صفحات ثقافية

ماذا لو تحوّلت مشاعرنا وأفكارنا أفعالاً؟

null
منى فياض
في كتابه الأخير الصادر بالفرنسية عن دار “بلفون” تحت عنوان “الفيل يتبخر” والمترجم عام 2008 عن اليابانية، يذهب موراكامي في تخيله لقوة المشاعر والأفكار إلى الحدود القصوى، فيجعلها قادرة على التحقق مباشرة في الواقع؛ عبر تخيّله “وحشاً أخضر” يصعد فجأة من عمق أحشاء الأرض ليعبّر عن حبّه لامرأة وردّ فعلها تجاهه وقدرتها على القضاء عليه بقوة أفكارها ومشاعرها فقط لا غير.
القصة القصيرة من خمس صفحات ونصف صفحة لكتاب الجيب، تطرح افكاراً عدة عن الآراء المسبقة والتعميم وعن قوة المشاعر والأفكار التي تتجسد حركة وفعلاً حقيقيين. الوحش الصغير ذو الخرطوم المستطيل والأقدام الزهرية، تغلّب على عقبات عدة لكي يصل إلى سطح الأرض ويحاول الإفصاح عن مشاعر الحب التي يكنّها للسيدة البشرية. معتمداً على ما يبدو على حسن مقاصده، يسمح لنفسه باقتحام منزلها بعد محاولة فاشلة للاستئذان. إذ كيف يمكن سيدة عاقلة وحيدة في عتمة منزلها أن تفتح الباب لوحش غريب، ولو مستأذناً!؟
سرعان ما تكتشف السيدة أن للوحش قدرة على قراءة أفكارها وكأنه يتعلم النطق بلغتها. فعند اقتحامه الباب بسهولة فائقة، فكرت انها لو عرفت لتسلحت بسكين لقطع خرطومه الصغير. يكلمها موضحاً أن من العبث قطع خرطومه لأنه سينمو من جديد اكبر مما كان. عرفت أنه يقرأ افكارها وخافت ان يلتهمها. لكنه أكد لها مسالمته وكشف لها عن سبب مجيئه إليها: التعبير عن الحب. سرعان ما يتبيّن لها ان كل ما يعبر دماغها من أفكار حوله، يكون له تأثير يتجسد في الواقع. فعندما تفكر كيف يمكن وحشاً فظيعاً مثله ان يحبها، فإنه يبدو يائساً ويظهر كأن جسمه ينكمش متغضناً. وعندما يصرخ تفكيرها انه وحش كريه، يبدو عليه المزيد من مظاهر التفاعل الجسدي مع أفكارها الصارخة، فتبرز عيناه وتغور حراشفه.
تستكمل السيدة لعبتها فتروح تتخيل انواع التعذيب والتقطيع لأجزائه. هكذا تتحول كل فكرة شريرة فعلاً يؤذي الوحش الصغير إلى أن يتم القضاء عليه، مبررة ذلك بأنها لم تستدع الوحش، وبأنه يمكنها التفكير في ما تشاء، متباهية بما تستطيع المرأة إتيانه من وحشية. ينتهي الأمر بالوحش الصغير بأن يختفي أثره تماماً من الغرفة، عندما تفكر في ذلك.
عند انتهائي من قراءة هذه القصة الصغيرة الخيالية، لم أستطع الامتناع عن التفكير في تطبيق دروسها علينا في لبنان. أول الدروس، ماذا لو كان للأفكار حقاً قدرة على أن تتجسد في الواقع كما يفترض خيال موراكامي؟ هذا الخيال فقط يبرر للسيد حسن نصرالله استخدام تعبير السكين لوصف تأثير مجرد كلمات. كم يجعل موراكامي استعارة “الكلمات تجرح” حقيقية!
تصوروا أن تتجسد افكار اللبنانيين الشريرة والعدائية والعنيفة ومشاعرهم الغاضبة والحاقدة وخوفهم العميق المتبادل بعضهم تجاه البعض الآخر! عندما أستمع الى البعض كيف يعبرون عن مشاعرهم وبغضهم لمن يخالفهم الرأي من الفريق اللبناني الآخر، استغرب هذه الكراهية وهذا الحقد، وأسرح في ذهني متسائلة: ماذا لو أن هذه المشاعر تملك القدرة على التحقق؟ فأي منظر لأرضنا اللبنانية الخضراء كان ليكون؟ أي لون؟ ثم ماذا لو قتلنا كل من لديه “مشاعر غضب” تجاهنا؟
الدرس الثاني هو عن قوة التعصب والأفكار المسبقة والتنميط. فهذه السيدة تصرفت تجاه الوحش باعتباره شريراً ومخيفاً وقبيحاً وسيئاً، لأن هذه هي نظرتنا الى الوحوش، أو من نعتبره وحشاً؛ هذا على الرغم من حكمة الخرافة والأساطير التي تجهد لتعليمنا عدم التعميم، وأن الوحش قد يتكشف عن أمير (لنتذكر الأميرة والوحش والأميرة والضفدع وحكاية فرخ البط الكريه). لكن عبثاً. فنحن نعمّم الأفكار المسبقة ونأخذ الكل بجريرة الجزء ونظل نرى الآخر المختلف كوحش كاسر؛ ونقضي عليه عندما تسنح الفرصة.
لا أريد أن اتوافق في الرأي مع ما قد نفهم من موراكامي، من أن جوهر الإنسان سيئ وشرير. أعتقد أن جوهر الإنسان طيب ومتسامح وغير عنيف، على الرغم من العنف الذي يبدو متفشياً أكثر من أي وقت مضى بسبب قوة الإعلام وبحثه عن كل غريب ومربح. لا دليل لديّ سوى أننا  ما زلنا على وجه هذه الكرة، على الرغم من امتلاك البعض أعتى الأسلحة وأكثرها تدميراً عبر التاريخ. وبدليل رفضنا المتنامي للتعذيب والعنف اللذين كانا مصدر فخر. كما انتشار الأفكار حول حقوق الإنسان والعدالة، العرجاء نعم، المتحيزة أحياناً، نعم؛ لكنها تتلمس طريقها وتستبدل الثأر الذي لم تكن تعترف البشرية إلا به. كما صرنا نأمل بعدالة القانون ويعمل البعض للوصول إليها، ليس الآن ربما، لكن في زمن سيأتي لا محالة.
الدرس الأخير الذي أود استخلاصه: حذار المشاعر العدائية تجاه الآخر، حذار الغضب المتراكم، حذار الحقد الدفين، لأنها جميعها ستجد يوماً ما طريقها إلى التجسد. من نستضعفه اليوم، ربما يأتي زمن يصبح فيه قوياً، فالأحوال في تبدل دائم. فلِمَ لا نتصرف منذ الآن بما نريد من الآخرين أن يتصرفوا به تجاهنا؟ ولِمَ لا يتنازل الأقوى الآن، بدل أن يصبح الوقت متأخراً جداً، وتُدفَع أثمان باهظة ثمن التعنت وقصر النظر والاستكبار؟
تمنيات ساذجة وأفكار مثالية؟ ربما. لكن الأفكار التي بدّلت وجه الأرض بدأت ساذجة وضعيفة ومثالية. رهاني على المجتمع المدني وحركيته الواعدة ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى