صفحات ثقافية

رحيل محيي الدين اللباد

null
رسام الكاريكاتور و«صانع الكتب» محيي الدين اللباد عاكسه الموت فبقي واحداً من أهرام الفن
أخيراً، عاكس الموت، أمس الأول، محيي الدين اللباد، بعدما كانت السياسة تعاكسه، وتعاكسه انحرافات بعض وسائل الإعلام، وتراجع العالم عن حداثة الستينيات والسبعينيات الفنية، بحسبه. عاكسه الموت، لكننا سوف نسخره لإضاءته أكثر، هو الفنان الكبير الذي انتهج التواضع أسلوباً في حياته الشخصية، والذي لم يكن يحسن وضع نفسه تحت الأضواء. هو واحد من رواد فن الكاريكاتور الكبار الذين ملأوا مصر والعالم العربي برسومهم وأفكارهم وأثْروا هذا الفن، واستطاعوا أن يكونوا مؤثرين في أجيال تلت. نتذكره مع صلاح جاهين وجورج البهجوري وحجازي وإيهاب شاكر وآخرين.
قد تكون مشكلة اللباد، كسواه من الكبار، أن أحلامه كانت أكثر مما تسمح الظروف المحيطة به. فهو بالإضافة إلى مساهماته في «روزا اليوسف» و«صباح الخير»، ثم اتجاهه أخيراً للكتابة في «الهلال» و«الكتب وجهات نظر» و«أخبار الأدب»، وبالإضافة إلى ما ألف من كتب، وحمله همَّ سلسلة ألبوم «نظر»، كان يحلم دائماً بإصدار دورية عربية مختصة بفن الكاريكاتور، وأخرى مختصة بالأشرطة المرسومة، وبملاحقة ما أحدثه الكومبيوتر، كوسيط، من تغيير لصفات هذا الفن، ووكان يخطط للكثير من المشاريع لكتب الأطفال.
لم يكن رساماً مكتفياً بالمهنة أو «سعيداً» بفنيته وحدها، إنما كان هاجسه الدائم البحث عن أفكار تتزاوج مع الفن، وعن كتابة تتساوى مع الرسم، فهو الداعي إلى رسم الكلام وكتابة الأشكال. فهو الفنان المتنقل بين الرسم للصغار وللكبار، والغرافيك، وهو الذي كان يحب أن نصفه بـ«صانع الكتب». وفي كل شخصيته الفنية المركبة هذه لم يساوم يوماً على قناعاته، ولم يشكل السائدُ يوماً سلطة عليه. كان ناقداً جارحاً للسلطة في مجتمعه من جهة، وللحداثة التي رآها تتراجع كثيراً عن مراحل مضت. حتى أنه لم يرَ أن العالم يعيش نهضة بل تراجعاً.
كأن هذه السوداوية البسيطة كانت من ضرورات التهكم والسخرية اللاذعة لرسام الكاريكاتور، وضرورات كتابته هو عن الحماقة التي يتلذذ بوصف أصحابها.
كنا نرى دائماً في اللباد ذلك الفنان الذي عرف كيف يختصر تاريخ الكبار بشخصه، قبل أن يكون متميزاً ومتدفقاً وصاحب نتاج يحمل روح العصر.
في أي حال، أصدقاؤه وزملاؤه المصريون والعرب أكثر قدرة على إضاءة شخصية طرية كطفل وشرسة كمحارب.

وداعاً «طفلنا» الأحب محيي الديـن اللبّاد
طلال سلمان
فقدت الثقافة العربية، يوم أمس الأول، السبت، واحداً من روادها هو «صانع الكتب» المبدع محيي الدين اللباد: رسام الكاريكاتور المميز بأفكاره قبل خطوطه، وأحد المؤسسين لمجلات الأطفال والكتب الموضوعة لهم بعد دراسة وتأن واجتهاد في التوغل في عالمهم السري الغامض والمبهج والمثير للدهشة.
لقد اقتحم هذا «الطفل الأسطوري» الميدان الفسيح لعالم الطفل العربي الذي لم يكن يحظى بالحد الأدنى من الاهتمام، على مستوى تثقيف وجدانه وذاكرته وعينه، بل غالباً ما كان يترك ـ كمستجد في الدخول إلى عالم القراءة ـ للمطبوعات الأجنبية، كتباً ومجلات ومسلسلات تلفزيونية عنصرية في مضمونها، ركيكة في أفكارها ورسومها، وغريبة عن وعيه وموروثه الثقافي.
وهكذا صار الطفل العربي موضوعه الأثير وشاغله الدائم، إلى جانب جهده الدائم في تصحيح مفهوم الأهل وسبل تثقيف أطفالهم واستدراجهم إلى عالم الكبار بمغريات تختلط فيها أسباب المعرفة بالتسلية والترفيه والمتعة البصرية.
أراد محيي الدين اللباد، وحاول، فنجح غالبا، وأعجزته الإمكانات أحيانا، وأفشله نقص اهتمام الأهل، ومن قبلهم الدولة بأجيال الغد، ثقافة ومعرفة واطلاعاً ومنظوراً مستقبلياً لموقعهم ودورهم في مجتمعهم. كتب ورسم وأبدع فتميز في فن الكاريكاتور، ونال جوائز عالمية قيمة في أكثر من معرض مفتوح لكبار الرسامين في العالم. ثم اهتم بصناعة الكتاب فأنتج مجموعة من الأغلفة التي تضيف إلى النص فتكمله أحيانا، او تؤكد مضمونه او تشرح القصد منه وتوضح ما اكتفى الكاتب بالتلميح إليه مبتعداً عن التصريح لأسباب يمكن فهمها، بينها الخوف من السلطان سواء أكان سيافاً جاهلاً إم طاغية يقوده التعصب إلى معاداة المجتمع وإعلان الحرب عليه.
لعب محيي الدين اللباد دوراً تأسيسياً في مختلف المجلات والكتب وسائر المطبوعات الخاصة بالأطفال، من مجلة «السندباد» في القاهرة، إلى «دار الفتى العربي» في بيروت التي استدرج إليها أقلام الكتّاب الكبار فأنتجت أرقى ما أنتج في هذا المجال. كذلك فهو من وضع التصميم لمطبوعة «العربي الصغير» التي كانت تصدرها وتوزعها مجلة «العربي» الصادرة في الكويت مع كل عدد من أعدادها.
وحاول اللباد فنجح في تحديث أساليب كتابة الحرف العربي للصحف خاصة والمطبوعات عموماً… كما قدم إسهاماً لافتاً في تطوير الإخراج الصحافي، فكان كمن يؤسس لمكتبة عربية جديدة تستهل نشاطها بالطفل ثم تتابع نموه ـ كقارئ ـ فتقدم له نمطا مختلفاً في إخراجه وحرفه وتشكيله عن السائد المنقول أو المتبّلد بالتقادم.
وبالنسبة إلى «السفير» بالذات والتي كان محيي الدين اللباد بين من أسهموا في تطوير حرفها وصيغة إخراجها بما يضيف إلى مادتها التحريرية قيمة بصرية، فإن فقدان هذا الصديق الكبير قد أصابها بصدمة حزن عميق، إذ كنا دائماً على موعد معلق معه من أجل التحديث والتطوير.
ها هو اللباد يلتحق بالرواد الكبار الذين غادرونا بلا وداع، حسين بيكار وحسن فؤاد وعبد الغني أبو العينين، وصلاح جاهين وبهجت عثمان أو دخلوا في الصمت مختارين مثل البهجوري وأحمد حجازي ونبيل السلمي ورجائي وغيرهم ممن أطلقتهم مجلة «روز اليوسف» ورعتهم مجلة «صباح الخير» ثم دار الهلال بقيادة أحمد بهاء الدين قبل ان تطفأ الأضواء في القاهرة المحروسة ليعم الظلام في الأرض العربية.
لقد ترك لنا معالم طريق إلى التقدم عبر كتاباته ـ البصرية حيث يوائم بين المقروء والمنظور من أجل اكتمال المعنى، وهي فلسفة كرس لها «نظر ـ1» ثم «نظر ـ2»، قبل ان تتوقف مع «نظر ـ3» لأن من في وجوههم نظر لم يعطوها من الأهمية ما تستحق.
ثم إنه كان احد قلائل العالميين من الرسامين العرب، إذ فتحت له «لوموند دبلوماتيك» صفحاتها فقدم فيها بعض نتاجه المميز، والذي سنفتقده في زمن العتمة الذي يلف منطقتنا فيعظم من شأن الجهل والجهلة ويطرد المستنيرين إلى العالم البعيد… حرصاً على نعمة الجهل في الاستقرار او الاستقرار في الجهل.
إلى اللقاء يا ابن اللباد الذي فضل ان يطبب العقول والذاكرة والعيون تاركا لغيره ان يهتم بأسنان أكلة العـلم والثقافة والنور.

إمض هنيئاً إلى حيث البراح
هنادي سلمان
بلا ضوضاء، يرحل العمالقة في زمن الصغار والصغائر. يضنيهم البقاء، ومقاومة المستحيل التي تبدو كأنها قدر، يختارون الرحيل فيسقطون، الواحد تلو الآخر، بصمت، بخفر، «لم يعد لنا مكان هنا، واليوم ليس لنا، لن نثقل على أحد..».
ليسوا نجوما، وليسوا من هواة الظهور، وليسوا ممن يفرضون أنفسهم. مبدعون، ولدوا من أسر متواضعة، آمن آباؤهم بالعلم طريقاً إلى الرحابة. أبناء الثورة الناصرية التي مكنتهم من الدخول إلى الجامعة، والتتلمذ على فكر عمالقة سبقوهم: حسن بيكار، وصلاح جاهين، وإحسان عبد القدوس، وأحمد بهاء الدين، وغيرهم ممن لا مجال لتعدادهم.
ثلة من الشبان، آمنوا بالقلم قدراً، منهم من كتب وغيّر بأفكاره جيلاً بأكمله، ومنهم من اختار الريشة طريقاً للإبداع والتغيير. بعضهم كان متمكناً من الوسيلتين معاً. فكانت «صباح الخير» بعد ،«روزا اليوسف»، ثم «دار الهلال» من بعد، الأرض الخصبة التي زرعوا فيها بذوراً انتشرت في كل أنحاء الوطن العربي، هم الذين جعلوا من أصقاعه، يومها، وطناً.
من هؤلاء كان محيي الدين اللباد. مع بهجت عثمان، وأحمد حجازي، وجميل شفيق، وآدم حنين، وعلاء الديب، ونسيم هنري، وحلمي التوني، وآخرين كثر، رحل معظمهم فيما من بقي منهم ما زال يقاوم، بوهن، الرغبة في الرحيل.
حمل أبناءه وقصد بيروت وهي تحترق في هشيم حرب أهلية للمساهمة في إطلاق «دار الفتى العربي». أن تنتج كتباً، موجهة إلى الأطفال والفتيان والفتيات، يرسمها أبرز الفنانين العرب، ويكتبها أكبر كتابهم، أن تؤمن أن أبناء الغد لا يستحقون أقل من ذلك، أن تراهن على الغد فيما يومك يحترق. أن تساهم في «العربي الصغير»، أن تراهن، كلما ضاق «اليوم»، على «بعد بعد غد أفضل»، كما كان بهجت يقول. أن تقاوم بما استطعت، وبما ملكت، أن تختار الحياة، لك ولغيرك، حياة أكرم وأفضل وأرحب.
أن تغامر بأرواح أبنائك كي تقدّم ما تملك لأبناء الآخرين.
أن تصقل، على امتداد الأيام، موهبتك، بالقراءة والسفر والنقاشات والعمل والأفكار والتبادل. أن تصبح أفضل المبدعين في مجالك. أن ترفض المساومة، أن تؤمن بالكفاءة، والصبر، وبالنجوم وما فوقها سقفاً، أن تحتقر الاستسهال والرداءة، وتثبّت لنفسك، ولمن هم حولك، معايير تتجاوز حدود السماء. أن تؤمن بأنك، وأبناء أمتك، تقدرون، إن رغبتم، وأن تثبت ذلك يوما بعد يوم، أن ترفض الاستكانة للسائد والرديء والمفتعل والمفسد.
أن تقاوم عهد السادات ومساعيه الحثيثة لهدم كل ما شيد، في السياسة طبعا، ولكن قبل ذلك، في الفن والإبداع والفكر والصحافة والأدب. في كل القطاعات القادرة على المس بحياة البشر وتغييرها بسرعة البرق. أن تقدم لأبناء القرى النائية، والضواحي المهملة، المجهّلة عمداً، فكراً وثقافة راقية تكون في متناول أبنائه، بلا نخبوية، بلا منّة، بلا استعراض، بلا طلب من أحد. أن تؤمن بأبناء وطنك قضية. بأنهم يستحقون الحياة، وبأنهم يستحقونها كريمة لائقة، جميلة.
أن تحصد جوائز عالمية من دون أن يغيرك ذلك، من دون حتى أن تعلن عنه في معظم الأحيان. أن تتحوّل إلى مرجع عالمي في مجالي الكاريكاتير والإخراج الصحافي، والتصميم الغرافيكي، وتصميم الكتب. يطلقون عليك في فرنسا لقب «صانع الكتب». وتبقى أنت، رأسك فوق كتفيك ولا تتوه عما يدفعك للقيام بذلك كله.
أن تتجاهل كل مساعي محاصرتك، أنت ومبدعو جيلك ممن لم يرضخوا، وتقرر أن تنقل كل ما تعلمت، وجمعت، على مر السنين، إلى من تلاك في السن والمهنة. أن تصبح «المعلم» لجيل كامل من الصحافيين والرسامين والكتاب والفنانين والمبدعين، وأن تتغلغل معاييرك في كل ما نقرأه اليوم ونراه، من دون أن يدري أحد أنك من الذين أرسوا هذه المعايير. ألا تطلب شيئاً لنفسك. أن تقف في كل مرة كنت تتلقى فيها الضربات وتختار سبيلاً جديداً للاستمرار في فعل ما تفعله.
إن منعت من الرسم تكتب، وإن حظرت الوسيلتين عليك تقيم دورات تدريبية لمبدعين شبان تسعى ما استطعت أن يكونوا من الدول العربية كافة. أن تصدر كتباً ليس فيها أي رأي، بل تنقل عبرها ما خبرته من قراءاتك وأسفارك، تعرّف القراء إلى رسامين وصحف ومبدعين وكتّاب من العالم.
أن تقاوم على امتداد عمرك، سياسات التجهيل والطمس. طمس الهوية التي لطالما افتخرت بها: كيف يكون «سوبرمان» نموذجاً للبطل في أذهان أبناء بلادنا، فيما تمحى سير عنترة والظاهر بيبرس وأبو زيد الهلالي؟
أن تفعل ذلك من دون أي دافع عنصري أو شوفيني. أن تستخدم المنطق لتبرير خيارك: تضع الرسمين جنبا إلى جنب، رسم الظاهر ورسم سوبرمان، لكي يبدو الفارق جليا للعيان: الزركشة والإتقان، والتفاصيل التي تميز الأول، والاستسهال الذي يطبع الثاني. النخوة والشهامة التي تجعل الأول يستحق صفة البطل، والقدرات الخارقة الخارجية التي، وحدها، تجعل من الثاني بطلاً.
أن تعيد نشر منمنمات ومخطوطات من تراثنا. أن تنشر صور بيوتنا التقليدية المزركشة، وفنون الحنة، أن تقول لمن يريد أن يعرف: لدينا الكثير، كان لدينا الكثير. لا تضيّعوه.
تقصد القرى النائية وتصور المنازل الطينية التي يزينها أبناؤها وتصدرها في رزنامة للصليب الأحمر الدولي، فتنشر في أصقاع الأرض ثقافتنا وصور وجوهنا.
تختار معالم القدس المطموسة موضوعاً لروزنامة العام الذي يليه، ورسوم الأبطال الشعبيين موضوعاً للعام الذي بعده. تنشر صورنا في ما بيننا، ولدى الآخرين.
تقاوم، تستمر في المحاولة، وفي كل خطوة على الطريق، يسقط كبير من رفاق عمرك، ويبرز صغير من أبناء الأنظمة وزمن التجهيل والاستسهال. وفي كل خطوة، تضعف مناعتك، وقدرتك على المضي وحدك. تجاهر بأن أوان الرحيل قد حل، لكنك تستمر في المحاولة. إلى أن كسرتك السنوات الثلاث الماضية، في العام وفي الخاص.
فكان أن رحلت أمس الأول. يوم السبت في الرابع من أيلول 2010. لم تقصّر، قدّمت كل ما تملك، امض هنيئاً إلى حيث اخترت الرحيل. قاومت ما استطعت، ولم تبخل يوماً في تقديم المزيد.
لن نبكيك. ليس في سيرتك إلا ما يبعث على الفخر، ودروس لمن يريد أن يرى. نبكي أنفسنا من بعدك. نبكي اليتم الذي بات يحيط بنا من كل صوب. نبكي غدنا، وغد أبنائنا إن نحن عجزنا عن الاستمرار في ما بدأته. إن بددنا ما أمضيت عمرك، أنت ورفاقك، في بنائه. نبكي فقدان «معلم» ومرجع، وانطفاء منارة أخرى من منارات الطريق. ونتحسر لأننا، وأنت بيننا، لم نقل لك كم أنت كبير. لم نقله يوما كما يليق أن يقال لك.

عادل السيوي: صنع طريقه الخاص
رحيل اللباد هو خسارة قيمة كبيرة فنية وثقافية وإنسانية لعدة أسباب، فالراحل كان تجسيدا لفكرة الأسطى ـ وهي كلمة تركية تعني الأستاذ ـ وهو ما أصبح عملة نادرة في حياتنا الآن. الأسطى محيي الدين اللباد كان تجسيدا لفكرة الإجادة والإخلاص والإحاطة بالمهنة. وهؤلاء النماذج قلة. فالراحل الكبير حسن سليمان كان أسطى بهذا المعنى، والمعماري العملاق حسن فتحي أيضا. هذا الصنف النادر الذي يحترم مهنته ولا يخلط أوراقها ويعي جيدا ما تتطلبه من شروط إتقان وإحاطة.
اللباد عرف مبكرا مجاله وهذا ما أعطاه الفرصة ليصنع طريقه الخاص بدون التخبط بين أنواع الفن التشكيلي المختلفة، فلقد حدد الرجل لنفسه مساحة صناعة الكتاب والإخراج الصحافي ليكون مساحة تحركه وإبداعه.
وما ميز اللباد انه قادم على هذه المساحة من منطقة الثقافة والمعرفة لا من منطقة الحرفة، فاستطاع عبر هذه الخلفية الثقافية ان يمزج معرفته الفنية بأصول الحرفة ليصنع منتجه البصري المختلف تماماً. أن يمكنك التعرف على أعماله بدون ان ترى توقيع أفعاله كانت بصمة فريدة من نوعها.
هذا ما مكنه من خلق إسهام في الثقافة البصرية، فاللباد حرر عين المتلقي المصري والعربي من الكلام واستطاع إمداد العين بمساحات بصرية جديدة ومختلفة من خلال إنتاجاته في «نَظَر» أو «كشكول الرسام» وغيرها من رسومه ومجلاته ورسومه للأطفال، حيث كان يدرب العين على رؤية جديدة.
كل ذلك تجسد في منتج نوعي فريد يحمل شخصية اللباد الجادة والمخلصة بحيث اذا استدعيت هذه المعاني فسيكون اللباد من أوائل من يتواردون في ذهنك.
ثمة إعجاب خاص أحمله للباد وهو تطويره فن الغرافيك اعتمادا على عناصر محلية ومن تاريخنا الخاص، فتراه يستعمل مفردات وأشياء صغيرة نراها ونستعملها في حياتنا اليومية، مثل مشط، شفرة حلاقة، علبة كبريت، لكنه يضعها على سطح محايد ليعيد تركيبها ويعيد معها تركيب عيوننا وطريقة رؤيتنا للاشياء، ليشبه بذلك الفنان المصري القديم أو الفنان العربي المسلم، عندما كان يعيد تركيب الأشياء مرة اخرى، ليعطيها معنى مختلفاً. خلق اللباد فنا خاصا به، ولم يكن مقلدا لفن البوب الأوروبي… رحيل اللباد بالفعل خسارة كبيرة.
(فنان تشكيلي مصري)

نذير نبعة: صاحب قدرة على التغيير
عليّ أن أعود بالذاكرة إلى أواخر الخمسينيات، عند ذهابي إلى القاهرة لدراسة الفنون، فكلية الفنون كانت حينذاك مركزاً للإبداع أكثر منها مدرسة أكاديمية تخرج منها كثير من الفنانين العرب الذين ساهموا في بناء الحركة التشكيلية المعاصرة، من أبرزهم أحمد صبري، وراغب عياد، وحسين بيكار، وحامد ندا، وحسن سليمان، وغيرهم. كانت الكلية قد خرّجت في تلك الفترة كثيراً من رسامي الكاريكاتير العمالقة الذين صنعوا مدرسة كاريكاتير في الصحافة المصرية، منهم حسن حاكم وجورج بهجوري ورجائي ونيس، وبهجت عثمان.
في هذا الجو تعرفت على اللباد في إيتيله التصوير في تلك الكلية. كان الحامل الذي يرسم عليه لوحته مجتمعاً لأغلب الطلاب الذين يحملون أحلاماً وأفكاراً للفن ولرسم الكتب.
وكان هو قد أخذ شخصية الأخ الأكبر لنا جميعاً، لأنه كان يملك القدرة على تحويل الأحلام والأفكار إلى واقع وكتب، منذ تلك الفترة المبكرة عمل مجلة «سندباد» للأطفال، التي كان الأستاذ بيكار رسامها الأول، والذي صنع كتباً منذ ذلك الوقت.
ارتبطت به وارتبط بي عاطفياً إلى درجة أن إجازاتنا الصيفية كنا نمضيها معاً في سوريا، وكان مجرد إرسالي له رسالة للزيارة تعني خفضاً له في بطاقة السفر.
كنا نزور القرى السورية، عرنة، ومضايا وغيرهما. والرسوم التي كان يرسمها آنذاك كانت بهجة لنا جميعاً، وكان يسجل فيها الشخصيات والأمكنة.
كانت لديه قدرة هائلة على تحويل الأحلام، ورومانسيتها إلى شيء واقعي، إلى كتب.
بعد أن تخرجنا زارني في فرنسا عدة مرات، وكان دائماً يبدع شخصيات ويؤلف عليها الكثير من الرسوم.
كذلك فقد شارك كثيراً من دور النشر المتألقة بصناعة كتب الأطفال، ولم يكن رساماً وحسب، بل مديراً وصانع مشاريع، من بين أبرزها «دار الفتى العربي» في بيروت، وكان قبل ذلك قد أسس في القاهرة دار نشر أسماها «ألف واحد»، وقد أقامها في مكان من منزله مخصص للسهر، حيث كنا نحكي ونحلم ونسمع فيروز.
كنا نحس دائماً بأنه من ذلك النوع الذي حينما يحلم بتغيير الواقع يقوم بالفعل بتغييره. فإذا وجد في واقع من إنتاج الكتب التي تحمل الصبغة التجارية والذوق المتدني لا يكتفي بالانتقاد بل يسهم بتغييره بالفعل.
كانت كتب الأطفال التي أنتجها في «دار الفتى العربي» علامة، إن كان من ناحية اختيار القصص أو اختيار الرسامين.
أما الكتب التي عملها شخصياً فقد كانت جديدة في فكرها، إن كانت غربية أو محلية، فيها إبداع خاص جعله في النهاية يحمل لقب صانع كتب.
هذا محيي الدين اللباد الذي فقدناه، وكم نحتاج إلى الكثير من هذه الشخصية التي تمتلك القدرة على التغيير.
(فنان سوري)

بيار صادق: فنان لا يُعوّض
فقدنا برحيل اللباد ريشة مميزة وجميلة ومعبرة، وبغيابه نخسر ريشة إضافية، إذ أصبح عددنا قليلاً في هذه المنطقة. اللباد فنان لا يعوّض، وأتمنى أن يتم جمع أعماله مثلما جمعت أعمال الفنان الراحل ناجي العلي.
ماذا بإمكاننا أن نقول ونفعل؟ سنستمر… ورحمة الله عليه.
(رسام كاريكاتور لبناني)

سيد حجاب: الحالم الكبير
رفيق العمر والأحلام محيي الدين اللباد واحد من زينة شباب مصر والعالم العربي في زمان شبابنا. دخل إلى الساحة الفنية وهو بعده فتى في الثانوية رساماً في مجلة «كروان» التي كان يصدرها الراحل الكبير حسين بيكار. والتقينا في مستهل السينيات ونحن بعد في مقتبل العشرينيات من عمرنا، كنت طالبا في الهندسة وكان في السنة النهائية في كلية الفنون الجميلة… وحلمنا معا.
كان مسكونا بعشق الوطن والإنسانية، وكان يرى سبيله إلى تغيير العالم في التوجه إلى الأطفال. في بداية الستينيات تشاركنا معا في تنظيم مجموعات من الرسامين والمصورين والصحافيين والفنانين التشكيليين في إطار منظمة ديموقراطية تنشر الديموقراطية وتدعو إليها وتدافع عنها، ولعل مجموعة «روز اليوسف» ـ التي كان أحد أفرادها ـ كانت من ألمع هذه المجموعات.
حلمنا معا أيضا بأن نطلق لاعبي العرائس الشعبيين بعروض من تأليفي وتصميمه، ولكننا لم نوفق. ثم أسس بعد ذلك مع المسرحي الكبير نعمان عاشور مجلة «كروان» والتي استمرت لأشهر عدة. بعدها شاركته في محاولة تمصير الكتابة للطفل مع عدلي رزق الله ونبيل تاج في مجلتي «سمير» و«ميكي».
وقد عاش محيي الدين اللباد معطاء، وراعيا للكثير من الفنانين والرسامين الصحافيين حوله، وواصل نضاله من أجل الطفولة والوطن عبر مؤسسة «الفتى العربي» التي شارك في تأسيسها وعبر إشرافه الفني على «روز اليوسف» لفترة طويلة، ومشاركته في المعارض الدولية لكتب الأطفال.
آلمني في أخريات أيامه في ظل التردي العربي سياسياً وثقافياً أن تناوشه الشكوك والهواجس حول حال الإبداع للطفولة، وحتى حول بعض منجزاته.
ومن المؤكد أن رحلة العطاء الكبيرة التي عاشها محيي الدين اللباد سواء في مصر أم في بيروت عبر عمله لمؤسسة «الفتى العربي» ولجريدة «السفير» ـ حيث أسهم في تجديد إطارها ـ تركت أثرا كبيرا ـ تلك الرحلة ـ في حياتنا الثقافية والفكرية … رحم الله الفقيد الذي سوف تعيش أعماله وإنجازاته طويلا، والذي سوف تظل كتابته حول فنون «الجرافيك» سراجاً هادياً للأجيال القادمة.
(شاعر مصري)

رؤوف كرّاي: صقل مساري الفني
اللباد بالنسبة إليّ أب وأستاذ، لعب دوراً كبيراً في تكويني ومساري الفنيين. أول ما اكتشفته كان في «دار الفتى العربي»، كنت حينها طالباً في معهد الفنون. بعد ذلك صار صديقاً. عرفته أيضاً من خلال رسومه، وقد شاركت معه في معرض جماعي أشرف عليه لرسوم كتب الأطفال في معهد العالم العربي في باريس. بعد ذلك جاورته في ورشته التي كان يقيمها في القاهرة، ويجمع فيها فنانين شباناً عرباً لمدة شهر. كان رائعاً جداً. أعطانا أكثر ما يمكن من معلومات يمتلكها وأضاء لنا كل ما أنتج. كان إنساناً كبيراً.
أعتقد أنه كان رائعاً في فن الكاريكاتور ورسوم كتب الأطفال وفن الغرافيك. أما الكتب التي أنجزها فكانت طريفة ومشغولة بأسلوب خاص. وهي كانت تحمل فكراً كاملاً للباد ما جعلني أتعلق به. تعلمت منه العفوية، ورأيت ذلك الطفل النائم فيه. تعلمت كيف أكتشف في داخلي هذا الطفل البريء الحالم، وأنتج فني بكل عفوية. هذا ما ساعدني على اكتشاف ذاتي.
كشف اللباد الجانب الفني الذي كنت أمتلكه، وأفادني كثيراً في تنميته، من خلال نصائحه وملاحظاته وأفكاره ونقده، وهذا ما ساعدني على تعديل مساراتي الفنية وصقلها.
(رسام كاريكاتور تونسي)

محمود الورداني: شكراً يا عم محيي
كان محيي اللباد قامة وقيمة كبيرة، فهو ليس مجرد فنان تشكيلي أو رسام كاريكاتير، بل هو صاحب مدرسة في صناعة الكتاب. مثل أسطى كبير حفر في مجال تشكيل الكتاب بصمته، تلك التي فتحت آفاقا جديدة أمام الصورة وعلاقتها بالكتابة، سواء أكان ذلك عبر مجلة أم عبر كتاب. وهو ينفرد بين كل المشتغلين في هذا المجال بدرايته الفائقة بتراث الكتاب العربي الإسلامي، لقد عكف على هذا التراث، وعرفه وهضمه ليخرج منه أفكارا رائعة طور بها نفسه وأعماله، فعلى سبيل المثال استعار من المخطوطات العربية الإسلامية القديمة الهامش الأوسط الذي كان قد اختفى مع الطباعة الحديثة، وأعادها اللباد لاكتشافه أنها مساحة تريح عين القارئ. هكذا يمكن أن نعرف من هذا المثال البسيط كيف تعامل اللباد واستفاد من أسلافه القدماء.
اللباد أيضا صاحب الماكيت الرئيسي لعدد من الصحف والمطبوعات، وأبرزها في الفترة الأخيرة مطبوعات منظمة الصليب الأحمر، التي تعتبر إنجازا خطيرا في مفهوم تصميم المطبوعات وإخراجها.
ويمكن القول إن اللباد كان مدرسة جديدة في تصميم غلاف الكتاب حيث أغلفته لوحات فيها الحس العملي بجانب الإحساس بفنية الغلاف العالية، إلى جانب الاهتمام بعين المتلقي.
ولا يمكن أن ننسى أعماله للأطفال سواء القصص التي ألفها أو أعاد اكتشافها من التراث. وجميع ما رسم كان محاولة صادقة للحفاظ على بكارة عيون أطفالنا من التلوث.
على المستوى السياسي والوطني لا تستطيع ان تتذكر موقفا خاطئا للباد. على ذلك المستوى كان قامة شامخة، مستقلة، لم يسمح لأحد باستثماره، ولم يصغر نفسه لأحد، ولم يتراجع عن ثوابته تحت أي إغراء.
لست حزينا على رحيل اللباد، أعطانا الرجل كثيرا، وستبقى أعماله منيرة بيننا، شكرا يا عم محيي.
(روائي مصري)

عبده جبير: أرجعوا إلى أعمال العبقري
أدعوكم الآن، والآن بالذات، لحظة رحيل الجميل محيي الدين اللباد إلى عالم النور أن تعودوا مرة أخرى إلى أعماله بالذات إلى مجلدات «نَظَر» وعمله البديع الذي ظللت سنوات أضعه على قائمة مشترياتي من الكتب حين كنت أنوي تقديم هدية إلى حبيب أو عزيز «كشكول الرسام» الذي لم أرَ قط طوال حياتي، وأنا عاشق الكتب الذي فنيت جل عمري في خدمتها، في جماله وروعته إلى درجة أنك حين تنتهي من تصفحه تكون قد مررت بتجربة فنية ووجدانية وفكرية كاملة، فتصبح غيرك حين بدأت تقليب صفحاته التي لا تود أن تنتهي.
وهو كان هكذا، حين تعرفه، حين تجالسه بالأحرى، كنت لا تريد لهذه الصحبة الحنون العطوف أن تنتهي، وحين تنتهي تحس أنك كنت تعيش تجربة إنسانية وفنية وفكرية راقية.
كتبت الكثير عن الكثيرين من الفنانين لكنني أبدا، وفي مواجهة كثير من العمالقة، لم أستطع أن أصف أيا منهم بهذه الكلمة الكبيرة: «العبقري»، إلا حين كتبت في مناسبة صدور «كشكول الرسام» وبكل ثقة وجدارة يستحقها كان العنوان واضحاً: العبقري محيي الدين اللباد.
لم يكن الرجل مجرد رسام، ولا مصمماً، ولا كاركاتوريست، بل كان صاحب مدرسة لها أبعادها الفكرية والسياسية والفنية، والتي لا يمكنك أن تفصل أحد عناصرها عن الكل المتكامل. فهو بلغته وتعبيره «أسطى» كبير ومتفرد من ممارسي الفن في زماننا بداية من نهاية الستينيات وحتى أيامه الأخيرة.
مات الأسطى العبقري، لكن أعماله لن تموت، وأعود لأذكركم بالعودة إليها لتأملها، وتلمس شفافيتها، وجمالها، وروحها، التي بعثت في نفسي في أوقات الضيق أنفاسها الفواحة لأعود للحياة من جديد.
(روائي مصري)

يوسف عبدلكي: تنوع إبداعي ومهنية عالية
اللباد أحد أهم الظواهر في الحياة التشكيلية العربية المعاصرة، ولقد كان التنوع الإبداعي، والمهنية العالية هما عنوانا حياته الفنية على مدى خمسين عاماً.
كان هاجس اللباد الأول دائماً ثقافياً، يتلخص بضرورة الخروج من سياق الرؤية البصرية الغربية، سواء في اللوحة أو التمثال أو التصميم، أو رسوم الكتب. وكان هاجسه الثاني سياسياً يتمثل بأهمية الوقوف في وجه المدّ الثقافي الاستهلاكي الأميركي خاصة. ومما لا شك فيه أن نشأة اللباد في أجواء اليسار المصري في الخمسينيات والستينيات لعبت الدور الأساسي في توجهه هذا.
على صعيد رسومه للأطفال بدأ في نهاية الخمسينيات رساماً مجرباً، لكنه في السبعينيات أبدع للمكتبة العربية سلسلة كتب أطفال قلّ نظيرها في محيطنا الثقافي وخارجه. وضع فيها تصوراته الفكرية موضع التطبيق، ولفت النظر فيها إلى الحرية التي تهادى فيها خطه محطماً السياق التوضيحي للرسوم التقليدية، والتي اقترب فيها من عفوية الخط التلقائي الطفولي ذي النكهة الشعبية، والألوان الفاقعة الجذابة، كأنها ألوان مستوحاة من ثياب النساء الشعبيات في المغرب أو الهند. ومن منا لا يذكر تحفته «البيت» التي كتب نصها الساحر زكريا تامر.
كتبه تلك، الصادرة عن «دار الفتى العربي» ما زالت طازجة وجديدة بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدورها.
على صعيد الكتابة أنتج محيي الدين خمسة كتب تحت عنوان «نظر»، كانت تلخيصاً جميلاً سهلاً عميقاً لتصوراته في كل المجالات الغرافيكية، والتي ثمّن فيها الخصوصية الإبداعية «خارج السياق الأوروبي»، سواء كانت لدى الرسامين أو الفنانين الشعبيين. هذه السلسلة علامة مضيئة في المكتبة البصرية العربية، له فيها الفضل في تعريفنا إلى عشرات الفنانين المجددين والمجهولين من مختلف أنحاء العالم، وكذلك إعادة الاعتبار للــعديد من الرسامين العرب الذين طوت إبداعاتهم الصحافة الاستهلاكيــة في العــقود الأخيرة. ولا يجوز أن نسمح لخفة ظله وكلامه شبه المرسل أن يـــخدعنا، عند قراءة هذه النصوص، فلقد كانت تتمتع بتماسك فكري بديع، وتصــويب حاذق نحو القضايا التي تشغل الإبداع البصري، وأحسب أنه لا يوجــد أي ناقد تشكيلي عربي استطاع أن يجمع بين هذين العنصرين: عمق الرؤية، وسهولة الكتابة وخفة ظلها.
كان يحلو للباد دائماً أن يقول إنه «صانع كتب»، وكرس جلّ اهتمامه في السنوات الأخيرة لتصميم الكتب والمجلات والأغلفة، وأعطى لإنتاجه نكهة شعبية أحياناً، وخصوصيته الذاتية في التصميم أو صياغة الوحدات الزخرفية لإخراجه من رصانة التصميم الغربي وجفافه.
ولمن عرف اللباد لن ينسى أن ما كتبه ليس إلا غيضا من فيض من عمق رؤيته وطاقاته الإبداعية، وروح السخرية العالية التي كان يتمتع بها هذا «الطفل العملاق».
أشعر بأنه لا يمكن أن يرحل محيي الدين هكذا كما يحلو له، وإذا فعلها الآن فإن أهمية وكثافة وخصوصية عمله في الرسم والكتابة والتصميم تجعل هذه «الخطوة» أمراً غير قابل للتحقيق.
(فنان سوري)

منير شعراني: تأسيس هوية بصرية
اللباد واحد من كبار المصممين الغرافيكيين العرب ومصممي كتب الأطفال الأبرز في العالم. وهو من أبرز رسامي الكاريكاتير العرب، الذين ارتبطت رسومهم بقضايا شعوبهم. وقد لعب دوراً مهماً ورائداً في وضع الأساس لدور نشر عربية اهتمت بكتب الأطفال. كما كان له دور كبير في السمعة البارزة لدار روز اليوسف، ناهيك عن دوره المهم في تأسيس الهوية البصرية لعدد من المطبوعات العربية في بلدان مختلفة. وكان له دور رائد مميز في الانتقال بتصميم غلاف الكتاب العربي من الغلاف التقليدي الذي يحتوي على صورة ونص، إلى غلاف حديث يراعي الأسس الجمالية لفن التصميم الغرافيكي وعلمه.
خاض عدداً من مغامرات التجهيز الفني والتصميم والنشر المشترك لكتب الأطفال، وتعلم منه الكثيرون، كما أسهمت كتاباته التي نشرت لاحقاً في كتب أخرجت إخراجاً جميلاً في تطوير ذائقة القراء الغرافيكية. ليس القراء فحسب بل كذلك المصممون الذين كانوا في بداياتهم. كما ساهم في كثير من الورشات والحلقات التدريبية لمصممين وفناني كاريكاتير سواء بسواء.
كانت بصمته واضحة على كثير من المجلات التي صدرت في المنطقة، ربما كان آخرها مجلة «الإنساني» التي تصدر عن المكتب الإعلامي الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر.
كما صمم للجنة الدولية للصليب الأحمر عدداً من التقويمات الحائطية التي استمدت مادتها مما يلتقي في الموروث الفني العربي ومن الموروث الشعبي أيضاً، ومن الموروث الإنساني الثقافي العربي، يبرز الصلة بينها وبين ما وصلت إليه القوانين الدولية الإنسانية المعاصرة.
كما كان دوره في ملحق «كتاب في جريدة» الذي يصدر مع عدد من الجرائد العربية مؤسساً وهاماً، وقد تراجع «كتاب في جريدة» بعد أن توقف عن الإسهام به.
كان اللباد فناناً ومعلماً وباحثاً ومثقفاً عضوياً من المثقفين القلائل الذين عاشوا قضايا أمتهم، وأسهموا في نشر رؤى مختلفة عن الرؤى السائدة وعن الرؤى المستوردة.
(فنان سوري)

سعد حاجو: خلافي معه كان أكثر خصوبة
أثناء زيارتي الأخيرة إلى القاهرة, طلبت من الصديق الشاعر سيد حجاب أن يوصل سلامي إلى أستاذي الروحي، وأبلغته رغبتي في تفادي رؤيته مريضاً, فضّلت أن أحتفظ بصورته رجلاً ضخم الجثة نورانيّ الضحكة طافحاً بالحيوية. أخبرته أنني في زيارة عمل للتحضير لمعرض كاريكاتور عربي دولي يجري تنظيمه بين السويد وبيروت، يحاول عرض نماذج مضيئة من رسوم الفنانين الراحلين والأحياء, اكتشفت في متحف الكاريكاتور المصري في الفيّوم أعمال كاريكاتور نحتيّة للغالي محيي الدين لم يتكلّم عنها يوماً. كان متواضعاً في حديثه عن نفسه, واضحاً صارماً أثناء حديثه عن الآخرين, التقينا منذ خمسة عشر عاماً, حين قدّمني لـ«السفير», كان يقول لي ممازحاً: «إنّك تملك رأساً كرديّاً يابساً وتعرف ما تريد، وخلقت لتكون رسام كاريكاتور، فلا تحيد عن الدرب مهما حصل. بدأت بعدها علاقتي الصوفيّة معه بالمعنى الحرفي للكلمة، فأصبحت من مريديه, كان يملك وجه طفل عملاق، وروحاً لزجة يعلق بها الجميع, رأسي اليابس جعلني لا أستمع إلى نصائحه ولا مرّة, وجاءت مرحلة الخلاف الفنّي بيننا في وقتها، فكانت أكثر خصوبة من مرحلة الوفاق, أصبحت نصائحه أرسخ في وجداني. عبر سخريته السوداء قال لي مرّة، بعد وفاة صديقه برهان كركوتلي، إنّه متحسّر لأن برهان «استعار منه كنزة صوفية يحبّها كثيراً»، وبذلك خسر «الصديق والكنزة», بغيابه تكتمل دائرة حضوره بيننا. إنّ بعضاً من زغَب روحي عالقٌ هناك، على جنبات روحِ شيخنا اللّزجة الطاهرة.

حسني سليمان:
فن غلاف مختلف
استطاع اللباد نقل صناعة الكتاب وإخراجه فنيا إلى مستوى مختلف، وعبر التجربة التي خضناها معا في «شرقيات»، في بداية التسعينيات، بدأ الكتاب الإبداعي يأخذ شكلاً أكثر تمايزا واختلافا مع محيي، فالرجل لعب دورا في استقلال فن صناعة الغلاف والاعتراف به فنا مستقلا له حركته الخاصة. قبل اللباد كان غلاف الكتاب الإبداعي مجرد صورة مرسومة ويحتل العنوان أحد أركانها، لكن مع اللباد ومن بعده أصبح غلاف الكتاب الإبداعي شيئاً مختلفاً.
عبر التيمات البسيطة التي كان يستخدمها، مستلهماً تراثنا العربي والإسلامي بشكل متعدد المستويات ومركزاً على الأشياء اليومية البسيطة، كان يصنع لوحة فنية تتواشج مع النص المكتوب، الذي كان يقرأه اللباد جيدا، فلم يكن أبدا يتعامل مع النص بخفة أو باستسهال. كان يقرأ النص جيدا قبل أن يبدأ العمل في الغلاف.
كان اللباد أيضا يهتم بالمؤلف كصانع للعمل، فعبر تجربة «شرقيات» كانت صورة المؤلف تحتل الغلاف الخلفي بأكمله. إيمانا منه بأهمية معرفة القارئ لشكل الكاتب الذي يقرأ له وأيضا لاستخدام إمكانياته في اللعب بصورة فوتوغرافية عادية، لتصبح جزءاً من العمل الفني الذي يصنعه ونسميه «غلافاً».
(مدير «دار شرقيات للنشر» ـ القاهرة)

عبد الحليم حمود:
عبقري الهدم والبناء
اللباد رحل! هي فكرة خارج السياق، لها كل الوقع وكل الدهشة، هكذا يستقبل الدماغ كل خبر وفاة طرفها رسام كاريكاتور، فهو الساخر اللاعب بالملامح، العازف على التناقضات، الضارب في طبل الطبقات والغائر في جروح الفقراء.
لكن أن يكون اللباد تحديداً هو الخبر فللدهشة وقعها المدوي. فالأمر ليس عملية حسابية لسنوات عاشها ولا لأبناء أنجبهم ولا لرسوم نفذها. كلا فاللباد شيء آخر مختلف بقامته وفكره المجدد في الرسم الكاريكاتوري كما بالفكرة الكاريكاتورية، وهو أيضاً علاّمة في عالم صناعة الكتاب، فهو واحد من المجددين الذين كسروا السائد برونقه الكمبيوتري والألوان اللامعة والمذهبة، نحو بناء مختلف صافع للعين هو اقرب بفلسفته الى عمارة حسن فتحي، حيث الانطلاق من الحاجة والتقشف وتقديم الجمال على طبق عادي، بعيداً عن الإبهار الذي يقوم بمهمة البهار في الاطباق البائتة.
لمحيي الدين اللباد ريشة كاريكاتورية مناورة مطاطة، هادمة للنسب والقواعد (حتى للكاريكاتور أعراف وقوانين بصرية)، فكان كما الفنان الاسلامي القديم لا يعير اهمية للابعاد والظل والنور، بل مزج جل ثقافته التشكيلية والبصرية بالتراث وعفوية الطفل الذي لم يغادره.
اللباد صاحب مدرسة، لا شك، وهو جسر يعبر بنا نحو الداخل، بعيداً عن أي استلاب فارغ او تقنيات مستذئبة.
محيي الدين اللباد أراك تبتسم الآن لا من عتمة التراب بل من زرقة السماء، فهل تسمح لي في أتون موتك أن أرشقك بابتسامة؟
(رسام كاريكاتور – لبنان)

رحيل الأكاديمية
عباس بيضون
نفكر بالفراغ الجسماني الذي يتركه غياب محيي الدين اللباد السريع والمفاجئ. على الأقل لفن الكاريكاتور والتصميم الذي سيشكو بعده اليتم والبرد. فمحيي الدين اللباد كان اشبينه الحقيقي. لم يكن اللباد مجرد فنان كان الفن كله، وأكثر مما كان يرسم كان مشغولاً بالإبداع في عوالم نائية. لقد عرف من بعيد او قريب ما يجري في المجر وتشيكوسلوفاكيا والنروج والسويد. كان ملكاً في مجاله يبسط سيادته على أطراف بعيدة، وبرحيله لن نعرف بعد سبيلاً إلى تلك القارة الفنية التي كانت تحت سلطانه ومعرفته وخبرته.
لن نتكلم بهذه البساطة مع زملاء من كل العالم ولن نعرف ما يجري في الأطراف، لقد احتجبت قارة كاملة مع محيي الدين اللباد، وغدا نصف العالم مجهولاً بالنسبة إلينا. لقد فقد فن الكاريكاتور والتصميم لا خبيراً فحسب بل مؤسسة في رجل واليوم نتساءل بحق ماذا سيحصل لهذين الفنين بعد غياب اللباد. هل سيبقيان في مدارهما أم ان أياماً باردة تنتظرهما. هل ستبقى لنا مؤونتنا من فن العالم أم سنغلق أبوابنا علينا. هل يستمر فن بلغ الذروة في مصر في قمته أم انه الانحدار والانحدار السريع. لقد كان اللباد أكاديمية بحد ذاته. بل كان الأكاديمية الوحيدة التي نعرفها في هذا الباب. وبرحيله لن نجد معلما واضحاً لهذا الفن الذي له تاريخه في مصر. لقد ولد هذا الفن في مخاض العالم الفني لكن اللباد كان آخر أواصره بهذا المخاض وأخشى ما نخشاه ان يكون الآخرة الأخيرة وأن يعود هذا الفن الى البيت المحلي وينقطع عن العالم.
يمكن ان نفكر بالفراغ المادي الذي يتركه غياب اللباد. ذلك أشبه بهوي شجرة استوائية او سقوط برج فهذا الرجل كان مساحة من الهدوء والتفكير لا حد لحجمها، والناظر إليه في علوه الشاهق كان يرى فيه عملاقاً للتأمل والتبصر والحكمة. كان ضخماً لكن بجذور قوية، إذ ان مجرد كلامه، حين يتكلم، كان بصيراً واثقاً مما يجعل السامع يحسب ان وراء الشجرة التي تتكلم غابة من الأشجار وأن جذورها تتغلغل في الفن المصري كما تتغلغل في الفن العالمي. بل ربما عجب السامع من ان يكون لهذه القامة العالية هذا الصوت الخفيض وهذا القرار العميق.
مساحة من الهدوء والتبصر. بل مساحة من الصداقة. الذين لم يصدقوا بعد ان اللباد انخطف بهذه السرعة سيسمعون مجدداً لا صوته الخفيض فحسب ولكن قلبه الواثق ومحبته وحكمته تتناغم في ذكرياتهم وأحلامهم.

السفير

محيي الدين اللباد: أغلق «كشكوله» ومضى
القاهرة ـــ محمد شعير
لم يترك لنا صيف القاهرة فرصة لالتقاط الأنفاس. رحيل جديد يضاف إلى القائمة الطويلة التي دقّ بابها الملاك الأسود في الأسابيع الماضية. جيل كامل يبدو كأنّه يسلّم أوراقه: من المفكر نصر حامد أبو زيد إلى الشاعر عفيفي مطر والناقد فاروق عبد القادر، وصولاً إلى محيي الدين اللباد (70 عاماً). التشكيلي المصري أغمض عينيه أول من أمس بعد رحلة «قصيرة مع المرض»… ورحلة طويلة مع الاكتئاب الذي كانت ساعات العمل العشر، يومياً، علاجه الوحيد.
لكن من هو اللباد؟ هل هو صانع كتب؟ أم رسام كاريكاتور؟ أم مؤلف كتب للأطفال؟ أم مصمّم غرافيك؟ كان يرفض أن يسجن في خانة واحدة، معتبراً أن تلك المجالات يكمّل بعضها البعض الآخر. براعته في الفن توازي براعته في الكتابة، وقلّما يحدث ذلك مع فنانين ورسامي كاريكاتور. حتى إن ناقداً مثل علي الراعي وصفه بأنّه «رب الريشة والقلم». كان مشروع اللباد الأساسي في كلّ ما كتب ورسم وصمّم «تربية الذوق» أو «تثقيف العين». وهذا ما عكسه في مشروعه الكبير «نظر»، وهي كلمة أخذها من قصيدة لبشارة الخوري، غنّاها محمد عبد الوهاب: «إن عشقنا فعذرنا أنّ في وجهنا نظر».
حتى عندما كان يشعر أنه يحرث في أرض بور، لم يكن محيي الدين اللباد يفقد الأمل. اتجه بالكتابة إلى الأطفال باعتبارهم الجيل القادم. فـ«معظم الرسائل البصرية المحلية تفتقر أساساً إلى المعنى، بما يحوّلها في الأغلب إلى رسائل مفككة غير مترابطة»، كما كان يقول. «الطفل الذي يتلقى علامات الاتصال السائدة الآن، يجعلني أفكر كثيراً في كيفية بنائه لذاكرته البصرية، وما لها عليه من تأثير سلبي في مراحل متقدمة من عمره». من هنا، كان اهتمامه بتقديم كتب غير قصصية للأطفال «حكايات بالكلمة والصورة والرسم».
نماذج من تصاميم اللبادنماذج من تصاميم اللبادفي «كشكول الرسم»، قدّم اكتشافات رسّام وصانع كتب عجوز لقرّائه الصغار، على اعتبار أنّهم قد يقومون برحلته نفسها في الحياة. وعن القضية الفلسطينية أنجز «30 سؤالاً»، وفي «لغة من دون كلمات»، تتبّع العلامات والإشارات المرسومة على الورق والحيطان. أما في «نظر» الذي صدرت منه خمسة أجزاء، فجمع أعمالاً ونشاطات تتوجه إلى العين تحديداً. اهتم بلغة البصر التي أصبحت «اللغة الإنسانية العالمية التي يمكن أن يتواصل بها الناس على اختلاف لغاتهم الشفاهية والمكتوبة، وهذه اللغة تحتاج إليها البلاد حيث تنتشر الأمية مثل بلادنا». هذا ما كتبه في مقدمة العدد الأول من «نظر».
يتجلى هاجسه هذا أيضاً في رسومه الكاريكاتوريّة: هي رسوم ضربات قاسية تخلو في معظمها من التعليق، تعتمد على إدراك المفارقة عبر النظر من دون حاجة إلى الكلام. وإذا اضطر إلى أن يكتب شيئاً، يبدو تعليقه خاطفاً، لا يقصد أن يسمعه أحد. لا يمكن أن ننسى مثلاً يوم قدّم رؤية جديدة للجنيه المصري، إذ رسم أربعة مواطنين واقفين أمام المسجد الموجود في صورة الجنيه… الأول يقول: «حسنة صغيرة تمنع بلاوي كبيرة»، ويتبعه الثاني قائلاً: «عشانا عليك يا رب»، وتتوالى التعليقات: «الكريم لا يضام، يجعل بيت المحسنين عمار»… دائماً الجملة المكثفة، حاملة المعاني، تلك التي تجبرك على الضحك من دون افتعال.
كاريكاتورات اللباد أقرب ما تكون، حسب علي الراعي، إلى نظرة برنارد شو إلى فن الكوميديا: «نميل إلى تصوير الحماقة والحمقى، ونسعى إلى عرض نوادرهم على الأنظار في مختلف أشكال التعبير: الرسم، والمسرح، والحكاية والكرتون. ويلاحظ أننا بهذا الاهتمام نرفع عن أنفسنا الاتهام بأننا قد نكون بدورنا حمقى، لكنّنا لا نريد أن نعترف بهذا (…) الواقع أننا كلنا حمقى ولا مجال للتفضيل بيننا وبين غيرنا في هذا المجال».
ما فعله اللباد في الكاريكاتور فعله أيضاً في مجال تصميم أغلفة الكتب. قبله، كان الناشرون يهتمون بمحتوى الكتاب، وكانت التصميمات الداخلية والغلاف تأتي في المرتبة الثانية. عندما خاض اللباد مجال تصميم الكتب، قلب الموازين، من خلال صناعة أغلفة كتب يمكن اعتبارها نصاً بصرياً موازياً للنص المكتوب. لكنه نصّ مكثّف وموحي، يمهّد للكتاب، ولا يفضح سره أو يكشف شفرته. يلتقط من النص مفردات تبدو عابرة، لكنها هي النص نفسه، ولعلّ بين الأمثلة الأكثر تعبيراً عن ذلك زجاجة الكوكا كولا على غلاف رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم.
شُغل اللباد بسؤال الهوية في مجمل أعماله، بموازاة اقتناعاته السياسيّة وخياراته الفكريّة. اشتغل على الجماليات المنسية في الفنون العربية: اختار الخط العربي نموذجاً للجمال، وضع شخصية علاء الدين في مقابل شخصيات المانغا اليابانيّة، مثل مازينجر العظيم، وتنبّه إلى الرسوم الشعبية البدائية على جدران البيوت الطينية في الريف، وإلى أبطالنا المنسيين مثل الظاهر بيبرس، وإلى مفردات البيئة العربية. من كتبه الجميلة، واحد يحمل عنوان «تي شيرت»، يتأمل فيه الرسوم المطبوعة على القمصان القطنية التي يرتديها الشبان، وكلها رسوم أجنبية. هنا يقدم اقتراحات لكي «يصبح تاريخنا على صدورنا» بدلاً من التقليد الأعمى ومن دون ابتذال. وهكذا كان يمكن أن يسخر من إعلان نشرته جريدة «الأهرام» لمصلحة «هيئة الكتاب المصرية» تدعو المؤلفين العرب إلى استحداث شخصيات عربية «ميكي ماوس»… كأن كل شخصيات الحيوانات المرسومة للأطفال اسمها «ميكي ماوس» أو أنّ هناك تكنيكاً اسمه تكنيك «ميكي ماوس».
ويلاحظ المعلّم الراحل في أحد الحوارات الصحافية: «الشخصيات الكرتونية الذائعة الصيت التي انتشرت في أنحاء العالم، لم تقرر سلفاً، ولم تصمم كشخصيات «وطنية» أو «عالمية» لتكتسح وطناً أو دولة. فقد نالت كل الشخصيات المرموقة شهرتها وذيوعها عن طريق الاختيار الحر المباشر للجمهور، ولم يكن أحد ممن ابتكروا أو صمّموا شخصيات مثل «ميكي ماوس» يعلم مقدماً بالنجاح الساحق الذي ستحقّقه تلك الشخصيات. ما زلنا نفكّر في موضوع مثل الشخصيات الكرتونية وغيره من الموضوعات بطريقة «التعيين»، لا بطريقة «الانتخاب المباشر الحر»».
بدء الصراخ
تتبّع العلامات والإشارات المرسومة على الورق والحيطان، وكاريكاتوراته أقرب إلى نظرة برنارد شو لفن الكوميديا
هذا الدفاع عن الهويّة جعله يكتب أكثر من مرة، موضحاً الفرق بين الرسم العربي والآخر الأجنبي: «إنّنا نكتب من اليمين إلى الشمال. وبالتالي، نرسم ونتفرج من اليمين إلى الشمال. واكتشفت أن أهل الغرب يرسمون صورهم ويتفرجون عليها من الشمال إلى اليمين، وبالتالي فإن الرسم الموفق بالنسبة إلينا هو ذلك الرسم الذي يكون مدخل الفرجة على يمينه».
لكن كيف استطاع اللباد أن يصل إلى تميّزه؟ ربما لأنّه لم يحلم إلا بأن يكون فناناً. لم تكن عائلته تخطط لهذا الأمر أو تتوقعه، حتى إنّه اضطر شاباً تحت ضغط منها إلى لالتحاق بكلية الطب لدراسة طب الأسنان، قبل أن يتركها في العام الجامعي الأول. لم يستطع الاستمرار لأنه كان قد حدد طريقه وميوله منذ الطفولة. هكذا التحق بـ«كلية الفنون الجميلة» في القاهرة عام 1957، وعمل رساماً في مجلتي «روز اليوسف» و«صباح الخير»، قبل أن ينهي دراسته الجامعية عام 1962. التشكيلي وفنان الغرافيك والرسام المصري الشهير ولد عام 1940 في حي المغربلين في القاهرة القديمة. كان طفلاً وحيداً لأهله بعدما توفي إخوته الخمسة. والده الأزهري ينحدر من قرية شباس الشهداء في مركز دسوق، في محافظة كفر الشيخ (شمال مصر تطل على البحر المتوسط).
التقط لوثة الفن في الحادية عشرة، حين نشرت جريدة «الأهرام» إعلاناً متقشّفاً عن قرب ظهور مجلة «سندباد: مجلة الأولاد في جميع البلاد» يرسمها الفنان (حسين) بيكار. عدّ «اللباد» المجلة رسالة شخصية عندما تلقّاها. «لم أعد الشخص الذي كنته قبلها، ولم تعد الحياة كما كانت من قبل». تلك كانت الإشارة الخفيّة التي أعلنت ولادته الثانية، وجعلته يكتشف رسالته: «الفن الذي يمكّنك من خلق عالم بهيج لأنه متّسق ومقنع وحقيقي»، كان يقول. منذ تلك اللحظة قرر محيي الدين اللباد أن ينذر نفسه للفن «المتسق والمقنع والحقيقي». ثلاث كلمات تختصر حياته الغنيّة التي أسدل عليها الستار أول من أمس.
شُيّع محيي الدين اللباد، أمس، إلى مثواه الأخير في مدافن الأسرة في الأزهر، على أن يقام العزاء في «مسجد عمر مكرم» في القاهرة مساء غد الثلاثاء

عمل اللباد رساماً للكاريكاتور أثناء دراسته الثانوية، قبل أن يتخرّج من «كلية الفنون الجميلة» عام 1962. تتلمذ على يد حسين بيكار (1913 ــ 2002)، أشهر رسامي الصحافة المصريّة في الأربعينيات والخمسينيات، ثمّ عمل مؤلفاً ورساماً لكتب «دار المعارف» وفي مجلة «سندباد» التي أصدرتها الدار، ومصمّماً ومديراً فنياً في العديد من المجلات والصحف المصريّة، إضافة إلى «السفير» اللبنانيّة. شارك في تأسيس «دار الفتى العربي» في بيروت عام 1975، وعام 1991 شارك في تأسيس «دار شرقيات للنشر»… كذلك صمّم عام 1992 مشروع «كتاب في جريدة» الصادر عن «الأونيسكو».

«مئة رسم وأكثر» في مدرسة اللباد
محمد خير
هناك طريقتان لتعلّم كلّ شيء عن الفن التشكيلي. الأولى: الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، والثانية: اقتناء موسوعة «نظر» لمحيي الدين اللباد… الرسام، ومؤلف كتب الأطفال، والتشكيلي، ومصمم الأغلفة، ورائد الغرافيك، والمعلّم. صمّم على اللحاق بركب الراحلين في عام 2010 الحزين. وهو كعادة الرواد لم يترك فقط الكثير من الفن، بل الكثير من المعرفة أيضاً، وطرائق رسم تحولت إلى ماركة مسجّلة باسمه: الخطوط الناعمة والتكوينات التي تصنع الألفة بعناصر لا رابط بينها، والأميرة الشعبية، والأيقونة الأميركية، والخط العربي، والملامح الأجنبية، والكائنات الحيوانية… كلها تصنع مزيجاً فريداً بتوقيع اللباد. رسوم نبع غناها من المعنى قبل الألوان.
تفتّحت عيناه في حي القلعة، بجوار جامع السلطان حسن… ومنذ ذلك الحين امتزجت في وعيه التفاصيل الشعبية المصرية بالرسوم والصور التي كان يطّلع عليها في مجلة «الهلال» والمجلات الأجنبية. تفاعل المزيج على مهل، فعرف اللباد أنّه يبحث عن شيء جديد. دخل «كلية الفنون الجميلة» فدرس التصوير الزيتي، واستخدم التقنيات الحديثة لاستيعاب الأيقونات المصرية وأبطال السير الشعبية. اختزن الأدوات البسيطة التي يستخدمها المصري العادي في يومياته من تذكرة الترام إلى علبة الكبريت. لم يكن يعرف أنه سيصبح رائد تصميم الغرافيك في العالم العربي، وأسيحوز ألقاباً، لم يهتم بأن يحسبها لأنّه كان مشغولاً بالعمل لستّة أيام في الأسبوع، وبقي كذلك حتى رحيله.
بدء الصراخ
استخدم التقنيات الحديثة لاستيعاب الأيقونات المصرية وأبطال السير الشعبية
تلاميذه أكثر من أن نحصرهم، لكن لا أحد استطاع أن يقلّده. لم تحدد عطاءه الموهبة الكبيرة فحسب بل ثقافة أكبر منها، ومرونة جعلته منفتحاً على ما ينتجه العالم من فنون ومدارس. أضاف على هذه المدارس من خبرته، وقدمها إلى قرائه في كتبه «نظر» (أربعة أجزاء)، و«مئة رسم وأكثر»، و«كشكول الرسام»، و«الخط العربي»، وغيرها… وكل كتاب من هذه الكتب حديقة رسم وكلمات ومعرفة للكبار وللصغار، إذ أدرك اللباد أن الرسم هو الفن الذي لا يعوقه عمر المتلقي.
في مجلة «سندباد» التي كانت تصدرها «دار المعارف»، بدأ اللباد مشواره مؤلفاً ورساماً للأطفال. منح له الفرصة الرائد الكبير حسين بيكار. من هناك، انطلق ليملأ الصحافة والفن العربي رسماً وإبداعاً وتأسيساًَ أيضاً. من بين المؤسسات التي شارك في تأسيسها صحيفة «السفير» اللبنانية التي وضع الماكيت الأساسي لها، فضلاً عن «دار الفتى العربي» في القاهرة. وبين هذا وذاك، كان لا بدّ له من أن يمرّ عبر أهم مدرسة كاريكاتور عربية، مدرسة مجلة «صباح الخير» التي قدمت فنوناً لم تقدمها دول بأسرها.
رحل محيي الدين اللباد، فلم تعد صناعة الغلاف وكتب الأطفال كما كانت قبله. لقد ترك في كل مجال خاضه زهرةً لا ينتهي عبيرها.
مارد من زمن آخر
هارب هذه المرة إلى منطقة مجهولة، تخيّلته عندما سمعت الخبر: «غاب بعد صراع قصير مع المرض». اختار إذاً أرضاً جديدة لمغامرة مصورة، يستنسخ فيها الصور القديمة، يبث فيها حياةً من خيال. مراوغ للثبات والنمطية، «أسطى» يعلم الدروس لكنّه أول من ينساها. مثل بطل طفولته «زوزو»، اتخذ من المغامرة متعةً وأسلوب حياة. المعارك التي خسرها كثيرة. لكنّه كان يخرج بإنجازات عبر تحرير الخيال من العبودية على أشكالها.
ساحر قديم، يلجأون إليه طلباً للحكمة والتمائم، ينقلب مرشداً إلى طرق الحواس المغلقة. يثير القلق في وقت يطالب فيه بنشر الطمأنينة. هذه رسالته الناقصة دوماً. يصنع من فشله طريقاًَ لمتعة جديدة، ويبني مدن كرتون يهدمها في الصباح التالي. ولد عام ١٩٤٠ في حي مصري، عندما كانت القاهرة في عز حلمها الأوروبي، قلقة بين عالمين، تبحث عن محطة، وتقاوم غواية. ذبذبات القلق انتقلت إلى اللباد الذي يبدو خارجاً من الأساطير، عملاقاً قادماً من زمن مختلف. غريب. غربته ليست من البعد، بل في ولع الاقتراب.
كتب الأطفال كانت تناديه ليس إلى الحدوتة العادية، بل إلى حكاية في شكل الصفحات لم يعرف سرّها إلا عندما كبر، وأصبح أهمّ صانع للكتب في الثقافة العربية. خائن أحلام العائلة، قفز في طريق مجهول يقتفي صورة الزمن في طوابع البريد والتمغة المصرية، تذكرة الأوتوبيس، إعلان سجائر… كل ما يحفر علامة في الذاكرة العمومية. طقوس الغواية قادته إلى الكاريكاتور، وحكايات مصورة. أصدر كتباً تفك طلاسم غوايته، اختار لها اسم «نظر» بما تحويه من وصف للحاسة، ومقياس للمعرفة التي تنتجها الحاسة في لحظتها. خبير كان بملامس هذه الطزاجة التي تفاجئك بين طيّات كتاب، أو على سطح صفحة. إذا رأيتها مقطوعةً، ضائعةً، ستعرف صاحبها الهارب الآن في مغامرة لم تكن ضمن أحلامه المؤجّلة.
الأخبار

رحيل محيي الدين اللبّاد صاحب “كشكول الرسام”
بـســـاطـة الـحـــس الـشـــعــبــي جـعــلــتـــه فـنّـــانــاً عــالـمــيـــاً
“عندما كنت صغيراً، كنا نسكن بقرب جامع السلطان حسن، وكان الترام الذي يمر في الشارع الكبير – عندما يدور بجوار الجامع – يصدر صوتاً عظيماً. وكان سائق الترام عندي أعظم وأهمّ رجل في العالم، لأنه يقود هذا الوحش العملاق المهيب، وظللت أتمنى أن أصبح سائق ترام عندما أكبر. وكبرت ولكني لم أتمكن من أن أكون سائق ترام، بل ولم أستطع حتى أن أتعلم قيادة السيارات، لكني تعلمت الرسم، وأصبحت مجرد رسام” (محيي الدين اللباد)
قبل ثلاثة أعوام كنت في زيارة لصديقة سويسرية من أصل ألماني تعيش وحدها في بيت كبير ذي حديقة مترامية على سفح إحدى تلال الريف السويسري الهادئ، وكعادتها في كل مرة، وهي سيدة شغوفة بجمع القطع الفنية الصغيرة من أفريقيا، من أقنعة ومنسوجات وأدوات مختلفة، أطلعتني بفرح على “كتاب مصوّر جميل جدا لرسام مصري”، مترجما إلى الألمانية وسألتني إن كنت أعرف صاحبه!
كانت مفاجأة لي أن أرى “كشكول الرسام” وقد وصل إلى أحد رفوف هذا البيت الريفي في تلك القرية النائية: “طبعا أعرف الرسام مؤلفه، محيي الدين اللباد، أحد رموز فن الكتاب وتصميم الغلف، ليس في مصر فقط بل في العالم العربي”. وخانتني ألمانيتي في ترجمة المثل الشعبي المصري “ابن الوز عوام”، وأنا أذكر لها، استطرادا، أن ابن صاحب الكتاب، صديق لي، تخرج معي في كلية الفنون الجميلة التي تخرج فيها أبوه عام 1962 ويعمل في مجال أبيه الذي ترك بصماته، ليس على غلف الكتب وتصميمات صفحات الجرائد فحسب، بل في أذهان أجيال من الأطفال والكبار وخيالاتهم، عبر لغة البصر وحواشيها من لغة الكلام، فلا عجب أن نجده يعنون كاتالوغاً له من أربعة أجزاء بكلمة بليغة وموحية: “نظر”، ويضع تحته البيت الشعري: “إنْ عشِقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر”.
السبت الفائت، رحل اللبّاد الأب، عن سبعين عاما، بعد صراع قصير مع المرض، بحسب ما صرّح اللبّاد الابن.
تُملي الموهبة الحقيقية على صاحبها وصاياها وهو صبي، فتوجه حواسه إلى كل ما يغذيها، كانت هذه هي الحال مع اللبّاد صبياً، فقد أخذته صور المفردات البصرية اليومية والصغيرة التي لا ينتبه إليها أحد في الغالب: علبة سجائر، علبة كبريت، بكرة خيط، زجاجة كوكاكولا، شكل عملة ورقية، مانشيت جريدة، أفيش سينما… مثل هذه المفردات ذات الحس الشعبي، أصبحت زاداً لهذا الفنان وجعلته أكثر التصاقا بروح البساطة التي تسير بها الحياة في مصر. وإن كان لا بد من ملاحظة فنية هنا فهي أن مثل هذه المفردات، بالتناول العفوي البسيط الذي ميّز غلف هذا الفنان وتصميماته عموما، أقرب الى روح فن البوب العالمي، على رغم عدم الذهاب بفنّه بعيداً إلى عوالم الفن الخالص، حيث كانت عقيدته الثابتة أن الفن يجب أن يخدم دائما شيئا ما؛ وعلى رغم الروح المحلية المعتزة بمصريتها، التي تفوح منها رائحة الأرض ومعنى الوطن، تلك الروح التي بخّها كبار الخلاّقين في مصر الستينات وفي مقدمهم صلاح جاهين.
شرط القدرة على مخاطبة الأطفال أن لا يكون المرء قد فقد الطفل داخله. إنه تواصل مع الأنا قبل أن يكون تواصلا مع الآخر. والطفل في أعمال اللبّاد له مساحة كبيرة، صورةً وكلمة. أما الصورة فهي مستقاة من عوالم طفولة الفنان، بشكل خاص، وحياته عموماً، بانطباعاتها التي غالبا ما تحيل على معنى أو حقبة أو حقيقة. أما الكلمة فآتية من روح اتسعت بثقافة عميقة عبّرت عن نفسها في حدبها الإنساني على المستقبل الذي يدرك الفنان أنه يتشكل عبر ما امتلأ به إناء الطفل من حسّ للجميل. هنا كانت روح اللبّاد من الرهافة والفهم كي لا يقع في فجاجة الوعظ، لإدراكه طبيعة الطفل الذي ينفر من كل أشكال الوصاية الأخلاقية. كان هذا على المستويين الإبداعي والحياتي. لنضرب مثلا على هذا الأخير، ما قاله في معرض الكلام عن ابنه الرسام الغرافيكي الموهوب أحمد اللباد: “حرصت على أن أبتعد عنه وأن أتركه يتطور على خطوط من صنع نفسه، فإن سلطة الأب وسلطة “الأسطى” المتمثلة في شخصي كانت كفيلة أن تعوق تقدمه”.
على رغم حرصه على متابعة الجديد في عالم الفن الغربي الذي تشرّب أساليبه أكاديميا أثناء دراسته، حاول اللبّاد أن يعتصر اسفنجة المفردات الشاربة زيت الشرق، آنيّاً أو تاريخياً، إلى أن صارت تشكيلاته البصرية ـ الكتابية أقرب ما تكون إلى إنتاج عصري لمقامات الحريري، المتداخلة كلماتها مع تصاير الواسطي. نلمس هذا في “كشكول الرسام”، وفي كتبه المصورة الأخرى التي تُبرز استخدامه للكتابة العربية بجمالية تصويرية تعيد الذاكرة إلى عصر البوصة والمحبرة ولوح الكتّاب الخشبي وأزمنة كتابة المستندات، حيث كان كل من يعرف الكتابة ذا خط جميل وكأنه خط كاتب محترف. تلك الأزمنة التي شهد الفنان طرفاً منها طفلاً، وجّهته والأصلاءَ من جيله، في عملهم، إلى مهمتهم الصعبة في مواجهة أزمنة لاحقة تتدنى في الذوق، وتمعن في التغريب والاغتراب، فكان أن اختار الهمس البصري الحميم، ليحكي عن لحظاته الحميمة والنادرة، في زمن لن يعود، ولكن شيئاً من جماله قد يعود.

يوسف ليمود
النهار

محيي الدين اللباد: يوم واحد يكفي لتكون صداقة
حسن داوود
لا أذكر متى قضينا بعض ذلك النهار محيي الدين اللباد وأنا. سنتذاك، ربما في 1986، كان ينبغي عليّ أن أقول أنّني ذهبت في ما يشبه النزهة مع اللباد انتهت بغداء دعانا إليه أحد معارفه لنتباحث في تبويب مجلّة كان يسعى هذا الأخير إلى إصدارها. قال لي “الأسطى” محيي يومها، مقترحا عليّ مشاركته: أنا أتولّى الإخراج والتنفيذ وأنت تتولّى التحرير. وهو كان قد أعد “ماكيت” أولى للمجلة بدا لي أنّه لم يترك لشغلي فيها إلا القليل. كانت الصور والعناوين التي تفنّن في توزيعها تملأ الصفحات.في تفسيره لذلك قال إن ناشري الصحف والمجلات لا ينتبهون إلى أن القارىء المقلّب الصفحات عليه أن ينجذب إليها، هكذا مثلما تجذبه لوحة مرسومة.
هناك، فيما نحن نتباحث مع من رحنا نسمّيه صاحب المشروع، رحت أقول لمحيي غامزاً بأنّه، في ما أنجزه من تلك المجلّة، قد أهدر وقته في غير طائل. ذاك أنّ الرجل ذاك لم يكن ينتظر هذه العناية بالعمل، وهو راح يتصرّف كأنّها تؤخّره. كان مهتمّا فقط بأن يصدر العدد الأوّل، وأن يحدث ذلك سريعا، بوتيرة ما يلفّق رجل أعمال مشروعا طرأت فكرته على ذهنه للتوّ. ونحن إذ أدركنا ذلك معا، رحنا نعلن انسحابنا التدريجي كلمة بعد كلمة، واحدة مني وواحدة من اللباد الذي، لخجله، ربّما ترك لي تلك القفزات التي تجعل الإنسحاب سريعاً.
وقد كان ما بيننا تواطؤاً راح ينشئ بيني وبين اللباد مقدّمات صداقة. كما أنّ التواطؤ ذاك قرّبني إليه وساواني به، هو صاحب التجربة العريضة في عمله والمشارك، مع آخرين هم في منزلته، في إنتاج ثقافة كنت أنا من بين المتطلّعين إلى معرفة أعلامها. أقصد أنّه كان من جيل رائد كانت أسماء أعلامه حاضرة وفاعلة بيننا، على رغم ميلنا آنذاك إلى أن نترك وراءنا كلّ ما سبقَنا أو حصل قبلنا.
وكان هذا الجيل، الذي بينه البهجوري وحجازي وإيهاب وآخرين، على رغم ريادته، مزاملاً لنا قريباً منا. في مرّات كنا نتفرج على رسوم البهجوري في حضوره، أما اللباد فكان يطلّ على الجريدة حيث كنا نعمل مقترحا أشياء كنا نرى أنّها أصوب مما سبق لنا أن رأيناه صوابا. وكان أيضا، في غياباته التي تطول سنة في كلّ مرّة، ينتخب اشخاصا ممن يقرأ لهم، كأنّه يقترحهم على نفسه أو يضع أسماءهم في ذاكرته من أجل أن يقيم معهم شيئاً مشتركاً. لم يقف عند من هم أبناء جيله شأن ما يحدث لأهل الثقافة عادة، إذ يقفون عند الخطّ الذي ارتسم عند كونهم باتوا هم صانعي الثقافة وليس متلقّينها. من قبيل ذلك أنّه لم يتوقّف أبداً عن متابعة الأجيال التي توالت بعد زمننا ذاك. في الكتب التي كان يرسم أغلفتها ظلّ مواكبا لما يُكتب ولمن يظهر من الكتاب الجدد قارئا نصوصهم وراسما المناخ الذي استخلصه منها. في أحد المقالات التي كبت في رثائه قيل خطا أنه كان يأسف من تغيير الثقافة وجهتها عما كانته في سنوات الستينات والسبعينات. ذاك أنّه، هو نفسه، كان متجاوزاً لذلك الزمن وراغبا في أن يرى علامات ذلك التجاوز الذي كان هو مساعداً على تأسيسه. كان محباً للتفاصيل الصغيرة، لما تهمله الأفكار الكبيرة الموصولة بالعقائد. في أغلفة كتبه، كما في رسومه الكاريكاتورية، هناك دائما دخول أو حضور للأشياء التي تستعمل،علبة كبريت مثلا، صورة قديمة لوجه مجهول، شفرة حلاقة، قنينة ماء بلاستيكية، غلاف مسحوق أريال للغسيل، زجاجة كوكاكولا… وإلى ذلك كان يعبث بصور الرموز منتهكاً إياها مدخلاً عليها ما هو من غير سياقها وزمانها.
إلى ذلك أيضا نراه وقد أحبّ أن يسمّي أحد كتبه “تي شيرت”، في الوقت الذي يحتفل فيه باللغة العربية حروفا وكتابة سائلا “هل الحروف الأجنبيّة أجمل من حروفنا؟” ومجيبا “خطّنا العربي أجمل”. جاء ذلك من ضمن احتفاله بالخط والزخرفة العربيّة مبيّنا أثرهما في طريقة النظر والرؤية حيث أننا نرى مثلما نكتب، من اليمين إلى اليسار، بخلاف ما يرى سوانا تبعاً لاتجاه كتابته.
ربما كان عالم الرسوم والخطوط أكثر قابليّة للتنويع من عولم الكتابة وفنونها. محيي الدين اللباد أخذ ريشته إلى كلّ فنّ خطّي أو تشكيليّ موجود، موسعا بذلك دائرة مشاهدي أعماله (ابتداء من عمله في مجلات الأطفال وكتبهم وصولاً إلى الإشراف الفني على صحف وكتب) ومتخطّيا الدائرة الضيّقة التي يسميها البعض إختصاصا. وأيضا، في كلمات الرثاء التي كتبت عنه، يبدو الكاتبون حائرين في ردّ اللباد إلى فنّ واحد من الفنون. فتارة هو “صانع الكتب” وتارة “رسام الكاريكاتور” ثم “مؤلف كتب” ثم “صحافي” راغب بإصدار دورية عربية مختصّة بفن الكاريكاتير، وأخرى مختصّة بالأشرطة المرسومة، ثم “مصمم غرافيكي” إلخ… وهو كان يقول بأن هذه الفنون موصول بعضها ببعض وأنّه لم يكن ينوء بحمل ذلك الطموح الذاهب به في كلّ إتجاه.
انقضت سنوات كثيرة لم أر فيها محيي اللباد. حتى أنّني لم أعد أعرف إذا ما كان مواظباً على زيارته السنوية أو نصف السنوية إلى لبنان. وقد اكتفيت، في زيارة لي إلى القاهرة، بأن اتصلت به تلفونياً، لأعتذر، مباشرة بعد السلام والتحيّة، عن عدم استطاعتي زيارته بسبب عودتي السريعة إلى بيروت. ربما فكّرت أنّ المودّة المتجاوزة لحدود المعرفة، وهي معرفة قليلة كان أساسها لقاؤنا في ذلك النهار، لم تصمد عنده طيلة فترات الغياب تلك. أي أنني أكون أحرجه بلقاء لا يعرف أيّ نوع من أنواع الترحيب يبذل له وأيّ كلام مجامل. ثم أنّ من الصعب أن تقف أمام رجل وتقول له إنّ المودّة الحقيقية أتت بك إليه، فيما لم يدم لقاؤك به أكثر من يوم واحد.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى