صفحات سورية

غيغا»: هكذا أصبح الأسد شريكاً ولاعباً لا يمكن الاستغناء عنه

null
منذ عقود طويلة، تمثّل دمشق قطب الرحى في المعادلة الشرق أوسطية. وقد يكون العقد الأخير في ظل حكم الرئيس بشار الأسد أكثر إثارةً للجدل، نظراً إلى التحولات الدولية، والحروب الكبيرة والصغيرة التي كانت سوريا أحد أهدافها. من هنا كانت السياسة السورية في نظر الباحث الألماني أندريه بانك، مثيرة، نظراً إلى نجاحها في تحويل البلد من منبوذ سياسياً إلى شريك يعتمد سياسة متوازنة بين العلاقة المصلحية مع الغرب والحفاظ على روح المواجهة بدعم حركات المقاومة في المنطقة
أندريه بانك
تسلّم الرئيس بشار الأسد الرئاسة في عام 2000 فوجد تركة كانت عبارة عن رهانات كبرى في السياسة الخارجية: مفاوضات سلام متعثرة مع إسرائيل، وسلام بارد مع تركيا، وروابط صعبة مع دول الخليج، وعلاقات متوترة مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. لكنّ سوريا مع وصوله إلى الحكم، في نظر العالم الغربي، مختلفة جوهرياً: بدأ الأسد الابن ولايته حاملاً للأمل، لكنه سرعان ما أصبح منبوذاً. اضطر إلى سحب جيشه من لبنان في عام 2005، تحت الضغوط الدولية. لكن منذ عام 2006، ومع عودة نهوض السياسة السورية الإقليمية، تغيّرت النظرة إلى الرئيس الشاب من منبوذ إلى شريك محتمل في الشرق الأوسط.
معالم السياسة الخارجية السورية
في الذكرى السنوية العاشرة لتوليه الرئاسة في 17 تموز 2010، يمكن بشار الأسد الاحتفال بطريقة ملائمة. في السياسة الداخلية، لمع حكمه، على الرغم من تحديات ضخمة مؤقتة وجزئية كانت تترسّخ في ذاك الوقت. الاستقرار الداخلي في اندفاع، وكان يسير بالتوازي مع تصاعد في وتيرة السياسة الإقليمية السورية في الشرق الأوسط، منذ عام 2006، التي بدورها جاءت نتيجة مباشرة لتأثير كبير من مكاسب حلفائها في المنطقة ـــــ حزب الله وإيران ـــــ. حظيت سوريا من جديد بموقع مركزي في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بعد عام 2006، موقع تجذّر بفضل إعادة توجيه السياسة الخارجية في ظل بشار الأسد.
على الأرجح، السياسة الخارجية السورية الشرق أوسطية، اتّسمت منذ عام 2000 بالاستمرارية، النابعة على نحو أساسي من معلمين استراتيجيّين اثنين.
أولاً، تصرّ سوريا على الاستقلال السياسي ضد التدخل الخارجي، وجزء من هذا [الإصرار] الروابط الاستراتيجية مع إيران وحزب الله وحماس.
هذا الموقف المتميّز للسياسة الخارجية السورية، عزز في السنوات الأخيرة خطاب «المقاومة»، الذي يُستحضر ضد الهيمنة الأميركية الإسرائيلية. وذلك بموازاة تصريحات حزب الله وحماس.
بذلك، تنتمي سوريا حالياً إلى بعض الدول العربية، التي تُحبّذ في قسم كبير من سياستها الخارجية التماهي مع الشعوب العربية، ما يُعدّ عاملاً مهماً لاستقرار الحكم «في الداخل».
الأمر الثاني، يتعلق بالسياسة السورية الشرق أوسطية بعد عام 2000، من خلال استراتيجية قوية مرنة من شأنها تحقيق التوازن تجاه النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة.
هذا التزامن بين المقاومة وإظهار التوازن ـــــ في الوقت نفسه مع قليل من الشفافية في عملية صنع القرار ـــــ حتى في كثير من الأحيان، ينمّ عن صياغة وتنفيذ مؤثر في السياسة الخارجية السورية.
وعلى الرغم من الاستمرارية في السياسة الخارجية خلال العقد الماضي في ظل بشار الأسد، تبدّلت المواقف السائدة للحكومات في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا: في الفترة ما بين عام 2000 و2005، حدث أول تبدل غربي، ولا سيما في المنظور الأميركي، [تحوّل بشار الأسد] حامل الأمل من «منبوذ سياسياً»، ـــــ بسبب موقفه المناهض للغرب ـــــ إلى لاعب لا يمكن تجاهله، وشريك محتمل للغرب في الشرق الأوسط. هذه صورة سوريا المتقلّبة لحامل الأمل من «منبوذ» إلى شريك محتمل، تعكس من جديد السياق الأوسع للمتغيّرات في الشرق الأوسط منذ عام 2000، التي أحاطت بالسياسة الخارجية وأثّرت فيها.

من حامل الأمل إلى «منبوذ»، 2000 ـــ 2005
حين تسلّم بشار الأسد الرئاسة في 17 تموز 2000، لم يتنبّه فقط إلى التوقعات الكبرى للسوريين بشأن المسائل الاجتماعية والاقتصادية والإصلاحات الداخلية. بل أيضاً، على الصعيد الدولي، أصبح ينظر إليه كمصدر أمل، حيث كان ينبغي له من خلال سياسات الأحلاف إخراج سوريا من التهميش في الشرق الأوسط.
وكان رهان السياسة الخارجية كبيراً: في أيار عام 2000، كانت المفاوضات السورية الإسرائيلية متوقفة، بسبب إصرار سوريا على تحقيق هدفها المركزي وهو الانسحاب من الجولان المحتل منذ حزيران في عام 1967. كذلك، «سلام بارد» مع تركيا بعد حرب كانت وشيكة الوقوع في عام 1998، وروابط صعبة مع دول الخليج العربي وعلاقة شاقة مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، عرقلت انطلاق السياسة الإقليمية لبشار.
مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول 2000، وفوز أرييل شارون في الانتخابات الإسرائيلية في شباط 2001، تجمّدت المباحثات، المتوترة عملياً، بين إسرائيل وسوريا، مجدداً. بدت سوريا من ناحية قاسية وشديدة في نقدها لإسرائيل، بيد أنها أعلنت لاحقاً، مراراً وتكراراً، استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات.
وتخلّفوا (السوريون) عن الحضور [إلى المفاوضات] بسبب تصاعد العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى عام 2008. على خلفية هذا الركود، نوّعت سوريا من علاقاتها الإقليمية بعد عام 2000: فإلى جانب التقارب مع تركيا، بنت علاقات مع مصر والأردن ودول الخليج منذ عام 2001، أيضاً علاقات اقتصادية مع العراق، الذي كان يرزح تحت عقوبات الأمم المتحدة منذ عام 1991. ومهّدت الطريق لمفاوضات بشأن اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
هذه المرحلة الأولى من التحول في السياسة الإقليمية من عام 2000 حتى عام 2002، لم تُظهر تغيّراً في التصور الغربي تجاه سوريا، من حاملة أمل إلى «منبوذة». فقد حدث مقابل ذلك قليل من القمع لحركة سورية إصلاحية ديموقراطية في الداخل السوري، عُرفت بربيع دمشق عام 2001، فيما أعادت الولايات المتحدة، على الأرجح، توجيه سياستها في الشرق الأوسط في ظل إدارة جورج بوش.
في أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 أيلول عام 2001، اعتمدت الحكومة الأميركية استراتيجية تغيير النظام بالقوة في العراق، الجار المباشر لسوريا التي عارضت بشدة التدخل العسكري، وتأثرت به مباشرةً.
وعلى الرغم من التعاون الأمني الكثيف بين الاستخبارات السورية والأميركية في أعقاب 11 أيلول، أصبحت سوريا بنحو ملحوظ بعد عام 2002 ضمن دائرة الاستهداف في الشرق الأوسط، لتغيير نظامها بالقوة. وأعلنت الإدارة الأميركية سوريا ـــــ مثل إيران ـــــ «دولة مارقة» و«منبوذة» سياسياً في المنطقة.
مباشرةً، بعد انتهاء اجتياح العراق في أيار عام 2003، دعا المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية سوريا إلى وقف دعمها المنظمات الفلسطينية المسلحة، حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، والانسحاب الفوري لقواتها الباقية منذ انتهاء الحرب اللبنانية في عام 1990، من لبنان. كذلك دعوها إلى التعاون مع نظام الاحتلال في العراق. أما ثمن تحقيق هذه المطالب، فسيكون التخلي عن جميع الأوراق السياسية السورية «الرابحة»، في مفاوضات محتملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل أو الاتحاد الأوروبي.
لذلك، استنتجت الحكومة السورية أن الجيش الأميركي لا يستطيع شنّ حرب مباشرة على بلادها، فاعتمدت منذ صيف عام 2003 استراتيجية «توازن مرنة»: فمن خلال تعاون استخباري مع واشنطن إلى حدّ كبير، تفاعلت القيادة السورية مع وضع معين: حيناً، دعمت «المقاومة العراقية»، وحيناً آخر شدّدت الرقابة على الحدود نسبياً، لتحقيق الاستقرار للاحتلال الأميركي في العراق.
حتى في لبنان، واصلت دمشق بعد عام 2004 سياستها الخارجية المتوازنة. وسوريا ـــــ مقارنةً بتعاملها مع سياق الحرب على العراق ـــــ وقعت تحت ضغط خارجي كبير، كان سبباً لتصاعد النزاع، ألا وهو الجدل في شأن تمديد ولاية الرئيس اللبناني المؤيّد لسوريا، إميل لحود، أواخر صيف عام 2004، وما بعده.
الصفحات السورية تقلّبت حتى الأخيرة منها، إذ اشترطت (دمشق) على رئيس الوزراء آنذاك، رفيق الحريري، تمديد ولاية (لحود). لهذا، كانت الولايات المتحدة وفرنسا في ظل الرئيس (جاك) شيراك، حاسمتين في الحدّ من النفوذ السوري في لبنان.
من بدايته، ذهب قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الصادر في 2 أيلول 2004 إلى المطالبة بإنهاء التدخل الخارجي السوري في السياسة الداخلية اللبنانية، والنزع الكامل للسلاح من الميليشيات اللبنانية (حزب الله) وغير اللبنانية (الفلسطينية)، كذلك دعا إلى عدم تمديد ولاية لحود. في اليوم التالي لاعتماد هذا القرار، مدّدت الغالبية المؤيدة لسوريا في البرلمان اللبناني ولاية لحود.
وجاء اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، في 14 شباط 2005، ليسبّب تدهوراً في موقف سوريا في لبنان، وفي جميع أنحاء العالم بنحو درامي كبير. الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية شاركت معسكر الحريري، «تحالف 14 آذار» في رؤيته، الذي أنحى باللائمة على سوريا في اغتيال الحريري. بعدها أُجبرت سوريا على سحب قواتها من لبنان.
وكان الانسحاب القسري للقوات السورية من لبنان، وإنشاء لجنة دولية للتحقيق في قضية مقتل الحريري، التي ذهبت في البداية إلى الحديث عن تورّط سوري، يمثلان هزيمة سياسية للرئيس الأسد.
لكن، بعدما عزّز الأسد موقعه عن طريق إعادة إجراء تغييرات إدارية (داخل سوريا)، أصبح بإمكانه منذ بداية 2006، في لبنان، تأسيس تحالف بين حزب الله والحركة ذات النفوذ في الشارع المسيحي التابعة للجنرال السابق، ميشال عون، لمواجهة هيمنة «تحالف 14 آذار» المناهض لسوريا.
وبلغ بهم الأمر امتلاك القدرة على النقض، لتغيير القرارات السياسية الرئيسية، وبالتالي منع تعيين مرشح رئاسي مناهض لسوريا.
في ما سبق، أي في عام 2005، تمكّنت سوريا انطلاقاً من وضعها البالغ الحساسية، ومن موقع بشار الأسد المثير للجدل، أن تحرر السياسة الخارجية. مع ذلك، بقيت «منبوذة» في نظر الولايات المتحدة، وإلى حدّ ما في نظر الاتحاد الأوروبي. غير أن ديناميّتها في السياسة الإقليمية بعد عام 2006، مكّنتها من إحراز نفوذ واضح في الشرق الأوسط، وقاد ذلك إلى تخفيف التدخل الخارجي تدريجاً، وبالتالي تبديل النظرة الغربية تجاه سوريا باعتبارها شريكاً ممكناً.
القفزة الإقليمية بعد عام 2006
انبعثت السياسة الإقليمية السورية من جديد في الشرق الأوسط نتيجة النزاعات المتنامية في العراق ولبنان وفلسطين، التي كانت مفيدة لدمشق.
في العراق، بلغ تصاعد العنف ذروته في شباط 2006، حين فُجّر مسجد العسكري في سامراء، فرأت سوريا أن هذا العمل بين نزاعات العنف الطائفي في الشرق الأوسط. وأظهر هذا الردع ضد التدخل الخارجي في سوريا، طبيعة البنية الاجتماعية المتكوّنة من عدد من الطوائف، التي تتميز بخطوط انقسامات عرقية وطائفية، وخصوصاً أن سوريا تستضيف النسبة الأعلى من عدد اللاجئين العراقيين.
وعلى النقيض ممّا يحدث في العراق من تصاعد في موجة العنف، ورغم أعداد اللاجئين العراقيين في سوريا، قد تكون سوريا مجرد «جزيرة للاستقرار».
لقد استفادت من هيمنة التحالف الشيعي الكردي على الحكومة في العراق، في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي، وخصوصاً لجهة تحسين العلاقات الاقتصادية الثنائية.
في لبنان، بدءاً من عام 2006، نجحت سوريا، بعد الضعف الذي أصابها عامي 2004 و 2005، في العودة سياسياً بطريقة غير مباشرة: من خلال تزايد نفوذ حزب الله الواضح.
وفي حرب لبنان خلال شهري تموز وآب، قتل ما يقرب من 1200 شخص، إضافةً إلى التدمير الهائل في البنية التحتية المدنية والضعف العسكري الذي أصاب حزب الله؛ غير أن الحزب الإسلامي خرج منتصراً سياسياً من حرب غير متكافئة، ولا سيما أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حظي بتعاطف كبير في المجتمعات العربية على خلفية موقف المقاومة.
وفي الوقت الذي يرتبط فيه الأسد ونصر الله بعلاقة وثيقة في ما يختص بتحالف المقاومة، وتعزيز دور سوريا في الشرق الأوسط بطريقة عميقة، كانت الحكومات الموالية للغرب في مصر والأردن والسعودية متسامحة مع الهجمات الإسرائيلية. إجمالاً، قادت حرب لبنان 2006 إلى «حرب باردة عربية جديدة»، سوريا، في معسكر المنافس بنجاح لإسرائيل والسعودية ومصر في الشرق الأوسط.
في السياسة اللبنانية الداخلية، بعد حرب عام 2006، توصل اللبنانيون، عقب فترة طويلة من التجاذبات، إلى اتفاق في الدوحة برعاية دولة قطر في 21 أيار 2008، في ما يتعلق بمسألة الرئيس الجديد.
ومن خلال مرشح التسوية ميشال سليمان، بقيت المصالح السورية ملحوظة، وذلك بتأليف حكومة وحدة وطنية في تموز 2008، شارك فيها حلفاء سوريا، حزب الله والتيار العوني، اللذان يملكان حق نقض القرارات الحكومية.
وعلى الرغم من إضعاف موقع حزب الله في الانتخابات البرلمانية اللبنانية في أيار 2009، وتأليف الحكومة الجديدة برئاسة سعد الحريري، بقي (منذ 2009) النفوذ السوري قائماً من خلال مشاركة حلفاء سوريا في الحكومة، وبالتالي بما يملكونه من حق نقض. وأظهرت محاولات التقارب من دمشق منذ نهاية عام 2009، التي قام بها مناهضان سابقان لسوريا في لبنان، رئيس الوزراء الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بوضوح، أن تجاهل دور سوريا في لبنان غير ممكن.
في ما عدا العراق ولبنان، استطاعت السياسة السورية الإقليمية أيضاً الاستفادة من التطورات في فلسطين منذ عام 2006.
ففي الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني 2006 ، فازت حركة حماس الإسلامية الموالية لسوريا وحظيت بالغالبية المطلقة. وظهرت علاقات جيدة مع حماس، التي أنشأت مكاتب خارجية في دمشق في عام 1999. وبذلك امتلكت سوريا إمكانيات أكبر للتأثير في السياسة الداخلية الفلسطينية.
وبعد استفحال النزاع بين فتح التي تسيطر على السلطة الفلسطينية وحماس، أسهمت سوريا في محاولات وساطة قامت بها السعودية في شباط 2007، حيث وُقِّع اتفاق مكة الذي يقضي بتأليف حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ويسهم في تعزيز الموقف الفلسطيني تجاه إسرائيل.
وبما أن حكومة الوحدة الوطنية انهارت في حزيران 2007، مرةً أخرى، نتيجة لتصاعد أعمال العنف آنذاك، فُرض أمر واقع جديد قُسّمت بموجبه الأراضي الفلسطينية إلى مناطق تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وأخرى تهيمن عليها حركة حماس، مدعومة من سوريا.
هذا الموقف المواجه في السياسة الإقليمية، الذي اتخذته سوريا، ولا سيما خلال حرب غزة 2008ـــــ 2009، والوساطة السورية لمصلحة حركة حماس، تماهت مع وجهة نظر الجماهير العربية الإسلامية.
وباختصار، أوضحت التطورات التي لاءمت سوريا، في الصراعات المركزية في العراق ولبنان وفلسطين، أنها حقّقت نفوذاً واضحاً لهذا البلد في الشرق الأوسط بعد عام 2006.
ويرتبط هذا ارتباطاً وثيقاً بتزايد أهمية إيران الإقليمية، التي استفادت أيضاً من سياقات النزاع الثلاثة، وتمكنت من أن تصبح قوة إقليمية أولى في الشرق الأوسط.
تحالفات سورية متنوعة
منذ عام 2006، نشطت سوريا في محاولة منها لتوسيع تحالفاتها وعلاقاتها الدولية في الشرق الأوسط.
في المرحلة الأولى من حكمه، بين عامي 2000 و2002، عمل بشار الأسد على تحسين مرحلي للعلاقات الثنائية مع كل من مصر والعراق والأردن والسعودية وتركيا. محاولات التقارب تجددت إلى مدى أبعد، خلال سنتي الأزمة 2004 و2005، بيد أن التجديد الجلي في سياسة التحالفات لدى سوريا منذ عام 2006، هو ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا. فالدينامية الهائلة التي صاغت العلاقات الثنائية بين أنقرة ودمشق، أتت من الجانب السوري لأسباب استثمارية مباشرة، بما يتعلق بالسوق التركي الكبير، الذي يستوعب الصادرات السورية، إضافةً إلى إعادة توزيع عادل ومنتظم للمياه من نهر الفرات.
هذه المصالح السياسية الاقتصادية السورية لدى «الجار الأكبر» في الشمال، ترتبط بالجانب التركي في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، الذي أعاد توجيه السياسة الخارجية لبلاده في الشرق الأوسط.
هذا يؤدي، إلى جانب الاعتماد الاقتصادي، إلى أداء سوريا دوراً رئيسياً، ولا سيما في ظل العمل الدبلوماسي المتنامي لتركيا في المنطقة.
فقد أبدت تركيا في 2007 ـــــ 2008 استعدادها لمحاولة إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، لهذا أدّت دور الوسيط في مفاوضات للسلام غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، أعلنت في أيار 2008 رسمياً. فما حققته في ذلك من اختراق جديد، جعلها لاعباً مؤثراً في منطقة الشرق الأوسط.
لكن، بسبب حرب غزة 2008ـــــ2009، أصيبت علاقات التعاون التركية الإسرائيلية بضرر بالغ. ووصلت إلى ذروة السلبية (مؤقتاً) جرّاء الهجوم الإسرائيلي على سفن الأسطول التركي المتجه إلى غزة في 31 أيار 2010. وتحولت أنقرة إلى منتقد شديد للقوات الإسرائيلية في المنطقة.
هذه النهاية للمفاوضات السورية الإسرائيلية، قادت منذ بداية 2009 إلى تقارب آخر تركي سوري، أدّى إلى صدور لوائح خاصة بنظام المعاملة بالمثل في ما يتعلق بإلغاء تأشيرة الدخول بين البلدين. هذا إضافةً إلى مواصلة توقيع اتفاقات اقتصادية، بما في ذلك في قطاع الطاقة.
فمع الانخفاض الملحوظ في مستوى العلاقات التركية الإسرائيلية منذ حرب غزة، أصبحت العلاقات السورية التركية منتصف 2010، على مستوى شراكة.
ففي بداية التسعينيات من القرن الماضي، كانت العلاقات بين دمشق والرياض وثيقة وقائمة على التعاون، غير أن اتهام السعوديين لسوريا بالمسؤولية عن قتل الحريري في شباط 2005، وانتقادهم لحزب الله الموالي لسوريا واتهامه ببدء الحرب في تموز 2006، أوصلت العلاقة إلى الدرك الأسفل.
نتيجة تنامي أهمية السياسة الإقليمية لحلف المقاومة، بعد صيف 2006، وتمتّع سوريا بنفوذ في الشرق الأوسط، تقاربت دمشق والرياض بدءاً من عام 2007 من جديد. وكانت الإشارة الأولى لهذا التقارب مساهمة سوريا في صياغة اتفاق مكة بين فتح وحماس. لذا تتالت بعد 2007 مباحثات منتظمة سعودية ـــــ سورية بشأن مسألة تأليف حكومة في لبنان، ووصلت هذه المباحثات إلى تسوية حل في النهاية، في تشرين الثاني 2009، تقضي بتأليف حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري الموالي للسعودية. وأصبح بإمكان القوى الموالية لسوريا، نتيجة هذه التسوية، القيام بالنقض (لقرارات الحكومة).
وظهرت العلاقات البراغماتية بين دمشق والرياض على نحو متزايد، أثناء دعم سوريا الموقف السعودي في قضية الحرب بين المتمردين الحوثيين والجيش اليمني على الحدود الجنوبية للسعودية، حيث اتخذت سوريا موقفاً ضد حليفتها التقليدية إيران.
ونجحت سوريا في بسط نفوذها الإقليمي وإحراز استقلالها بعد 2006، وفي تنويع التحالفات، وتحسين العلاقات الدولية في الشرق الأوسط.
تجلّى ذلك، أولاً، وبوضوح، في السياسة الاقتصادية، كما في توسيع دبلوماسية نسج علاقات مع قوة إقليمية مفترضة في الشرق الأوسط، تركيا.
ثانياً، منذ سنتي الأزمة 2004ـــــ 2005، أعادت سوريا من جديد بناء علاقاتها البراغماتية مع السعودية، التي كانت وستبقى أهميتها المركزية في تنسيق المواقف (بين البلدين) في لبنان.
كذلك، نجحت سوريا في إنشاء علاقات جيدة مع قطر، الوسيط العربي الجديد في النزاعات، ومع جارها الأردن أيضاً. لكن من وجهة النظر السورية، تعدّ العلاقات الثنائية مع مصر صعبة.
من «منبوذ» إلى شريك؟
لقد احتلّت سوريا، حالياً، في ظل بشار الأسد، مكانة مهمّة في الشرق الأوسط، لأنها أجرت محادثات من أجل إقامة علاقات تعاون مع لاعبين ذوي تأثير، تركيا والسعودية وقطر، من دون أن تتخلى عن تحالفها القائم مع إيران وحزب الله وحماس.
هذا التنوّع في العلاقات أتاح لسوريا استخدام استراتيجيتها التقليدية للسياسة الخارجية المرنة ضد التدخل الخارجي. فبالتوازن مع مواصلتها خطاب المقاومة، الموجه اليوم في المقام الأول ضد حكومة الليكود الإسرائيلية، تحظى سوريا، على حد سواء، بدعم داخلي من السوريين ومن العالم العربي الإسلامي.
بعدما حافظت سوريا على استقلاليتها منذ عام 2006، سمح هذا الوضع الفريد بالانفتاح على الغرب، حيث كانت لها مشاركتها في مؤتمر أنابوليس في تشرين الثاني 2007، المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل حتى بدء حرب غزة نهاية 2008. كذلك فتحت علاقات واقعية مع المملكة العربية السعودية الموالية للغرب.
وتزامنت التغيّرات في السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط، منذ عام 2006، مع تحولات واضحة في توجهات السياسة الخارجية الأميركية (من إدارة الرئيس جورج بوش إلى إدارة خلفه باراك أوباما)، وداخل الاتحاد الأوروبي (وخصوصاً من الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى نيكولا ساركوزي). أيضاً تغيّرت الرؤية الغربية السائدة تجاه سوريا تحت حكم بشار الأسد: على الرغم من أن صورة سوريا كدولة «منبوذة» سياسياً استمرت جزئياً لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
منذ عام 2008 ـــــ 2009 حتى اليوم، أصبحت سوريا لاعباً لا غنى عنه على نطاق واسع في الشرق الأوسط، حيث أدّت دوراً في حل النزاعات الإقليمية، ولا سيما في فلسطين ولبنان والعراق، وأظهرت أنّ بإمكانها أن تكون شريكاً مهماً للغرب.
علاوةً على ذلك: بسبب تبعيتها الاقتصادية للخارج والمرونة النسبية، استطاعت سوريا، من خلال استراتيجية المعاهدات (مع الدول)، أن تنعش التغييرات السياسية الأساسية.
ويستند هذا إلى افتراض أن سوريا قد «حلّت مشكلتها الخارجية» من خلال تحالف المقاومة، ويمكن من خلال القرارات الدينامية في السياسة الإقليمية التي توجهها المصالح الغربية.
هذا المنظور الاستراتيجي، الذي يمثله على صعيد الاتحاد الأوروبي ساركوزي، وفي الولايات المتحدة أوباما، ذهب إلى أن سوريا، في ظل بشار الأسد حالياً، بلغت موقعاً متزايداً في الشرق الأوسط، إلا أنها واجهت صعوبات جمّة في التحول نحو قبولها شريكاً موثوقاً به. فداخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تزال هناك تحفظات كبيرة تجاه سوريا، على النحو المبيّن في السياسة الأميركية المتناقضة تجاه دمشق: يظهر ذلك من خلال الإعلان الرسمي الأول منذ عام 2005 للسفير الأميركي لدى دمشق (روبرت فورد) في آذار 2010، الذي ظهر كخطوة واضحة نحو تطبيع العلاقات الثنائية، في وقت مدّد فيه الكونغرس الأميركي في أيار 2010 العقوبات على سوريا. هذه العلاقة الناقصة إلى جانب شدة الموقف السياسي، خلقتا شكوكاً كبيرة لدى السوريين.
ويبدو أن بشار الأسد غير واثق بما يتعلق بالمنافع الملموسة التي يمكن أن تحصّلها سوريا من خلال التوجه الأساسي لسياستها الخارجية في الشرق الأوسط. وبسبب التحولات الإقليمية في المنطقة، وإحدى إشاراتها تزايد النفوذ التركي وإضعاف مصر، أصبحت سوريا أقل اعتماداً على علاقات متقاربة مع الغرب، على الأقل على المدى القصير. فدمشق، على ما يبدو، شريك مفضّل لكل من أنقرة وطهران، وبدرجة أقل لواشنطن وباريس أو القاهرة.

(صدر عن معهد «غيغا» الألماني المستقل،
للدراسات الشرق أوسطية)
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى