أزمة «مسجد نيويورك» في ذكرى 11 أيلول
وحيد عبد المجيد
في أزمة «مسجد غراوند زيرو» التي تتفاعل منذ أشهر، وكما كانت الحال في أزمة هجمات 11 أيلول (سبتمبر) قبل تسعة أعوام، يغيب مسلمو العالم فيما يحضر من يتحدث باسمهم. ومع ذلك، جددت أزمة بناء المسجد الهجوم عليهم وعززت اتهامات موجهة ضدهم، الأمر الذي يضفي على الذكرى التاسعة لهجمات 11 أيلول طابعاً مختلفاً عنه في كل ذكرى سابقة.
فهذا ليس مسجداً للعبادة فقط، بل هو مركز ثقافي اجتماعي كبير يتضمن مسجداً ويبعد نحو ثلاثمئة وخمسين متراً فحسب عن الموقع Ground Zero، وهو الاسم الذي أطلقه «النيويوركيون» وأميركيون آخرون على أنقاض برجي مركز التجارة العالمي.
ولذلك يمكن فهم لماذا يستفز بناء هذا المركز – المسجد، وفي هذا المكان تحديداً، مشاعر بعض الأميركيين، بل كثير منهم، ويوفر لمتطرفيهم الفرصة لتجديد الحملة على الإسلام والمسلمين وصب زيت جديد على نار لم تخمد على رغم جهود الرئيس أوباما لإطفائها خلال الأشهر العشرين الماضية. فإضافة إلى الضغط الشديد على جرح لم يندمل، والزعم بأن المسلمين يريدون أن يصلوا فوق دماء ضحايا جريمتهم، يدّعون أن الهدف من بناء المسجد مواصلة الهجمة المسلحة التي وقعت قبل تسع سنوات، ولكن عبر «حرب ثقافية». ويعملون بدأب لإقناع أكبر عدد ممكن من الأميركيين بذلك، استناداً على إصرار دعاة بناء المسجد على رفض أي مكان بديل في الحي نفسه (مانهاتن) وليس في خارجه. وقد عرض ديفيد باترسون عمدة نيويورك عليهم قطعة أرض مناسبة في مانهاتن، فرفضوا.
هكذا وفروا فرصة لدعاة صراع الحضارات والأديان لادعاء أن هذا المسجد، ليس إلا امتداداً للطائرات الانتحارية، ورافداً من روافد حرب المسلمين! ولا يريد دعاة بنائه هناك أن يوفروا جهداً في مساعدة الأميركيين المتطرفين في نشر مزاعمهم التحريضية. وأكثر ما يساعدونهم به ادعاؤهم أن هذا المسجد هو قضية مسلمي العالم، مثلما زعم أسامة بن لادن و «القاعدة» أنهم شنوا «غزوة مانهاتن» باسم الإسلام والمسلمين.
غير أنه لا دليل على ذلك هذه المرة، كما في كل مرة يغتصب أحدهم حقاً – يستحيل أن يكون له – في الحديث باسم بليون مسلم. فلا انشغال بهذا الموضوع إلا في قليل من المواقع والمدونات في فضاء «الانترنت»، ومثلها في الإعلام المقروء والمرئي. وليست هذه أكثر من هوامش متناهية الصغر في العالم الإسلامي الواسع الذي لم يتحرك فيه أحد حتى على مستوى أقل مما شهدناه، مثلاً، في أزمة الرسوم المسيئة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). فليس المسلمون معنيين بهذا المسجد، وليسوا غاضبين لرفض بنائه.
ولكن هذه الحقيقة لا تصل إلى كثير من الأميركيين الذين يستفزهم إصرار نفر من مسلمي بلادهم على خوض معركة لا نتيجة لها إلا المزيد من الخسائر بالنسبة إلى العالم الإسلامي وقضاياه.
فهذا الذي يراد بناؤه ليس مسجداً، بل جدار جديد من الكراهية والبغضاء يصر بعض الأميركيين المسلمين على تشييده ليدفع أبناء دينهم في فلسطين وغيرها ثمنه فادحاً، لأنه يزيد تعاطف الرأي العام في الولايات المتحدة مع من يغتصبون حقوقهم ويعتدون عليهم. فلا سبيل إلى حل شبه عادل لقضايا العالم الإسلامي من دون سياسة أميركية أكثر توازناً وإنصافاً. وسياسة هذه شيمتها لا تتأتى من دون أجواء داخلية توفر مقوماتها الغائبة، ورأي عام يساندها.
ولذلك فعندما ترتفع نسبة الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة من 40 في المئة إلى أكثر من 70 في المئة، بسبب أزمة «مسجد غراوند زيرو»، لا بد من التنبيه إلى أن مأساة 11 أيلول يُعاد إنتاجها بعد تسعة أعوام. غير أن أحداً في العالم الإسلامي، سواء الدول والحكومات أو الهيئات والمؤسسات غير الحكومية، لا يسعى إلى تحدي الإدعاء القائل إن هذا المسجد يمثل قضية للمسلمين في العالم. فالإرهاب الفكري جاهز للتشويه وإلصاق التهم، وربما أيضاً التكفير.
فلماذا لا يتنادى مثقفون وسياسيون وعلماء دين مسلمون معروفون في العالم لإصدار وثيقة أو توجيه بيان إلى الرأي العام الأميركي لتوضيح أن «مسجد غراوند زيرو» لا يعني سوى من يسعون إلى بنائه وأقل القليل غيرهم. ولماذا لا يقولون مثل الذي قالته ذات يوم والدة زكريا موسوي المتهم بهجمات 2001: «تعرّض ابني لغسيل دماغ في لندن عندما التقى أئمة كانوا يدعون للكراهية والعنف باسم إسلام مزيف لا علاقة له بالدين الحنيف».
ولماذا لا يقولون للأميركيين إن المسلمين في العالم لا يحاربونكم بسلاح أو ثقافة أو دين، بل يريدون منكم موقفاً منصفاً تجاه من لا يكتفون باغتصاب أرض بعضهم، بل يرتكبون جرائم حرب بحقهم. ولماذا لا يشرحون أن الصراعات بين دول أو شعوب مسلمة وأخرى غير مسلمة ليست دينية، حتى لو زعم البعض ذلك. فالمسيحيون، مثلاً، جزء لا يتجزأ من حركة التحرير لإقامة دولة وطنية في فلسطين. وقضية كشمير لم تعد من بقايا الصراع الإسلامي – الهندوسي الذي أدى إلى انفصال باكستان. وإذا قُدر لشعبها يوماً أن يقرر مصيره، سيختار بين هنديتها واستقلالها، ولن يكون للانضمام إلى باكستان موضع في هذا.
ولماذا لا يعودون إلى التاريخ لإثبات خطأ أخذ أمة، أية أمة، بجريرة بعض أبنائها. ألم يكن السلافيون ضحايا اتهام مماثل لذلك الذي يوجه ضد المسلمين الآن، أولم يلاحقهم هذا الاتهام منذ أن أطلق الامبراطور فرانسوا جوزيف الحرب العالمية الأولى تحت شعار مواجهة «الإرهاب السلافي» . أولاً يجوز تضمين هذا البيان ما ينبه الأميركيين إلى خطأ نظرتهم إلى المسلمين على اختلاف أعراقهم وتواريخهم وثقافاتهم حين تعتمد على أحداث عنف أو تطرف؟.
وإذا كان ضرورياً أن يقال هذا للأميركيين، فعلينا أن نقوله لأنفسنا في شأن نظرتنا إليهم، وإلى الغرب عموماً. فما زالت النظرة الغالبة إليهم في العالم الإسلامي ضيقة وساذجة تستحضر الصراع التاريخي وتختزن صوراً نمطية وتميل إلى الاختزال والتفسير التآمري. وعلينا أن ننظر في مرآة صادقة، وأن نصارح أنفسنا بأننا أكثر تعصباً تجاه الآخر – كل آخر- حتى داخل بلادنا.
وهذا قليل من كثير يصح أن نقوله لأنفسنا في هذه المناسبة، التي تفرض علينا التفكير بمسؤوليتنا عن ازدياد ما يسمى «الإســـلاموفوبيا» في أوروبا أيضاً، بسبب إصرار بعضنا على فرض رموز يظنونها إسلامية على غيرهم في بلادهم.
فإذا كان لنا أن نقول للأميركيين ما ينبههم إلى مآرب دعاة صراع الحضارات والأديان عندهم، فعلينا أن نصارح أنفسنا بمثل ذلك بالمقدار نفسه وأكثر.
الحياة