“صوملة” العراق بعد “لبننته”
ميشيل كيلو
في علم الإعلام، كثيراً ما يجرون تجارب لإظهار قدرة جهة يسمونها “المرسل” على إحداث تأثير في جهة مقابلة هي “المتلقي”، عبر دفعها إلى تبني أفكار ومواقف وأنماط سلوك ينظر إليها كأنها نابعة من إرادته الحرة، مع أنها من صنع “المرسل” .
أما في علم الاجتماع، فإنهم يصطنعون تكوينات جزئية تكثف صفات تشكيلات مجتمعية كبيرة، هي أحياناً مجتمعات كاملة، يخضعونها لمدخلات مختلفة الشكل والمضمون، يختبرون بواسطتها ردود فعلها، وتالياً نقاط ضعفها وقوتها، وسبل إحداث أعظم تأثير ممكن عليها . في عمله عبر نماذج، يكتشف من يركبها قدراته ومزايا مناهجه العملية وخططه، وإمكانية تحقيق أهدافه، وتناسب أفكاره مع الواقع، والوسائل الأكثر فاعلية وتأثيراً في الجهة المقابلة، خاصة إن كان في صراع أو نزاع معها .
بما أن النماذج تختلف باختلاف الجهة التي يراد اختبارها، فإنها تكون مختلفة بدورها . لذلك، نجد في تاريخنا الحديث نموذجاً لبنانياً، وآخر صومالياً، وثالثاً أفغانياً، ورابعاً عراقياً . ونتحدث عن “لبننة” و”صوملة” و”أفغنة” و”عرقنة”، عندما نصف تجارب هذه البلدان، ونسعى إلى إظهار ما يضمره كل واحد منها من خصائص، مع أنها تخضع جميعها لمشترك رئيس هو اتسامها بالعنف وتخليها عن السياسة وسيلة تسوي من خلالها خلافاتها ومشكلاتها، الداخلية بصورة رئيسة، التي بلغت حداً من التفاقم والتناقض يبطل مشتركات أطرافها، ويقوض انتماء مواطني بلدانها إلى وطن واحد أو مجتمع موحد، فلا يبقى لهم غير اقتسام وطنهم، واعتماد العنف وسيلة وحيدة ينتزعون بواسطتها أكبر حصة منه، في تخل صريح عما كان يربطهم ببقية مواطنيهم من أواصر تتخطى انتماءهم إلى تكوينات جزئية، طائفية أو مذهبية أو طبقية أو إثنية، صارت من الآن فصاعداً وطنهم الوحيد .
ليست النماذج الصومالية واللبنانية والأفغانية والعراقية بنت المصادفة، بل تعبّر عن تناقضات داخلية إلى حد يتجاوز قدرة السياسة على تسويتها ومواجهتها . إنها ليست، في اقتناعي، صنيعة الخارج، بل نتاج الانقسام الداخلي وتخلي أطراف العقد الوطني القائم عن انتمائهم إليه وإيمانهم بفاعليته وضرورته، وهي التجلي المباشر في حقلي المجتمع والسياسة لولاء متطرف، قطعي وخاص بتكوين أدنى، ما قبل مجتمعي، هو الطائفة أو التكوين الإثني . . . إلخ . لو لم تتخل أطراف العقد عن الشراكة الوطنية لما أمكن للخارج تفجير أوضاع أي بلد، ولما نجح في تركيب النماذج السابقة في عالمنا العربي وجواره، مع ما تحمله من تصنيف متدرج تأتي الصوملة في قاعه الأدنى، تليها الأفغنة، فاللبننة، فالعرقنة، علماً بأنها نماذج مفتوحة بعضها على بعض، وأن كل واحد منها يقبل الانتقال إلى الذي فوقه أو تحته، وأن تطبيقها إلى توسع في بلداننا، فليست كل ما سيتم ابتكاره في مقبلات الأيام، إن بقيت أوضاعنا على راهنها المتدهور، بل قد يكون لكل بلد من بلداننا نموذجه القابل للتطبيق بمجرد إنضاج شروط تحققه الداخلية، وأهم بنودها القطيعة بين المواطن والسلطة، وبينه وبين من لا ينتمون إلى طائفته أو إثنيته أو طبقته، واقتناعه بوجود تناقضات تفصله عنهم وتفصلهم عنه تجعل تعايشه معهم مستحيلاً، لذلك لا تنفع السياسة في انفصاله عنهم وصراعه معهم على حصة وافرة من الوطن، ولا بد من لجوئه إلى العنف والسلاح .
بدأ الأمريكيون بتفكيك الدولة العراقية، بمجرد أن وصلت قواتهم إلى بغداد . والدولة في المجتمعات النهرية قوة فوقية عليا تشد التكوينات المجتمعية المختلفة بعضها إلى بعض، وتبقيها متعايشة بسلام . بتفكيك الدولة، الحاضنة الممسكة بالمجتمع وقيادته، تتفكك تكويناته، التي لم تسمح مركزية الدولة وضعف وهامشية المجتمع لها بتطوير مشتركات مستقلة تحفظ وحدتها، وتبرز من تحت حطام الدولة الطوائف، التي لطالما تصارعت وأضرمت نيران الحرب والاقتتال ضد خصومها، ولم تتوقف عن القتال إلا عندما تكونت دولة حديثة ومركزية انتزعت سلاحها من يدها . بعد هاتين الخطوتين، لم يبق شيء يمنع نشوب الحرب الداخلية غير توفر السلاح، وكانت قطعه مرمية بالملايين في شوارع بغداد وغيرها من مدن العراق، فالتقطها المحاربون، الذين كانوا قد تدربوا إلى حد الاتقان على جميع أنواع القتل خلال الحرب ضد إيران وفي جنوب العراق . في هذه المرحلة، دخل العراق في اللبننة: انقسم إلى طوائف متقاتلة تنكرت لأي عقد وطني، واستحلت كل واحدة منها دماء من لا ينتمون إليها، سواء كانوا يقاتلونها أو لا يرمونها بوردة . وبالنظر إلى أن إمكانات العراق أكبر بكثير من إمكانات لبنان، فإن وسائل القتل كانت هنا أشد فتكاً منها هناك، وكان عدد ضحاياها أكبر بكثير من عدد ضحايا معارك وحروب سويسرا الشرق . واليوم، وبعد نضوج ظروف عديدة، يبدو جلياً أن العراق في طريقه إلى الصوملة، لسببين: فشل مكوناته السياسية وأحزابه في إعادة إنتاج دولة تستطيع ضبطه ومنع تقاتل مكوناته، وتبني قادته السياسيين مواقف طوائفه المتعادية، التي بدأت كل واحدة منها تدعي ملكية جزء منه، وشرعت تطرد غيرها إلى خارجه، وتعلن عزمها إقامة دولتها الخاصة فيه، لتحول الحرب ضد الآخر إلى ظاهرة دائمة، سيتوقف على نتائجها نصيبها من أراضيه وموارده، مثلما حصل في الصومال، الذي انقسم إلى دول، بيد أنها لم تضع نهاية لحروبه، بل زادت نارها اضطراماً، ونهر دماء بناتها وأبنائها تدفقاً .
في لبنان، كان هناك من حين إلى آخر توقف في الاقتتال: هدنة . أما في الصومال فلم تعرف الحرب توقفاً أو هدنة منذ قرابة أربعين عاماً، ولم تظهر في أفقه أية نهاية لها . لم يعرف العراق بدوره هدنة خلال السنوات السبع الماضية، ولم تتوقف أعمال القتل والنسف والذبح والتهجير والاغتصاب والسلب والنهب فيه . ويشير جهد بعض زعمائه إلى أنه ذاهب نحو مزيد من القتل، والدليل امتناعهم عن تشكيل حكومة موحدة والالتزام بأي دستور أو قانون أو عرف، وانخراط معظم بناته وأبنائه برهانات طائفية وصراعات مذهبية يقبلون تدخل الخارج المفتوح فيها، وخاصة منه الخارج غير العربي، الدولي والإقليمي، الذي يستغل ضعف العرب ليمعن في تمزيقهم وتفتيتهم وتشتيت شملهم، والسيطرة على مقدراتهم .
بانتقال العراق من اللبننة إلى الصوملة، يكون العالم العربي قد قطع شوطاً إضافياً في طريقه نحو الهاوية، إلا إذا مدّ الحريصون من بناته وأبنائه أيديهم لمساعدته، وعملوا لكبح التطور الراهن قبل أن يستفحل، أو لوقفه ثم لبلورة قواسم وطنية ودينية مشتركة، تعيد للعراقيين وطنهم، وتحل مشكلاتهم بالتراضي والحوار، قبل أن تأكله النار وتنتقل إلى غيره، ويصير نموذجاً إضافياً على درب خراب، توجد جرثومته في كل بلد ومجتمع عربي .
الخليج