صفحات ثقافية

ليلة أمس في تويستيد ريفير” لجون إيرفينغ بالإنكليزية

null
رلى راشد
الربّان يعرف أين يمضي في عالم تحرّكه الحوادث حيث العنف يولّد العنف
لا يفترض اللحاق بسرد جون إيرفينغ تعليقا للشكّ فحسب وانما لخلوّ الثقة ايضا. ذلك ان نصّه يقضي تدريجا على ميل فينا الى استنفاد الصبر ويجعلنا نستسلم الى وضعية وثيرة، مؤمنين بأن ثمة في مكان ما على متن المركب السردي، واياً يكن تشتّت مساره، ربّاناً عارفاً يدرك تماماً الى اين يمضي. هذا لأن الكاتب الأميركي يعكف على آخر جملة روائية قبل الالتفات الى باكورة الجمل. يبدأ روايته عند مفصل النهاية، فيصير المقام الأول للمقام الأخير. من خصال جون إيرفينغ أن لا يدوّن فكرة الجملة الختامية فقط، وإنما أن يبلورها كاملة في تفاصيلها الزمنية والمكانية وفي شخصوها واسمائهم ويترك لها ترف فكّ العقد والأزمات. يرسل الجملة الأثيرة الى بعض الاصدقاء المختارين مدوّنةً على بطاقة بريدية، يوثّقها هؤلاء من دون اخذ عناء التمعّن في فحواها ليكتشفوا بعد اعوام، عند صدور الكتاب المعني، ان الخاتمة ظلّت على حالها، وان ايرفينغ لم يخن الفواصل حتى.
صنع ذاك المشي المتأنّي من ايرفينغ، شخصاً لازمنياً في ابناء جيله من باقة الروائيين الأميركيين. كتب من دون اختبار الزلاّت، فقدّر لأعماله ان تحلّ حدثا سعيدا في اي عقد صدرت. ليس اليانكي بلا ريب مؤسسة أدبية على طراز فيليب روث او جون ابدايك، او عميدا يساريّا بنسخة كورت فونغات او راي برادبوري. يصعب تالياً تصوّره مرتاحاً في حفلات الكوكتيل النيويوركية او في صخب نقاش يجمعه الى طلاب شباب في شأن مآل الرواية. نشعر انه يفضل العودة الى نيو اينغلاند حيث يقطن سرب من شخوصه من ابناء الطبقة العاملة يسمهم بتعاطف جلّي.
رواياته في الحد الأدنى جيدة، بل جيدة جدا احيانا، في حين ان معظم مجايليه، وبعدما كرّسوا شهرتهم بدفع من الشرارة الأولى، ذهبوا صوب خيارات لامتجانسة، لأن حاجتهم الى ابداء الرأي واتخاذ المواقف كسفت اهتمامهم بالبنية الروائية. لم يسمح إيرفينغ لنفسه بهذا الإسراف، وهنا مفتاح توازنه الكتابيّ. وعى جيدا ان الحرفي المثابر هو القادر على تحرير الفنان الملهَم الخابئ في الروائي. كل كاتب مستحق يعرف هذه الحقيقة على نحو غريزي، غير ان قلة ابقوها جاثمة امام عيونهم. والحال، ان هذه الملكة الآيلة الى الانتفاء، تجعل رواية إيرفينغ الاحدث، “ليلة امس في تويستيد ريفير” من اسماء المتعة وإن غير المكتملة.
تقيم هذه الرواية على مسافة من المغامرات المترفة في اعمال ايرفينغ الاستهلالية. اتّبع في الماضي مبدأ نمذجة الأسلوب وفق تصوّر ابطاله الأدبيين، وكان هؤلاء بهوية ديكنز وجورج اليوت، ليتراءى راهناً لكأنه يدخل الى وسط مشهدهم التخييلي ايضا. يشير العنوان الى احدى القرى الصغيرة شمال نيوهامشير، تضمّ عنابر للعمال في الخمسينات من القرن المنصرم، وتحديدا في 1954، غير ان في وسع المكان، لفرط بدائيته ان ينتمي الى الخمسينات من القرن التاسع عشر. يعيش دومينيك وابنه الفتيّ داني بنمط سابق للحقبة الصناعيّة في جماعة لا تقرّ بالكياسات الإجتماعية العصرية، حيث لا يزال الخبز يُصنَع في البيوت، فيما تُعَدّ الدببة حيوانات ينبغي صرعها.
تتأرجح الحبكة عبر خمسة عقود وامكنة عدة (بوسطن وايوا وفيرمونت وتورونتو)، ولا يتسرّب الشك البتة في شأن اقدار اولئك الموصوفين، ذلك انه يتّضح منذ البداية اننا في “عالم تحرّكه الحوادث” حيث “يولّد العنف العنف”. يقدح هذا المناخ من التوتر، عملية قتل فتى في الثانية عشرة وابن رئيس مخيم عمال المناجم، عشيقة والده من دون قصد، وذلك بعدما ظنّها دبّاً. لن ينتظر المراهق بزوغ الصباح ليفرّ برفقة والده خشية الانتقام، لأن المرأة الميتة على علاقة ايضا بأحد شرطيي المدينة العديمي الرأفة. يفسّر ايرفينغ ان “قاموس دومينيك دلّل غالبا على حوادث في وسعه تفاديها”، وكان “ابنه متآلفا جدا مع كآبة والده ومفاهيمه القدرية للهشاشة الانسانية”. غير ان دومينيك لن يتردّد في تعديل مفاهيمه في علم الوجود، ليعتبر ما جرى “حادثا لا يقع على عاتق احدهم”. سيتحدّى معيش داني تالياً، كل المفاهيم المسبقة للقدر والايمان والمصادفة. بدءا من العنوان، يذهب ايرفينغ صوب مناورة القصّ التقليدي الى الإشارة الى امر حدث ليلة امس في تويستيد ريفير. انه نطاق غير مسبوق في تجربة الكاتب، حيث اطار ريفي وحبكة دقيقة الملامح، لا تستنجد بحيل لا تحصى تتدافع الى حد الارتطام احيانا. تتبدّى موهبة ايرفينغ في القصّ مكموشة على قدرة التأثير، وإن استعان في برهات بانحناءات عاطفية متشعّبة وإلماحات ميتافيزيقية وقفزات مفاجئة، ولكن قيّمة.
في القصة التي خيطت بحنكة، يحوط داني رجلان. هناك دومينيك الأب “المتمتّع بهيئة رجل استسلم منذ زمن الى قدره” مذ فقد زوجته في حادث طائش، وداني الذي لا يزال طفلاً، ويستنكف عن تناول المسكّرات عازما على حماية ذريّته من نزوية الحياة في مناطق الداخل الأميركي. ينضمّ اليه صديق قريب وأحد أحبّ شخوص ايرفينغ، وهو مثال لا يقهر، يتحدّر من الطبقة الكادحة بإسم كيتشوم. الرجل فظّ وحنون، ويغوص في حشد من “الإصابات والتشوّهات”، يناسب كتهجين شديد بين السير جون فالستاف تلك الصورة المثيرة للإرباك في عمل شكسبير المسرحي “هنري الرابع”، وبين شخصية نانابوش المبتكرة وفق الأميركية لويز ايردريتش. الحطّاب الأمّي كيتشوم، متفحّص جيّد للروايات يكبّ عليها “بتصميم يدنو من الخبل”. يحتسي الخمر ويطلق الشتائم ويحبّ داني شديد الحبّ ويثير غبطته من طريق قصّ حكايات يتمحور البعض منها على والدته الغائبة. يذكر ايرفينغ كيتشوم قائلاً” “بدا كل شيء فيه متعوّدا وخشنا عند الأطراف كلطخة متضرّرة”، ويلحظه بمقاربة داني “قاسيا على نحو شرير ايضا”.
في رواية “ليلة امس في تويستيد ريفير”، فسحة اشكاليّة مردّها التركيز على مسيرة داني المهنية بوصفه روائياً شهيراً عالمياً ينتج تخييلاً “ذاتيا وتصويريا ذاتيا في آن واحد”، على شاكلة جون ايرفينغ، ربما نجازف في القول، في حال اقررنا بتلك المسلمّة. ينخرط داني، كمبتكره، في وقت مبكر، في مسار ادبي. يقصد ايكستر حيث يشتغل عارضاً يستلهمه التشكيليون مادة للعمل، ليجاور بعدذاك كورت فونغات زميلاً للدراسة في ورشة تدريب على الكتابة في جامعة ايوا. يصدر لاحقاً روايتين تلقيان نجاحاً محدوداً ثم يدرّس في ماونت هوليوكي، قبل ان يحقّق كتابه الرابع انتشارا ويصير شريطا سينمائيا شعبيا. يضيف بعدذاك الى مجموعته رواية مبحثها الإجهاض ثم يكتب سيناريواً يحوز بفضله جائزة اوسكار. في حال كان المرء على اطلاع على بعض شذرات من حياة ايرفينغ، فسيشعر بأنه في مكان مألوف. ليس ثمة خطأ جسيم في الإتكال على إلماحات ذاتية وخصوصا في حال ايرفينغ الذي يهوى ذاك الشكل من الاعترافات، غير ان الحوادث الابتكارية في الرواية تخدم في حالات عدة اختزالاً لقصة ايرفينغ الحقيقية، لا سيما في اجتراحها مطارح ملوّنة يستوطنها شخوص ذوو طباع فذّة.
في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، مدّت رواية “العالم وفق غارب” ايرفينغ بجائزة “ناشيونال بوك اوارد”، ليبيع بعدذاك ملايين النسخ بفضل الرواية المذكورة أولاً، وبدفع من تحفته “صلاة لاوين ميني”. حرّك من خلالها الجيل العشريني فصار إصدار مؤلّفاته حجّة مثيرة للحماسة على نسق لم يتقنه كثيرون. يسهل تذكّر ناس غرباء متروكين في ظروف لاامتثالية فضلا عن لحظات سعيدة وأخاذة، ضمّنها ايرفينغ روايته “العالم وفق غارب”. تنشغل حكاية ت. س. غارب، ابن النسوية المثيرة للجدال جيني فيلدز، بالاختلال العقلي والبؤس. رسخ الفصل الأول وجود المرأة شابةً رياضيةً في الثانية والعشرين نبضت وجنتاها لوناً، انسدل شعرها الاسود الفاحم واللمّاع وبدت مشيتها ذكورية بعض الشيء “بينما تأرجحت ذراعها كلما تحرّكت، في حين كان ردفاها وركاها نحيفة وصلبة الى حد انها بدت من الخلف كالفتيان”. والحال، انه بمنّة من العلاقات الجنسية المريبة وغواية النسويات العدائيات ناهيك بالأقزام والدببة والمصارعة، قبضت نصوص ايرفينغ على خيال جيل برمّته ليستريح نجما روائيا. الآن في السابعة والستين فقد الكاتب زهو الشباب ربما وبعض القراء والألق كذلك في اعقاب نصوص تثاقلت خلال العقدين الماضيين، غير ان نبرتها بقيت لافتة كما اعتدنا.
تلتزم “ليلة امس في تويستيد ريفير” (راندوم هاوس) خيار ايرفينغ السردي البكر من حيث تفادي الضغط على المعلومات. تأتي القصة برسم باهت وربما متوقّع يفترض انتقاء السبل المتخيلة المرسومة سلفا، تلك التي تتكرر وترجع الى نقطة الصفر. تبدأ جمل ايرفينغ غضّة بسبب نتف التفاصيل الثانوية، ثم تجتاز الدغل الفاصل بين الموضوع والفعل، غير انها تحوم حول التيمة الاساسية وتكاد تغفلها. يبلغ القارئ حدّ شق النفس فيستسلم الى استفهام حول الشخصية الرئيسية في وسط هذه المتاهة، يسأل اذا بدّد الروائي الحبكة عالقا في زحمة الأماكن وتناسل الوجوه.
في عجقة تقدّم إيرفينغ في مرحلته العجوز ينقّب الكاتب على نحو اعمق من اي وقت سابق، عن الدافع الفعلي لحثّ روائي بالمطلق على الكتابة. انها مسألة طاردها في روايات عدة، غير انها تسكنه ها هنا. يهجس داني بعمله ويقتصد في الوقت والطاقة كرمى للذين يحبّهم خصوصا، اي دومينيك وكيتشوم وابنه فضلا عن نساء عدّة، يطأ الجميع حياته ويغادرونها كأوراق تكنسها الريح. يستفهم دومينيك في احد المشاهد الأكثر ايقاظا للتوتر: “اي شكل لجلد النفس هذا؟”. والحال انه يدرك الجواب حدسيّا. لا يهجس داني بما اقترفه في تويستد ريفير فقط، وانما بالرعب مما يكيله له العالم.
عرّى ايرفينغ تعذيبه الذاتي في هذا النص الرواية، علامةً على موهبة حكواتية معزّزة، ولا سيما عندما يصارع داني شياطينه وخلال لحظات حيث تبدو هذه القوى على شفا الفوز حتى.

مقتطف: الــيـــــد الـــرابـــعـــة
شعر باتريك بالإنزعاج الشديد بعدما تسللت الى منخريه رائحة نسائية تفوح من وجه الدكتور زاجاك. حلّ الامر كقرينة على حياته الخاصة الناشطة، غير ان والينغفورد لم يكن يبحث عن معرفة تفصيل مماثل في شأن الجرّاح زاجاك الذي قصده لعلاج ذراعه فيما راح الاختصاصي يؤكد له ان ما يحسّ به على مستوى ساعد ذراعه الأيسر لا يثير القلق.
تبيّن ان ثمة وصفاً علمياً لهذا الشعور المزعج الشبيه بدبيب حشرات صغيرة غير مرئية في اعلى الجلد وأسفله. قال الدكتور زاجاك انها تسمّى “فورميكايشين”. غير ان والينغفورد لم يفهم ما تفوّه به تماما، ظنّه يقول “فورنيكايشون” (اي المعاشرة خارج اطار الزواج). قال: “عذراً، أيمكنك ان تردّد ما ذكرته للتو؟”.
كرر الطبيب كلامه شارحا “فورميكايشين، بحرف الميم، وتعني “الهذيان الحسّي”.
-“آه، اجل”.
اردف زاجاك: “يمكن التسليم بتمتّع الأعصاب بذاكرة يقظة جداً”. اضاف “ما يثير العجب في مسألة الأعصاب، انها قادرة على تخطي الشعور بنقصان ذراعك مثلا. دعني أحدّثك عن حياتك العاطفية لأنك أشرت اليها مرة. في وسعي ان اتخيّل الأسبوع المتوتر الذي ينتظرك في هذا السياق. لا احسدك على الايام القليلة المقبلة. تدرك طبعا ما اعنيه”.
في الواقع لم يفهم والينغفورد مقصد الدكتور زاجاك. ايّ نوع من الأسابيع ظنّ الدكتور انه في صدد اختبارها؟ عاد ليتذكّر انه لطالما عدّ زاجاك مجنونا بعض الشيء. بل ذهب الى التفكير انه ربما كان الجميع في جامعة كمبريدج مخبولا.
لم يلبث والينغفورد ان أقرّ: “لا يخالف ما تفضلّت به، الحقيقة فعلا. لم يحالفني الحظ دوما في مسألة العلاقات العاطفية”. غير انه عاد ليتريّث في الكلام، لأنه ادرك انه لم يناقش تفاصيل حياته العاطفية يوما مع الدكتور زاجاك. هل تسبّبت الأقراص المسكّنة التي تناولها، بتشتته، هل تتخطى آثارها الجانبية ما قيل له؟
شعر والينغفورد بحيرة كبرى عندما راح يسعى الى تحديد التفاصيل التي تبدّلت في عيادة الدكتور زاجاك. في المحصلة، تمتع هذا المكان بقدسيّة وخصوصية في آن واحد، غير انه بدا مختلفا جدا عندما حاولت السيدة كلاوسين التقرّب منه وهي مستلقية في الكرسي عينه حيث جلس الآن، فيما يمسح بعينيه الموجودات التي علّقت على الجدران المحيطة.
في برهة أيقن ما الذي تغيّر فعلا. لسبب ما، ازيلت جميع صور مرضى زاجاك من المشاهير واستُبدلت برسوم اطفال. في الواقع لم يكن هناك سوى رسوم من اعمال طفل واحد هو رودي. حاول باتريك التعرّف الى مضمونها فارتأى انها قصور في السماء، ناهيك بسفن عدة ضخمة على شفا الغرق. فكر ان الفنان الشاب شاهد شريط “تايتانيك” السينمائي بلا ريب. والحال ان رودي شاهد الفيلم مرتين في رفقة الدكتور زاجاك، على الرغم من ان الطبيب جعل الطفل يغمض عينيه خلال المشهد الجنسي في السيارة.
لمح عارضة شابة وحاملاً الى اقصى حدّ، في حال جاز القول، في سلسلة من الصور. شعر والينغفورد إزاءها بالإنجذاب، ولم يفاجئه الأمر. انها زوجة زاجاك إيرما بلا ريب، وقد سبق ان تحدّث إليها عبر الهاتف. علم والينغفورد ان ايرما تنتظر توأما عندما سأل الطبيب عن الاطار الفارغ المتدلّي من الجدران في اماكن عدة، وحيث افسح لصورتين فوتوغرافيتين.
قال زاجاك لباتريك بنبرة يحرّكها الفخر: “انها مخصصة للتوأم عندما يبصر النور”.
لم يكن احدهم من مجموعة شاتزمان وجينجيليسكي ومينجيرينغ وزاجاك وشركائهم، يحسد زاجاك على ولادة التوأم، على الرغم من ان الأحمق مينجيرينغ اعتبر ان ولادة توأم ما، يستحقه زاجاك تماما. اما شاتزمان فلم يجد ما يذكره في خصوص الولادة المرتقبة، ذلك انه اوغل في التقاعد. في الواقع كان توفّى.
اما جينجيليسكي (الحيّ) فنقل غيرته من زاجاك صوب شخص آخر، وكان احد زملائه الأصغر سنا ادخله الدكتور زاجاك جمعية الأطباء الجرّاحين. كان نايثان بلاوشتاين افضل تلاميذ الطبيب في اختصاص الجراحة العيادية في جامعة هارفرد. لم يكن الاستاذ يحسد بلاوشتاين الشاب قطّ، بل على نقيض ذلك، اقرّ بتفوّقه على المستوى التقني وعدّه “عبقرياً حياً”.
يوم بتر طفل في العاشرة يتحدر من نيوهامشير ابهامه بمنفاخ الثلج، اصرّ الدكتور زاجاك على ان يتولى بلاوشتاين جراحة وصل الإصبع مجددا. كان الابهام في حال مزرية بعدما تجمّد على نحو غير متواز. بحث والد الطفل نحو ساعة ليجد الاصبع المتضررة في وسط الثلج، قبل ان يضطر افراد العائلة الى الانتقال بالسيارة نحو ساعتين لبلوغ بوسطن. تكلّلت الجراحة بالنجاح. ولم يلبث ان حاول زاجاك الحصول على دعم زملائه لتضاف شهرة بلاوشتاين الى لافتة العيادة والى الأوراق المعنونة الخاصة بالمؤسسة. غير ان هذا الطلب جعل مينجيرينغ يبدي انزعاجا واضحا، ولم يكن ثمة شك في ان الأمر جعل جينجيليسكي (الميت) يتقلّب تحت الثرى. اما في ما يخص طموحات الدكتور زاجاك في ميدان عمليات زرع اليدين، فتحقق ما اراده لبلاوشتاين فصار مسؤولا عن جراحات مماثلة. على ما توقّع زاجاك، تكرّرت الحاجة الى عمليات مماثلة. في حين اعرب زاجاك عن سروره للانضواء في فريق مهني، اعتبر الشاب بلاوشتاين افضل جرّاح بين اقرانه. لم يكن ثمة ذرة من الغيرة او البغض في هذا القول. وللمرة الأولى، وعلى نحو غير متوقع بالنسبة اليه حتى، وجد الدكتور نيكولاس ام. زاجاك نفسه، رجلا سعيدا ومرتاحا.
اكتفى زاجاك منذ مدة بالأطراف الاصطناعية التي صممها وجمعها على مائدة المطبخ، فيما كان يصغي الى العصافير المغرّدة في الأقفاص. كان باتريك والينغفورد حليف زاجاك وافضل اختراعاته، ذلك انه بيّن عن استعداد لعرض اي طرف اصطناعي جديد في نشرة المساء الاخبارية، على الرغم من انه اختار ألاّ يضع الطرف بنفسه. غير ان الدعاية افادت الطبيب الى حد كبير.
حمل احد نماذج البدائل الاصصناعية من اختراعه اسم “الـ زجاك” على ما كان متوقّعا، وبدأ الدكتور تصنيعه في المانيا واليابان على السواء، علما ان النموذج الألماني الصنع كان اغلى من سواه بعض الشيء فيما تمّ التسويق للإثنين على مستوى العالم.
سمح نجاح “الـ زجاك” للدكتور زاجاك بتقليص ساعات عمله كجرّاح الى النصف. واظب على اعطاء المحاضرات في كلية الطب غير انه غدا في وسعه تخصيص مزيد من الوقت لاختراعاته، ولرودي وايرما، وقريبا للتوأم. وجّه زاجاك النصح الى باتريك والينغفورد قائلاً: “ينبغي لك انجاب الأولاد” فيما كان يطفئ انوار مكتبه فاصطدم الرجلان احدهما بالآخر على نحو غريب في الظلمة. اضاف: “ينبغي لك ان تدرك ان في وسع الأطفال تبديل منحى حياتكَ”. اشار والينغفورد مترددا الى رغبته العميقة في  تعزيز علاقته بأوتو الإبن. فهل يمكن الدكتور زاجاك ان يسدي اليه النصائح ويدلّه الى افضل وسيلة للتواصل مع طفل في عمر اوتو، وخصوصا انه لا يتسنى له لقاؤه سوى مرات قليلة؟
لم يلبث الدكتور زاجاك ان أجاب: “ينبغي لك ان تقرأ له القصص وكأنك تتلوها”، ليس ثمة اسلوب يضاهيه. ابدأ بقصة “ستيوارت ليتل، ثم جرِّب “تشارلوتس ويب”. ردّ باتريك متحمساً: “اذكر هاتين القصتين جيدا”، ليردف: “كنت احب “ستواريت ليتل، ولا ازال اذكر انتحاب أمي خلال قراءتها تشارلوتس ويب”. اضاف زاجاك: “يجب حرمان اولئك الذين يقرأون “تشارلوتس ويب” من دون الانتحاب من نعمة الاحساس. لكن قل لي كم يبلغ سن الصغير اوتو؟”.
– “ثمانية شهور”.
– “إذاً، بدأ يحبو للتو؟”، ليزيد زاجاك: “انتظر الى حين يصير في السادسة او السابعة، اعني ستة او سبعة اعوام. عندما سيبلغ الثامنة او التاسعة فسيكون قادرا على قراءة ستيوارت ليتل و”تشارلوتس ويب” بنفسه، غير انه سيكون مستعدا في سن صغرى للاصغاء اليك تروي هذه القصص”. تمتم باتريك: “في السادسة او السابعة، كيف يسعه ان ينتظر الى هذا الحد ليحّسن علاقته بأوتو جونيور؟”.
اقفل زاجاك مكتبه، فدخل وباتريك قفص المصعد ونزلا الى الطبقة الأرضية. عرض الدكتور على المريض اصطحابه الى فندق تشارلز، ذلك انه يقع في الطريق المؤدية الى منزله، فوافق والينغفورد بسرور. الحال، ان المذيع التلفزيوني الذائع الصيت لم يعلم باختفاء الطائرة التي تقلّ كينيدي سوى عبر أثير الاذاعة خلال انتقاله بالسيارة.
ترجمة ر. ر.
(عن الانكليزية)

جون إيرفينغ
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى