الذي يطالب به أيضاً عباس و”فتح” – قبل بدء المفاوضات. لكنّهم لا يهزأون بالطريقة نفسها من دعم نتنياهو المعلَن لحل الدولتين حتى عندما يقرنه بشروط يعرف الجميع أنّه لن يقبل بها أبداً أي زعيم فلسطيني. يصرّ المدافعون عن نتنياهو على أنّه يجب أن يُترَك له مجال تفاوضي تحسّباً للتنازلات التي سيكون عليه تقديمها، لكن يبدو أنّهم يعتقدون أنّ الفلسطينيين لا يستحقّون المعاملة بالمثل.
هذا الهزء الإسرائيلي المخادع بأي انفتاح عربي حيال إسرائيل هو الذي أغرق مبادرة السلام التي أطلقها الملك عبدالله عام 2002 والتي عرضت تطبيع علاقات كل الدول العربية مع إسرائيل؛ ووصفه بـ”المخادع” لأنّ ما يقف وراء رفض القادة الإسرائيليين لليد التي يمدّها إليهم الفلسطينيون أو الدول العربية ليس التشكيك في الجدّية العربية، بل الخشية من أنّ هذه اليد الممدودة قد تكون صادقة، ومن شأنها أن ترغم تالياً إسرائيل على تقديم إجابات جدّية قد تفضح حقيقة المواقف الإسرائيلية من الوضع النهائي.
وقد رفض نتنياهو حتى الآن المجازفة بهذا الانكشاف، لأنه يُثبت أنّ القيود التي ينوي فرضها على السيادة الفلسطينية في مجالَي الأراضي والأمن هي استمرار للاحتلال الإسرائيلي بتسمية مختلفة. ورفضُ نتنياهو تقديم تلك المعلومات إلى أوباما عندما التقيا في البيت الأبيض في 23 آذار هو الذي عجّل في حدوث الأزمة في العلاقات الإسرائيلية-الأميركية التي حاول أوباما نزع فتيلها بإذلال شديد خلال اجتماعهما في 6 تموز المنصرم.
“حماس” – براغماتية وانتهازية
لكن ليست إسرائيل الوحيدة التي تجاهلت التغييرات الأساسية التي شهدتها “حماس”. فهذا ما فعلته أيضاً الولايات المتحدة وأوروبا، عبر إصرارهما على أنه يجب على “حماس” أن تقبل أولاً شروط الانخراط التي تعمّدت إسرائيل تصميمها بطريقة تجعل من المستحيل الموافقة عليها. ليس هناك من سبب لتستمرّ الولايات المتحدة في دعم هذه الشروط. لم يفرض أوباما شروطاً مماثلة لإجراء محادثات مع حركة “طالبان”. على العكس، إنه يشجّع عودة “طالبان” إلى حكومة ائتلافية مع الرئيس حميد كرزاي على الرغم من أنّهم يقتلون جنوداً أميركيين ومدنيين أفغاناً. هل أيديولوجيا “طالبان” أكثر ملاءمة لأوباما من أيديولوجيا “حماس”، مع العلم بأنّ العديد من قادة “حماس” والمنتسبين إليها هم خرّيجو جامعات، ويشجّعون تعليم بناتهنّ بدلاً من منعهن ومعاقبتهن؟
قال مشعل رداً على سؤال في المقابلة مع صحيفة “السبيل” حول “تهميش دور النساء في الحياة السياسية والاجتماعية”، إن هذا التهميش “لا ينبثق عن نص الشريعة وروحها”، بل هو نتيجة “التأخّر الثقافي”. وأعلن أنّ “حماس” لن تسمح لـ”عصور التخلّف أو ثقل المعايير والتقاليد الاجتماعية التي تنبع من البيئة بدلاً من النص الديني” بأن تشوِّه المفاهيم الإسلامية، “ولا سيما نظراً إلى أن بيئة فلسطين ليست مغلقة بل هي متحضّرة تاريخياً، وتتمتّع بالتعدّدية والانفتاح على كل الأديان والحضارات والثقافات”.
كشف تقرير صدر أخيراً أن مسؤولين استخباريين كباراً في القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) يتشاطرون النظرة التي تعتبر أنّ السياسة الأميركية حيال “حماس” تستند إلى سوء قراءة خطير للحركة. فقد شكّك هؤلاء المسؤولون في تقرير سرّي إلى قائد “سنتكوم”، الجنرال ديفيد بترايوس، في سياسة عزل “حماس” و”حزب الله” وتهميشهما التي تنتهجها الولايات المتحدة حالياً، وحضّوا على أن تعمد واشنطن بدلاً من ذلك إلى تشجيعهما على الاندماج في الاتجاه السياسي السائد. وهم يرفضون النظرة الإسرائيلية بأنّ “حماس” عاجزة عن التغيير ويجب مواجهتها بالقوة. فهم يعتبرون أن “حماس” براغماتية وانتهازية، وأنّ عدم إدراك مظالمها سيقودنا إلى الإخفاق المستمر في حملها على التصرّف باعتدال. وفي صلب مظالم “حماس” تقع ازدواجية المعايير التي تطبّقها إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا على المجموعة الكاملة من المسائل التي يُفترَض بمحادثات السلام أن تحلّها. تشدّد قيادة “حماس” على أن ما يميّز الحركة عن “فتح” هو رفضها تقبّل هذا الرياء. وتصرّ على المعاملة المطلقة بالمثل، ولا سيما في ما يتعلّق بالشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية لرفع الحجر السياسي عن الحركة. تفرض هذه الشروط على “حماس” الاعتراف بدولة إسرائيل، وقبول كل الاتفاقات السابقة معها، والتخلّي عن العنف. لكن نتنياهو والحكومات الإسرائيلية السابقة تجاهلوا هذه الموجبات الثلاثة – كل واحد منها – وانتهكوها بصورة منتظمة.
المستوطنات تنتهك الاتفاقات
تصرّ الحكومات الإسرائيلية على اعتراف “حماس” بإسرائيل (وهو شرط أضاف إليه نتنياهو المطالبة بأن يعلن الفلسطينيون أيضاً إسرائيل الوطن الشرعي للشعب اليهودي)، لكنّها ترفض تأكيد حق الفلسطينيين في إقامة دولة في أي مكان داخل حدود فلسطين. لم يُرفَض هذا الحق خطابياً وحسب إنما أيضاً من خلال خلق ما يُعرَف بـ”الوقائع على الأرض”، أي المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية والضفة الغربية، من أجل منع قيام دولة فلسطينية.
لا صدقية لمقولة أن المستوطنات ضرورية لتأمين التعديلات المطلوبة في الأراضي من أجل الحفاظ على أمن إسرائيل. فقد تجاوز المشروع الاستيطاني منذ وقت طويل الحاجات الأمنية الإسرائيلية في تعريفها الأوسع. وليست منظّمة “السلام الآن” الإسرائيلية هي التي هزئت بهذه المزاعم، بل رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت عندما كان لا يزال في منصبه. قال أولمرت إنه بالنسبة إلى المؤسستَين العسكرية والأمنية الإسرائيلية، “كل شيء يتعلّق بالدبّابات والأرض والسيطرة على الأراضي والأراضي المسيطَر عليها (كذا بالحرف الواحد)، وهذه التلّة وتلك التلة. كل هذه الأشياء لا قيمة لها”. وأضاف “من يظنّ جدياً أن السيطرة على تلة إضافية، على مئة متر إضافية هي التي ستُحدِث الفارق بالنسبة إلى الأمن الأساسي لدولة إسرائيل؟”.
الحقوق الفلسطينية لا تعترف بها إسرائيل
لا يستند قبول نتنياهو لحل الدولتين الذي لم يأخذه أحد على محمل الجد في إسرائيل، إلى اعترافه بحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم الوطني. لقد قاد نتنياهو المعارضة الناجحة للمجهود الذي بذله أرييل شارون عام 2002 لمنع اللجنة التنفيذية في حزب “الليكود” من إعلان رفضها لقيام دولة فلسطينة، مما عجّل في انتقال شارون من “الليكود” إلى حزب “كاديما” المشكَّل حديثاً.
ما دامت الحكومة الإسرائيلية ترفض ترسيم حدودها والاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم شرق حدود 1967، سوف ترفض “حماس” المطالب بأن تعترف دولة فلسطينية تكون هي جزءاً منها بإسرائيل. كما أشرنا سابقاً، لقد رفض نتنياهو تحديد تعريف حكومته للحدود الإسرائيلية حتى في خصوصية اللقاء الذي جمعه بالرئيس أوباما في البيت الأبيض في 23 آذار.
الشرط الثاني الذي فرضته اللجنة الرباعية هو تقيّد “حماس” بكل الاتفاقات الإسرائيلية-الفلسطينية السابقة. لا شك في أنه لا الرئيس أوباما ولا وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يعتبران أن إسرائيل احترمت هذا الموجب، وإلا ما كانا ليُطالبا بأن توقف إسرائيل أي توسّع استيطاني إضافي في القدس الشرقية والضفة الغربية. لا تقتصر الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاقات السابقة على الحدود والمستوطنات، بل تشمل “خريطة الطريق” وأحكام اتفاقات أوسلو التي تنص على أنّه لا يمكن تحديد الوضع المستقبلي للقدس إلا من خلال الاتفاق بين الأطراف، وليس من خلال الفرض الأحادي الذي تسعى إليه حكومة نتنياهو.
غياب البديل غير العنيف
أما في ما يتعلّق بالشرط الثالث، التخلّي عن العنف، فإسرائيل تنتهك أيضاً هذا المقتضى بقدر ما تنتهكه “حماس”. ففي كل إجراء إسرائيلي تقريباً تحدّى الفلسطينيون مشروعيّته – مثل مصادرة الأراضي الفلسطينية لبناء المستوطنات اليهودية، وطرد الفلسطينيين من القدس الشرقية، وتدمير المنازل الفلسطينية وبناء سياج أمني على الأراضي الفلسطينية – كانت الغلبة لإسرائيل بسبب لجوئها غير المكبوح إلى العنف من أجل إخضاع الفلسطينيين الذين يعترضون طريقها أو التخلّص منهم.
تحتكر إسرائيل، بصفتها دولة سيّدة، استعمال العنف، إنما فقط داخل حدودها. وهي لا تملك حقاً أكبر من حق السكان الخاضعين لها باللجوء إلى العنف لتطبيق إجراءات – مثل نقل سكانها إلى أراض خاضعة للاحتلال – تشكّل انتهاكات واضحة للقانون الدولي.
من غير المنطقي، وهذا أقل ما يقال، أن نتوقّع من الفلسطينيين التخلّي عن العنف والاعتماد بدلاً من ذلك على محتلّيهم – الذين يطمعون بأرضهم وينشطون بصورة محمومة في توطين شعبهم فيها – ليكونوا حكَماً على مظالمهم. المطالبة بأن يتخلّوا عن العنف من دون تأمين بديل موثوق غير عنيف، مثل سلطة مراقبة يتولاّها طرف ثالث وتملك صلاحية الحكم في مظالم الجانبَين، ليست محقّة ولا قابلة للتطبيق.
أجندة حماس الدينية
المفاجئ في حكم “حماس” في غزة ليس الزيادة المنظورة في التديّن العام – وبعضها يعود بلا شك إلى الخوف من سلطات “حماس” – بل الإحجام النسبي الذي تبديه “حماس” في فرض هذا السلوك الديني على سكان غزة، ولا سيما عند مقارنة الأمر ببعض الأنظمة الإسلامية الأخرى في المنطقة.
بغض النظر عن ذلك الإحجام والتزام “حماس” الرسمي الحاكمية الديموقراطية، أكبر خطر يهدّد الديموقراطية – أو أي نوع من الوجود المتحضِّر – هو المزيج السام من التعصّب الديني والقومية الكارِهة للأجانب. وينطبق هذا على إسرائيل بقدر ما ينطبق على الحركات والأنظمة الإسلامية. عندما جهّزت قوات الدفاع الإسرائيلية هجومها على غزة، وزّع كبير المسؤولين الدينيين الملحقين بالجيش على الجنود كتابات دينية وضعها حاخامات قوميون ينتمون إلى المجتمع الاستيطاني، ويطلبون فيها منهم اعتبار الفلسطينيين بأنهم يتحدّرون من العمالقة، أعداء الإسرائيليين القدامى في العهد القديم، الذين يريد الله تدميرهم شرّ تدمير. وقد ورد في الكتيّب أنّ إظهار تعاطف حيال المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأولاد، خطيئة. على الأرجح أننا لن نعرف أبداً تأثير تلك الكتابات “الدينية” على الأعداد المروِّعة وغير المتكافئة من المدنيين الفلسطينيين الذين سقطوا خلال تلك العملية، وبينهم عدد كبير من أولاد غزة.
“حماس” ليست في خدمة “القاعدة”
تريد إسرائيل أن يعتقد العالم أن “حماس” ليست سوى مشروع إرهابي، وأن “مقاومتها” هي في خدمة مجهود سلفي عالمي لهزم الغرب وإرساء الخلافة الإسلامية من جديد. إنها كذبة تهدف إلى وضع إسرائيل في طليعة حرب غربية على “الإرهاب العالمي”، من أجل تبرير مطالبتها بأن يسمح الغرب بالإجراءات غير القانونية التي تزعم أنها مضطرة للّجوء إليها لهزم الإرهابيين.
في الواقع، لا تتشاطر “حماس” أهداف تنظيم “القاعدة”، أو عداءه للغرب والولايات المتحدة. وقد رفضت بصورة مستمرّة مناشدات “القاعدة” كي تستهدف مصالح أميركية وغربية، وركّزت فقط على الصراع الوطني الفلسطيني الذي تأمل في أن تحصل فيه على الدعم الأميركي والأوروبي إدراكاً منها للدور الأساسي الذي يؤدّيه هذا الدعم في تحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية. لقد سحقت “حماس” بهمجية المعارضة من الفصائل الجهادية المناهضة للغرب الأكثر تشدّداً، ومن مؤيّدين مفترَضين لتنظيم “القاعدة” داخل غزة، لأسباب أيديولوجية ليست أقل من التهديد الذي تشكّله هذه الفصائل لهيمنة “حماس”.
في المقابلة مع صحيفة “السبيل”، رفض مشعل العنف لأجل العنف، أو العنف الذي تمليه الأيديولوجيا أو الدين. واعتبر أن العنف قد يكون ضرورياً لأسباب براغماتية، لأن “المفاوضات والسلام تقتضي توازن قوى، فالسلام لا يمكن أن يُصنَع عندما يكون طرف نافذاً والثاني ضعيفاً؛ وإلا يكون الأمر استسلاماً”. قال إنّ من يُرغَمون على التفاوض من موقع ضعف وبالاستناد إلى شروط تسيء إلى حقوقهم “هم من سيدفعون ثمن المفاوضات”.
“حماس” هي فرع من جماعة “الإخوان المسلمين”. وعلى غرار الجماعة الأم، ليست لديها قواسم مشتركة كثيرة مع صفائية سلفية تدعو إلى إسلام حَرْفي معزول عن الحداثة وعن براغماتية تحديثية تسعى إلى تكييف الإسلام مع العالم الحديث. لم يعد بالإمكان أن تستند التوقّعات حول سلوكها المحتمل عند تحقّق الدولة الفلسطينية، إلى سلوكها خلال معركة ثورية ضد محتل تماماً كما أن لجوء الـ”ييشوف” اليهودي في فلسطين إلى الإرهاب خلال معركتهم السابقة لإقامة الدولة لم يكن مؤشراً الى سلوكهم بعد تأسيس الدولة.
الإرهاب اليهودي
يوثّق بيني موريس، المؤرِّخ الإسرائيلي البارز للمعركة اليهودية من أجل الحصول على وطن في فلسطين، بتفصيل مؤلم استهداف المدنيين العرب على يد مجموعات إرهابية يهودية في ثلاثينات القرن العشرين. يكتب موريس في Righteous Victims أن صعود الإرهاب العربي عام 1937 “تسبّب بموجة من التفجيرات التي نفّذتها جماعة إرغون ضد حشود وحافلات عربية، مما أدخل بعداً جديداً إلى النزاع”. في حين كان العرب في الماضي “يقنصون السيارات والمشاة ويلقون قنبلة من حين لآخر، فيتسبّبون غالباً بمقتل عدد قليل من المارّة أو الركّاب أو إصابتهم بجروح”، الآن “ولأول مرة، توضَع عبوات ضخمة في مراكز عربية مكتظّة، فيُقتَل عشرات الأشخاص ويُشوَّهون بطريقة عشوائية”. يلفت موريس إلى أنّه “سرعان ما وجد هذا ‘الابتكار’ مقلِّدين عرباً”.
ويبدو واضحاً من قرار نتنياهو الأخير فرض قيود على الولوج إلى أرشيف الحكومة حول مواضيع تشمل، بحسب افتتاحية في صحيفة “هآرتس” بعنوان “دولة خائفة من ماضيها”، طرد عرب وقتلهم خلال حرب الاستقلال الإسرائيلية وبعدها، أنّه ربما ارتكبت إسرائيل أيضاً انتهاكات للقانون الدولي لم تُكشَف بعد، وذلك بعد وقت طويل من إنشاء الدولة، وهي انتهاكات تجريمية جداً إلى درجة أنه لا يمكن كشف النقاب عنها.
لا يبرّر الإرهاب الصهيوني إرهاب “حماس”. لكنّ تاريخه يسلّط الضوء على نقطتين: حتمية هذه الانتهاكات عند رفض سلوك مسارات غير عنيفة لتحقيق الأهداف الوطنية المشروعة، وزيف الزعم الإسرائيلي بأنّ الدولة التي ترى النور من خلال وسائل إرهابية تصبح حكماً دولة إرهابية. أصبح قائدا ابرز منظّمتين إرهابيتين صهيونيتين قبل إنشاء الدولة، إسحق شامير ومناحيم بغين، رئيسَي وزراء ما يحلو للإسرائيليين الاعتقاد بأنها “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. (لا يعني هذا أن هناك الكثير من الديموقراطيات الأخرى في المنطقة، لكن الديموقراطية الإسرائيلية ترتكز أكثر فأكثر على الأسس الأكثر هشاشة).
الزعم الإسرائيلي بأنّ “حماس” واصلت، خلافاً للصهاينة الذين تخلّوا عن التجاوزات السابقة بعد إنشاء الدولة، هجماتها الإرهابية ضد إسرائيل حتى بعدما سحب رئيس الوزراء أرييل شارون كل المستوطنات اليهودية والمستوطنين اليهود من غزة، مخادع. والتضليل في هذه المقارنة هو في تلميحها إلى أنّه مع الانسحاب من غزة، حقّق الفلسطينيون هدفهم بإقامة دولة وإنجاز الاستقلال في جزء من فلسطين.
لم تبقَ الضفة الغربية فقط تحت الاحتلال الإسرائيلي، إنما أيضاً غزّة، لأنّ قوات الدفاع الإسرائيلية تحيط بها براً وبحراً وجواً، وتواجه حملة إسرائيلية للقضاء على التنمية فيها أدّت إلى تدمير كامل لما تبقّى من اقتصاد القطاع. أقل ما يقال عن الاستقرار الذي حقّقته “حماس” في غزة على الرغم من الجهود الإسرائيلية الحثيثة لإسقاطها، هو أنه مثير للإعجاب بقدر ما حقّقته السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، نظراً إلى الموارد الأوروبية والأميركية الهائلة التي تتدفق بلا انقطاع إلى خزانة السلطة الفلسطينية.
كسر الجمود:
لا يمكن تجاهل الإسلام السياسي
بعدما قرّرت “حماس” الانضمام إلى العملية السياسية الفلسطينية عام 2005 وبعد فوزها في انتخابات ديموقراطية حرّة ونزيهة (الأولى في الشرق الأوسط العربي) عام 2006، لا شك في أنّها صاحبة رهانات مشروعة في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني بقدر “فتح” التي خسرت في تلك الانتخابات. لا يملك اتفاق سلام يتجاهل أصحاب الرهانات المشروعة أملاً بالنجاح. لكن هناك أسباب جوهرية لتغيير السياسة الإسرائيلية والأميركية حيال “حماس” تذهب أبعد من قدرة الأخيرة على اعتراض طريق اتفاق سلام يجري التوصّل إليه فقط مع عباس.
لقد ظهر الإسلام السياسي بأنّه التيّار الديني والثقافي والسياسي الطاغي في العالم العربي وفي الجزء الأكبر من العالم الإسلامي الأوسع. تدرك معظم الحكومات الإسلامية هذا الواقع، وقد باتت تعي أنّه “لا يمكن إلغاء أو تجاهل” التنافس مع الإسلام السياسي. إسرائيل بلد شرق أوسطي، ولا يمكنها أن تتوقّع تحقيق الأمن عبر شنّ حرب لا تنتهي ضد الإسلام السياسي. جهودها المضلَّلة للقيام بذلك ليست سياسة وطنية مستدامة.
كي لا يدفع الصراع الإسرائيلي-العربي الذي لم يجد له حلاً، المنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار الراديكالي وإلى صراع أعمق سوف يُرتِّب حكماً ثمناً باهظاً على أميركا أيضاً، ينبغي على إدارة أوباما أن تقود مبادرة دولية لتحديد معايير اتفاق إسرائيلي-فلسطيني وترويج المصالحة السياسية الفلسطينية بفاعلية. إذا لم يستطع أوباما قيادة هذا المجهود، على أوروبا أن تقوم بذلك، على أمل بأن تحذو أميركا حذوها على الأقل. لسوء الحظ، ليست هناك عصا سحرية – ولا حتى معايير ترعاها أميركا – يمكن أن تضمن الهدف المتمثِّل بقيام “دولتَين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن”. لكنّ المسار الحالي للرئيس أوباما يحول كلياً دون بلوغ هذا الهدف.
ترجمة نسرين ناضر
( رئيس المشروع الأميركي/الشرق الأوسطي، وهو مؤسسة مستقلة للسياسات، وأستاذ باحث في برنامج السير جوزف هوتونغ في كلية الدراسات المشرقية والأفريقية في جامعة لندن.)
النهار