نيران امريكية وقودها القرآن و… الإنسان
صبحي حديدي
الأرجح أنّ القسّ الأمريكي تيري جونز لن ينفّذ تهديده بإحراق مئات النسخ من القرآن، إحياء لذكرى هجمات 11/9، وبهدف توجيه ‘تحذير’ إلى ‘المسلمين المتشددين’، مفاده التالي: ‘لا نريدهم أن يفعلوا هنا ما يبدو أنهم يفعلونه في أوروبا’؛ و’أن يعلموا أنهم متى أقاموا في أمريكا فإنّ عليهم الخضوع لقانوننا ودستورنا’، وأخيراً: ‘أن لا يفرضوا جدول أعمالهم علينا’، كما قال في سلسلة تصريحات تلقفتها وسائل الإعلام الأمريكية، والعالمية. كذلك، وفي الردّ على مخاوف الجنرال دافيد بترايوس، حول مخاطر الخطوة على حياة الجنود الأمريكان في أفغانستان، اعتبر جونز أنّ على الجنرال ‘توجيه أصابع الاتهام إلى الإسلام الراديكالي، طالباً منهم أن يخرسوا، وأن يتوقفوا، ويخبرهم أننا لن نركع لهم’!
هذا، في جانب أوّل، هراء خالٍ من أيّ محتوى ملموس، إذْ هيهات أن يفلح ‘المسلمون المتشددون’ في تبديل قوانين الولايات المتحدة أو المسّ بدستورها، أو فرض أية أجندة على شعبها، أو جعله يركع؛ فضلاً عن الحقائق السوسيولوجية والثقافية الكثيرة التي تجعل مشهد الإسلام في أمريكا أكثر تعقيداً من أن يُختزل في البعد الإيماني وحده. وهو، في جانب ثانٍ، محض لغة خشبية يتستّر بها راعي كنيسة مغمورة متشّددة ـ إذْ ينطبق هذا التوصيف عليها، إسوة بأيّ تشدّد ديني، إسلامي أو مسيحي او يهودي أو… ـ يسعى إلى لفت الانتباه عن طريق تضخيم الموقف من الإسلام، والحضّ على سلوك متطرّف لمحاربته. قبل سنة، كان أنصار هذه الكنيسة قد ألزموا أطفالهم بارتداء قميص كُتبت عليه عبارة ‘الإسلام من الشيطان’، والذهاب به إلى المدرسة، ممّا أجبر الإدارة على منعهم من حضور الدروس بسبب مخالفة الأنظمة المرعية حول اللباس المدرسي. ولم يكن جونز حزيناً لهذه النتيجة، بل اعتبر أنّ واجبات خدمة الكنيسة الإنجيلية أهمّ من التعليم.
هذا أمر، واعتباره ظاهرة فردية ومنفردة (كما تريدنا وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون أن نصدّق)، لا تخصّ سوى أتباعه الذين لا يتجاوز عددهم الـ 50 (كما بشّرنا عدد من عشّاق أمريكا في الإعلام العربي)؛ أمر آخر مختلف تماماً. أغلب الظنّ، اتكاء على منطق بالغ البساطة، انّ جونز لم يكن يكذب حين أعلن أنّ الضغوط العلنية التي يتعرّض لها لمنعه من إحراق القرآن، والتي جاءت من البيت الأبيض والفاتيكان وساسة كبار في الغرب المسيحي، تظلّ أقلّ من مواقف التأييد التي وصلته سرّاً. وليس عسيراً على المرء أنّ يصدّق جونز حين يكشف النقاب عن حقيقة أنّ مئات من نسخ القرآن المرشحة للحرق كان قد أرسلها إلى كنيسته متبرعون متحمسون يباركون خطوته هذه، ويحثونه على المضيّ قدماً في تنفيذها.
ذلك لأنّ القسّ المهووس هذا ليس سوى التجلّي الأحدث للشطر الديني من فلسفة المحافظين الجدد لأطوار ما بعد 11/9، وهو الشطر الذي يتواصل ويتعزز ويتعمق لأنه في واقع الأمر لا ينهض على اعتبارات السياسة (التي تنتقل من مأزق إلى فشل إلى هزيمة، في العراق مثل أفغانستان)، بل يتغذى من حمية العقيدة وحمّى التنافس على المقدّس. البطل الأمثل عند القسّ المهووس هذا ليس يسوع الناصري، كما للمرء أن ينتظر من رجل دين مسيحي إنجيلي، بل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، الذي تتصدّر صورته جدار مكتب جونز في قلب الكنيسة. وما دام يزمع إشعال نار وقودها نسخ القرآن، فلعلّ العبارة الأكثر تردّداً في أذن القسّ جونز هي تلك التي نطق بها بوش في خطبة تنصيبه للولاية الثانية: ”لقد أشعلنا ناراً، وذات يوم سوف تصل هذه النار المتأججة إلى زوايا العالم الأشدّ ظلمة’.
وقد يكون من الخير، على سبيل تفكيك هذه العبارة وإدراجها في سياق العزم على حرق القرآن، الوقوف على رأي رجل دين أمريكي مسيحي، هو القسّ وليام ي. ألبرتس، الذي كتب يقول: ‘القسّ جونز ليس متطرفاً منعزلاً، بل هو امتداد لـ’الزوايا الأشدّ ظلمة ‘في العقائد الأمريكية المتمركزة على الذات وعلى اليقين المسيحي. والقسّ جونز أحد أعراض مرض أصاب روح أمريكا، فبدلاً من الإنخراط في بحث عن الروح، كنّا بأمسّ الحاجة إليه بعد هجمات 11/9 الرهيبة ضدّ أمريكا، استخدمت إدارة بوش تلك الهجمات لتبرير عسكرة أمريكا أكثر من ذي قبل’. ويضيف القسّ ألبرتس أنّ ‘انعدام التسامح يلقي المزيد من الظلمة على روح أمريكا. وما روّجت له إدارة بوش حول ‘حرب على الإرهاب’ زائفة، أشعل نيران الخوف والبغضاء في طول أمريكا وعرضها. وإنها ‘نار متأججة’ تستهدف تنميط وأبلسة جميع أتباع الإسلام، بدل التمييز بينهم وبين سلوك مدمّر لقلّة منهم، وفي الآن ذاته تجعل الشعب الأمريكي غافلاً عن السياسة الخارجية للساسة الأمريكان أنفسهم، وهي سياسة تقوم على ارتكاب الجرائم ضدّ المسلمين، بشكل جماعي وعشوائي، وبدم بارد، باسم أمريكا’.
وقبل القسّ جونز، كان بطله الملهِم بوش الابن قد انضمّ إلى صفوف أولئك الساسة والكتّاب والمحللين الذين استهواهم تعبير ‘الإسلام الفاشي’، فاستخدموه بخفّة وابتهاج، مراراً وتكراراً، بعد انهيار برجَيْ نيويورك خصوصاً. ففي خطاب (خطير للغاية، وتحديداً في جانب هذه الغلواء العقائدية ضدّ المسلم بوصفه هوية، تجانب أسبوعية ‘نيوزويك’ الأمريكية الصواب حين اعتبرته ‘قنبلة عقائدية’)، ألقاه بتاريخ 6 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2005 في ‘المعهد الوطني للديمقراطية’، تلاقى الخطّ المتشدّد للمحافظين الجدد مع المزاج الشخصي التبشيري للرئيس الأمريكي، حول قراءة الإسلام السياسي، وأسباب مناهضته.
وفي مستهلّ خطابه ذاك قلّب بوش الرأي في التسميات والمصطلح، قبل أن يستقرّ على الصيغة المفضّلة عنده: ‘البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَنْ يسمّيه إسلامو ـ فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغلّ الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والإنحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كلّ حرّية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة للإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضاً ضدّ المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة’.
بعد هذا الإستهلال، الذي يمزج المقدّمات الديماغوجية بنتائج تبسيطية لتلفيق حقّ يُراد منه الباطل وحده، ختم بوش الخطبة على نحو يجعل المرء يحار حقاً في ما إذا كانت المفردات قادمة مباشرة من قاموس الحرب الباردة: ‘إنّ الراديكالية الإسلامية، مثل الإيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الإيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة’.
هل ينتمي هؤلاء المسلمون إلى عصور غابرة، إذاً، وكيف تمكنوا من منازلة أهل الحديث والحداثة والعلوم والتكنولوجيا؟ هنا إجابة بوش: ‘إن الشيء الوحيد الحديث في رؤية هؤلاء المتشددين هو الأسلحة التي يستخدمونها ضدّنا. وأمّا ما تبقى من رؤيتهم السوداء فلا تعرّفه إلا الصورة الزائغة عن الماضي، وإعلان الحرب على فكرة التقدّم بذاتها. وأياً كانت الحصيلة القادمة في الحرب على هذه الإيديولوجيا، فإنّ النتيجة ليست محطّ شكّ: أولئك الذين يكرهون الحرّية والتقدّم قد حكموا على أنفسهم بالعزلة، والإنحسار، والإنهيار. ولأنّ الشعوب الحرّة هي التي تؤمن بالمستقبل، فإنّ الشعب الحرّ هو الذي سيمتلك المستقبل’.
وبين الإستهلال والخاتمة، ولكي لا تنقطع سلسلة التداعيات المذكِّرة ببلاغة الحرب الباردة فيتمّ رشقها سريعاً على مستقبل هذه القرن بأسره، أعاد بوش تأكيد ما يستهويه أكثر فأكثر في حكاية الحرب على الإرهاب: أنّ ‘الإيديولوجيا الإجرامية للإسلاميين الفاشيين هي محكّ القرن الجديد الذي نعيشه. وهذه المعركة تشبه، في أوجه كثيرة، الكفاح ضدّ الشيوعية خلال القرن المنصرم. فالراديكالية الإسلامية، تماماً كالإيديولوجيا الشيوعية، تتصف بأنها نخبوية، تقودها طليعة تعيّن ذاتها بذاتها، تنطق باسم الجماهير المسلمة. بن لادن يقول إنّ دوره تعليم المسلمين ما هو خير لهم وما هو ليس بخير. وما يعتبره هذا الرجل، الذي تربى في الرخاء والثراء، خيراً لفقراء المسلمين، ليس سوى أن يصبحوا قتلة وانتحاريين. وهو يؤكد لهم أنّ طريقه هي وحدها السبيل إلى الجنّة، رغم أنه لا يسير فيها هو نفسه’.
تخيّلوا الرئيس الأمريكي (الجزّار الأوّل المسؤول عن كلّ ما حاق بأهل فلسطين والعراق ولبنان من عذابات على امتداد رئاستَيْن) صار نصيراً لفقراء المسلمين ضدّ أغنيائهم، وليس الأغنياء من طراز فاسدي الأنظمة العربية من حكّام وأتباع وعملاء، بل ذلك الغنيّ الذي يُدعى أسامة بن لادن! تخيّلوه، قبلها، نصيراً للمسلمين من مذاهب أخرى (شيعة قانا وعيتا الشعب وعيترون والجنوب اللبناني بأسره، مثلاً!)، ضدّ ‘المسلمين الراديكاليين الفاشيين’؛ ثمّ تخيّلوه وهو يبدو كمَنْ يزاود على بلاشفة روسيا مطلع القرن الماضي، في التعبئة الطبقية! مساجلة هذا النسق في التفكير، وهو شائع واسع النطاق هنا وهناك في أوروبا والولايات المتحدة، تظلّ أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة، والطائل الوحيد من ورائها قد يكون تذكير الذات بأنّ الماضي يجرجر أذياله على الحاضر دون عناء، ويرخي سدولاً ثقيلة على المستقبل كذلك. فإذا كان الإسلام، مثل اليهودية والمسيحية، نتاج المشرق وعقيدة مئات الملايين في أربع رياح الأرض؛ فإنّ الفاشية نتاج أوروبي صرف، انفلت من عقاله الفكري والفلسفي ذات يوم، فامتدّت عواقبه الكارثية إلى مشارق الأرض ومغاربها. فهل سننتظر، في القريب العاجل، مصطلحات مثل ‘الإسلامو ـ نازية’، و’الإسلامو ـ شيوعية’ والإسلامو ـ ماسونية’؟ وكيف، في تفاقم حال كهذه، يمكن الحديث عن أيّ أفق لردم الهوّة الثقافية بين الشعوب والحضارات والديانات والعقائد؟
وفي مناسبة هذه الحملة الصليبية التي ينوي القسّ جونز خوضها، بالصيغة التي تبدو مسرحية من حيث الشكل، ولكنها أشدّ استفزازاً لمشاعر المسلمين من حيث المضمون؛ كما في كلّ مناسبة يندلع فيها السجال حول الروابط بين الإسلام والعنف، ثمّ العلاقة بين الإسلام والإرهاب استطراداً؛ فإنّ الغائب الأكبر هو أبعاد السجال السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية. وفي الجوهر الأعمق ثمة السياسة أوّلاً، قبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين في الواقع.
وقبل تيري جونز، القسّ المهووس المغمور، كان الواعظ بات روبرتسون (الأشهر والأقوى بما لا يقبل المقارنة، زعيم ‘التحالف المسيحي’، والمرشح في تصفيات الحزب الجمهوري لانتخابات 1988 الرئاسية)، قد رفض اعتبار الإسلام ديناً، ورأى فيه ‘حركة سياسية عالمية هدفها السيطرة على العالم بأسره، وإجبار الشعوب على الخضوع للشريعة’. قبلهما أتى كثيرون، وبعدهما سيأتي كثيرون، وثمة على الدوام زوايا دامسة الظلمة في أمريكا، وحرائق يتباين وقودها، دون أن يختلف لظاها.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس