مدار السرطان
ماريو فارغاس يوسا
ترجمه عن الاسبانية: وليد سليمان
مازلت أذكر جيدا كيف قرأت مدار السرطان منذ ثلاثين عاما، بسرعة و انتشاء، خلال ليلة واحدة. لقد تمكن صديق لي إسباني من العثور على نسخة باللغة الفرنسية من هذا الكتاب العظيم والرجيم الذي كانت تروى حوله في ليما العديد من الخرافات. وعندما رآني صديقي شديد الرغبة في قراءته أعاره لي لبضع ساعات. لقد كانت تجربة غريبة، شديدة الاختلاف عما كنت أتخيل، ذلك أن الكتاب لم يكن فضائحيا، مثلما كان يروج عنه، بسبب المقاطع الفضائحية التي كان يحتوي عليها، وإنما بالأحرى بسبب ابتذاله وعدميته المرحة. و قد ذكرني بسيلين التي تتحول الألفاظ البذيئة والقذارة لديه إلى شعر، كما ذكرني بـ”نادجا”(1 )، إذ أنه مثل في كتاب بروتون، يتحول الواقع اليومي الأكثر ابتذالا إلى صور حلمية وكوابيس محيرة. أبهرني الكتاب، ولكن لا أعتقد أنه قد أعجبني. لقد كنت حينئذ – ولا زلت- أتمسك بالاعتقاد المتمثل في أنه على الرواية أن تروي حكايات لها بداية ونهاية الغاية منها التصدي لفوضى الحياة بنظام اصطناعي بليغ ومقنع. إن ” مدار السرطان”- و كل كتب ميلر اللاحقة- هي خليط من الفوضى الخالصة والفوضوية الصاخبة والهذر الرومانسي العظيم والرائع، يخرج منه القارئ مصابا بدوار ومبلبلا وأكثر اكتئابا بقليل- فيما يتعلق بالوجود الإنساني- مما كان عليه قبل رؤية هذا المشهد. إن خطر هذا الأدب المتحرر والمشوش يتمثل في الوقوع في الثرثرة، و لم يسلم هنري ميلر، مثله مثل “الرجيم” الآخر المعاصر له جان جينيه من ذلك. ولكن “مدار السرطان”، روايته الأولى، قد نجت لحسن الحظ من ذلك الخطر. وهي بلا أدنى شك أفضل كتبه على الإطلاق، وإحدى أعظم الإبداعات الأدبية في فترة ما بين الحربين، كما تعتبر الرواية الأقرب إلى التحفة الأدبية من بين أعمال ميلر.
و اليوم أعدت قراءة هذه الرواية بمتعة حقيقية. وقد خففت الأيام وأخلاق عصرنا الرديئة من عنفها ومما كان أقرب إلى الجرأة البلاغية. فقد صرنا نعرف اليوم أن الضراط والتمخط يمكن كذلك أن تكون لهما جمالية. ولكن كل هذا لم يضعف من سحر نثره كما لم ينقص من قوته، بل على العكس، لقد زاده ذلك مسحة من السكينة ونوعا من النضج. وعندما ظهر الكتاب سنة 1934، لدى ناشر يكاد يعمل في الخفاء، في منفى ميلر اللغوي، وتحت وطأة المنع والهجومات التي لا تهدأ، كان ما يتم التأكيد عليه أو يعرض الكتاب للعنة هو انتهاكه للمقدسات ووقاحته التي تجعل أسوأ البذاءات تأخذ مكان ما يعتبر ذوقا سليما، فضلا عن الهاجس الغائطي. أما اليوم فقد صار هذا العنصر من الكتاب يصدم القليل من القراء. ذلك أن الأدب الحديث قد تبنى هذا التقليد الذي دشنه ميلر في “مدار السرطان”، والذي صار شائعا لدرجة أنه قد أصبح في كثير من الأحيان وبشكل من الأشكال كليشيها كما هو الشأن لهندسة العواطف في القرن الثامن عشر أو التقيؤ على البرجوازيين في المرحلة الرومانسية أو الالتزام تاريخيا في زمن الوجودية. لقد كفت العبارات البذيئة عن كونها بذيئة منذ زمن طويل وابتذل الجنس وطقوسه إلى حد بعيد. و كل هذا بالطبع لا يمنع من وجود بعض المساوئ. ولكن من بين المسائل المؤكدة لهذه التطورات هو أننا أصبحنا أخيرا قادرين على أن نثمن في هنري ميلر الفنان الأصيل، هذا فضلا عن تمرده اللغوي و موهبته كروائي اباحي.
لقد كان هنري ميلر كذلك بلا أدنى شك، مبدعا حقيقيا له عالمه الذاتي، و له رؤية خاصة للواقع الإنساني والأدب تميزه بجلاء عن باقي كتاب عصره. كما أنه مثل في زمننا، مثله مثل سيلين و جينيه، هذا التقليد الشيطاني المتمثل في انتهاك المقدسات بكل أنواعها، الذي جعل الكتابة على مدى التاريخ تحديا لما تقتضيه لياقة العصر، ونتوءا على سطح التناغم الاجتماعي واستعراضا جماهيريا لكل القاذورات والأوساخ التي يصر المجتمع- وهو محق في ذلك أحيانا- على قمعها. وتلك هي إحدى أهم وظائف الأدب: تذكير البشر بأنه مهما بدت لهم الأرض التي يعيشون عليها، صلبة، ومهما بدت لهم المدينة التي يسكنوها عامرة، فإن هناك شياطين مختبئة في كل مكان يمكنها أن تتسبب في طوفان في أي لحظة.
إن الطوفان والقيامة هما لفظان يتبادران إلى الذهن فورا عند الحديث عن “مدار السرطان”، بالرغم من أنه لا يوجد في الكتاب دم آخر غير الذي يسيل في مشاجرات السكيرين و حرب أخرى غير السفاحات (الضارية دائما) التي تمارسها شخصياته. ولكن هناك إحساس بكارثة عظيمة يسري، ويحدس القارئ أن كل ما يروى هو على وشك أن يبتلعه هولوكوست عظيم. وهو ما يدفع هذه الإنسانية الفاتنة والصاخبة إلى العيش في مثل ذلك الانحلال المسعور. إنه عالم قد وصل إلى نهايته، وبدأ ينحل أخلاقيا واجتماعيا في مجون هستيري في انتظار أن يحل الطاعون والموت، مثلما هو الحال في أحد مشاهد جيروم بوش الخارقة الوحشية. ومن وجهة نظر تاريخية، يعتبر كل هذا مؤكدا تماما. فقد كتب ميلر هذه الرواية في باريس بين 1931 و 1933 في الوقت الذي كانت تتهيأ فيه الحرب الشاملة التي سوف تمسح أوروبا مسحا بعد سنوات قليلة. كانت سنوات ازدهار وبذخ ولا وعي بهيج وإبداعي رائع. وكانت كل النزعات الجمالية الطليعية في ازدهار، والسرياليون يثيرون افتتان المحدثين بصورهم الشعرية و “عروضهم المثيرة”. لقد كانت باريس العاصمة الفنية للعالم وعاصمة السعادة الإنسانية.
في “مدار السرطان” يظهر قفا الميدالية. فالعالم الذي تصوره هذه الرواية باريسي، غير أنه شديد البعد عن مجتمع المظفرين والمتفائلين المترفين هذا، وهو يتكون من أناس منبوذين، ورسامين وكتاب مزيفين، وهامشيين وطفيليين يعيشون في أطراف المدينة دون أن يشاركوا في الاحتفال، بيد أنهم يتشاجرون على فضالته. هم منفيون لم يعد لهم أي اتصال ببلدانهم الأصلية- أمريكا أو روسيا- غير أنهم لم يتجذروا في باريس وظلوا يعيشون في وضع ثقافي يكتنفه الغموض. وجغرافيته تتكون من مواخير وحانات ونزل مشبوهة وبيوت قذرة ومطاعم بائسة وحدائق وساحات وشوارع تجتذب المتشردين. ولكي لا يهلك الإنسان في هذا البلد القاسي تصبح كل الوسائل مقبولة، بداية من العمل الشاق- مصحح في جريدة- إلى العادة المتمثلة في الاقتراض من الأصدقاء، والتشبه بالقوادين والمحتالين. وتظل النوايا الفنية المبهمة- كتابة رواية أساسية أو رسم لوحات مخلّصة، الخ.. هي الذريعة الأخلاقية الأكثر تواترا في خضم هذا الغاب، ولكن الأمر الجدي الوحيد، في الحقيقة، هو افتقاد الناس للجدية، وتشوشهم ولا مبالاتهم السلبية وتفككهم البطيء.
ذلك هو العالم، أو بالأحرى العالم التحتي الذي عايشته عن قرب في نهاية الخمسينات، وأنا على يقين من أنه لم يكن مختلفا كثيرا عن ذلك الذي كان يتردد عليه ميلر والذي ألهمه “مدار السرطان” قبل عشرين عاما. وكان موت هذه البهيمية الباريسية البطيء واللامجدي يثير اشمئزازي. فلم أحتك بها- مجبرا- إلا عندما لم يكن لدي خيار آخر. ولهذا بالذات أستطيع أن أقدر، حق قدرها، المأثرة المتمثلة في إعادة تشكيل هذا الوسط. وهؤلاء الناس والطقوس، وكل هذه الرداءة الخانقة التي نجدها في الحياة المأسوية والبطولية لشخصيات هذه الرواية، إعادة تشكيلهم أدبيا. لكن لعل أكثر ما يلفت الانتباه هو أنه في مثل هذا المناخ الذي ينخره الجمود والانهزامية، قد أمكمن لمشروع خلاق وطموح مثل”مدار السرطان” أن يصاغ و يتحقق. ( لقد أعيدت كتابة الرواية ثلاث مرات و اختصرت في نسختها النهائية إلى الثلث).
فالأمر يتعلق هنا بعملية إبداعية أكثر منه بشهادة. ولا أحد يشك في القيمة الثقافية للكتاب، غير أن إضافات مخيلة ميلر وأفكاره المشحوذة تطغى على العنصر التاريخي في الكتاب وتمنح رواية “مدار السرطان” قيمتها الأدبية. السيرة الذاتية في الكتاب مظهر خارجي أكثر مما هي حقيقة، وهي حيلة سردية تهدف إلى صياغة العمل الروائي بشكل يجعله قابلا للتصديق. وهم ما يحدث حتما في أي رواية، مهما كانت نوايا الكاتب. ولعل ميلر قد أراد أن يكون حاضرا بنفسه في حكايته ويجعل من نفسه مشهدا للفرجة من خلال استعرائية فيها الكثير من الاستعراض وتصل إلى حد التعري التام. غير أن النتيجة لم تكن تختلف عما كان يصل إليه الروائي الذي ينسحب بعناية من عالمه السردي ويحاول أن يجعله لا شخصيا قدر الإمكان. فـ”هنري” مدار السرطان هو غير هنري ميلر كاتب الرواية، رغم انتحاله لاسمه ورغم أنه يروي بعض الوقائع المشابهة لتلك التي عاشها الآخر، إذ أن الاختلافات الموجودة بين الاثنين أكبر من نقاط التشابه. الكاتب هو دائما كائن من لحم ودم، أما الشخصية فهي مصنوعة من الكلمات، وهي نزوة يحركها الفعل الذي يتوقف وجوده على سياق بلاغي، وعلى كائنات أخرى لا تقل لا تقل طبيعتها مغالطة وعلى مدى تصديق القارئ.
إن هنري ميلر الذي كتب الرواية أربعيني، نصف ميت من الجوع ومسكون بشغف الإبداع ومتشرد هائم على وجهه خيبت الحضارة الحديثة أمله، أما “هنري” مدار السرطان فهو شخصية مبتدعة قد نستلطفها أو ننفر منها بسبب مزاجها المتفرد الذي يتبدى أمام عيون القارئ على نحو مستقل، على تخوم الأدب الخيالي، دون أن يكون علينا، لكي نؤمن بها- أي نراها ونحس بها، وخصوصا نسمعها- أن نقارنها بالنموذج الحي الذي يدعي أنها قد أخذت عنه. بين كاتب الرواية وراويها ثمة دائما مسافة، فالأول يخلق الثاني دائما، سواء كان هذا الأخير راويا لا مرئيا أو متخفيا في الحكاية، أو كان إلها أبديا وكلي القدرة يحيط علما بكل شيء، أو كان يعيش كشخصية بين باقي الشخصيات ولديه رؤية لا تقل تعقيدا وذاتية عن رؤية أي شخصية خيالية مشابهة. فالراوي، على أي حال هو أول مخلوق يتخيله هذا الشخص ذو الخيال الواسع والمتشعب الذي هو كاتب الرواية.
إن الراوي- الشخصية في مدار السرطان هو الابتكار الكبير لهذه الرواية وأعظم نجاح يحققه هنري ميلر كروائي. فــ”هنري” البذيء والنرجسي هذا، المحتقر للعالم والسخي فقط بقضيبه وأحشاءه، يملك قبل كل شيء، طلاقة لسان لا تضاهي و حيوية رابلية(*) تحول المبتذل والوسخ إلى فن، وتسبغ – بفضل ثرثرة ميلر الشعرية- روحية على الوظائف الفيزيولوجية والحقارة والقذارة، وتعطي قيمة جمالية للبذاءة. وإن أكثر ما يلفت الانتباه لديه ليس اللامبالاة والتلقائية اللتان يصف بهما الحياة الجنسية وتهويماته المتعلقة بها، بالغا بذلك أعلى مراتب قلة الحياء بشكل لم يصل إليه أي كان في الأدب الحديث، وإنما موقفه الأخلاقي. ولعله يكون من الأصح الحديث عن الأخلاق؟ غير أني أشك في ذلك، إذ بالرغم من أن سلوك الراوي وآراءه تتحدى الأخلاق السائدة- أو بالأحرى الأخلاقيات السائدة- فإننا نكون غير منصفين إذا وصفناه باللامبالاة. إن طريقته في الصرف وفي التفكير متماسكة، فازدراؤه للأعراف الاجتماعية يستجيب لقناعة عميقة، وإلى نظرة خاصة للإنسان والمجتمع والثقافة تتوضح على مدى الكتاب، وإن كان ذلك بشكل مشوش.
ويمكن تعريفها بأنها أخلاق فوضوي رومانسي متمرد على المجتمع الصناعي الحديث الذي يرى فيه تهديدا لسيادة الفرد. فاللعنات المنصبة على “التقدم” وعلى روبطة (**) – الإنسانية- وهو ما سوف يسميه ميلر في كتاب لاحق بـ” الكابوس المكيف” –لا تختلف عن تلك التي كانت تصدر عن لوي فردينان سيلين في تلك السنوات نفسها تقريبا، في كتب هي أيضا مليئة بالشتائم ضد لاإنسانية الحياة الحديثة، أو عزرا باوند الذي كان المجتمع “المركنتيلي” يعني بالنسبة إليه نهاية الثقافة. لقد كان سيلين وباوند –مثل دريو لاروشيل وروبير برازيلاش- يعتقدان أن ذلك يستتبعه انحطاط وانحراف عن بعض النماذج المثالية التي وصل إليها الغرب في لحظات معينة من ماضيه ( روما، القرون الوسطى، عصر النهضة). وقد رمت بهم هذه النزعة الماضوية الرجعية في أحضان الفاشية. ولم سكن الشأن كذلك بالنسبة لميلر الذي لا يصدر عنه هذا الرفض القطعي للمجتمع الحديث باسم حضارة مثالية، مندثرة أو مبتدعة، و أنما باسم الفرد الذي يعتبر أن حقوقه ونزواته وأحلامه وغرائزه لا يجوز التفريط فيها، وإنما تكتسي من القيمة ما يجعل من الواجب المطالبة بها بكل إلحاح، أمام الزحف الجائر للحداثة التي تهدد بمحوها. إن موقفه ليس أقل طوباوية من موقف كتاب آخرين “رجيمين” يحاربون التقدم البغيض بالنسبة إليهم، ولكن بالتأكيد أكثر جاذبية وبالتالي أقل قابلية للدفاع عنه من موقف أولئك الذين تحولوا إلى نازيين وهم يعتقدون أنهم يدافعون عن الثقافة أو التقاليد. فذلك خطر تحصن ميلر ضده بفضل نزعته الفردية المتطرفة. إذ أن هذا المتمرد الذي ترك عمله وتخلى عن أسرته وتخلى عن كل مسؤولياته لأنه يعتبرها نوع من العبودية لا يقبل أي تنظيم اجتماعي مها كان نوعه وخصوصا أي نزعة تجمعية واختار أن يعيش منبوذا ومهمشا لأنه بهذا الشكل وباختياره لهذه الحياة، رغم ما فيها من متاعب وجوع يحافظ على حريته بشكل أفضل.
وإن هذه القناعة- إنه عندما يعيش مثل شحاذ متحررا من كل التزام ومتمردا على قوانين المجتمع المتعارف عليها يتمتع بحرية أكبر ويكون أكثر صدقا من عيشه بين زمرة المواطنين المستلبين المنفرة- هي التي تجعل من “هنري” ذلك المتشائم تماما بخصوص المصير الإنساني شخصا مرحا يستمتع بالحياة و سعيدا بشكل ما.
فهذا الخليط العجيب يمثل إحدى سمات هذه الشخصية الأكثر أصالة وجاذبية وأجمل ما في الرواية كما أنه هو الذي يجعل مناخ الإحباط واللاأخلاقية واللامبالاة والقذارة الذي يلف القصة محتملا وسائغا بل و جذابا أيضا.
و الواقع أن وصف مدار السرطان بأنه “حكاية” ليس دقيقا تماما. فقد يكون من الأصح أن نتحدث عن مشاهد أو لوحات أو أحداث مفككة بلا تسلسل زمني دقيق لم تصبح متماسكة إلا بفضل حضور الراوي بنرجسيته الطاغية إلى درجة أن باقي شخصيات الرواية قد تحولت إلى مجرد ممثلين صامتين. غير أن هذا الشكل المهمل في الرواية ليس اعتباطيا إذ أنه يتفق مع مزاج الراوي ويحكي فوضويته العنيدة- أي ذلك الاستبداد المطلق الذي يخلط بينه وبين الحرية- وحساسيته ضد كل النظم والمؤسسات. لقد حقق ميلر في مدار السرطان ذلك التوازن الصعب بين فوضى التلقائية والحدس المحض من جهة والحد الأدنى من التحكم العقلاني والمنظم الذي يحتاجه كل عمل روائي لكي يكون مقنعا من جهة أخرى ( رغم كونها حكاية تتعلق بالغرائز والأهواء أكثر منها بالأفكار إلا أنها تحتاج وجوبا إلى ذكاء القارئ قبل وصولها إلى قلبه وأحاسيسه ).
ولم يكن الأمر كذلك في رواياته اللاحقة التي بالرغم من أنها قد كتبت بلغة تتوهج أحيانا مثل حريق جميل ورغم فصولها التي لا تنسى كانت في أغلب الأحيان مملة وتفتقد للتناسق الشكلي بشكل جعلها لا تشد انتباه القارئ. وفي المقابل يجد القارئ نفسه في هذا الكتاب مشدودا منذ الجملة الأولى، ويتواصل سحر الكلمات حتى النهاية ضمن هذا التأمل التقي لنهر السين الذي تنتهي فيه هذه الرحلة إلى أقاليم الحياة الهامشية وكهوف الجنس.
الكتاب جميل وفلسفته مؤثرة رغم سذاجتها ولا شك أنه لا توجد حضارة يمكنها أن تصمد أمام فردية في مثل هذا التشدد والتطرف باستثناء تلك التي تكون مستعدة لإرجاع الإنسان إلى عصر الهراوة والهمهمة البدائية. ولكن حتى بهذا الشكل أي حنين تثيره هذه الدعوة إلى اللامسؤولية التامة وإلى تلك الفوضى الحياتية والجنسية التي سبقت ظهور المجتمع والقاعد والممنوعات والقانون…!
ليما أوت 1988
الإحالات:
(1) رواية للشاعر الفرنسي أندريه بروتون (1896-1966) نشرت سنة1928 (المترجم)
(*) نسبة،إلى الكاتب الفرنسي رابليه(1490-1553) المترجم.
(**) من روبوط، أي رجل آلي (المترجم).