سياحة تراجيدية في تاريخ تدمير الكتب

لطفية الدليمي
قال الشاعر الاميركي ايمرسون: “كل كتاب يُحرَق، يضيء عالمنا”. أعارض مقولته بعبارة مغايرة: كلما ولد كتاب غمر الضوء عالمنا. بعض الكتب تتكفل إلغاء الزمن او تقطفه لنا كفاكهة محرمة أو تضعنا على حدود المطلق. بعضها يصير مادة مسكرة وينطفئ كما الومض، وبعضها الآخر نصحبه كتميمة للقلب المستوحد، وسواها يصير تعويذة الزاهد أو تغدو وطن الغريب المكتفي بوهج العبارة. الكتب لها شذاها ونبضها، ومن تواتر السنوات يتكثف عبقها الخفي الذي يتشهاه عشاق القراءة. ندرة من الكتب تحيا مثل كائنات حية، فبعضها كالشجر راسخ ومتجدد تتفتح براعمه لدى كل قراءة، وبعضها خفيف محلّق كالطير ومنتشٍ بموسيقى اللغة، وهناك كتب كالموج تدفعك إلى الاعماق أو تلقي بك على شطآن الوحشة، وكتب نضرة كالربيع، بعضها كائنات كتومة تنطوي على اسرارها وتراودنا على المعنى. الكتب الآتية من ضفة الاختلاف تتعرض لكراهية الجهلاء وسفاهة المؤولين وبطش المستبدين. بعض الكتب  يزدهر – وإن كان بلا قيمة- عندما يحظّر ويمسي تداوله هوسا وتجارة. بعضها يهبّ كعاصفة مؤنثة غايتها قول الجسد في تجليات جماله وسطوع رغبته. حشد من الكتب العتيقة يعاد الآن إلى واجهات القرن الجديد ويهبّ كجائحة تعاليم ذكورية تفضح الشبق المتواري تحت عباءات التقى وتقنن الحب والمتع بمسطرة التحليل والتحريم. بعض الكتب مكرسة لتحطيم الوصايا وتمزيق الحجب، وهناك كتب بكماء تعوزها بلاغة التواصل سرعان ما تذوي في النسيان، وكتب مباركة كخبز النذور تلهمنا سنن البقاء، وكتب تسري كلماتها فينا كلقاح مخصب، وثمة كتب تحرضنا على سفك الخوف ودحر العتمة وترويض الأحزان. مذاقات الكتب تتباين وتتعدد وتتنافر، وقد تتخالط فنلتهمها ونتلذذ بنكهاتها السحرية. لكأن المكتبات ولائمنا المقدسة، نقطف من موائدها الملغزة المتع والري أو نجترح رؤى لخطوتنا التالية، وهناك كتب شعر تمطرنا بالنجوم، وكتب عشق تفوح بالوعود وِنعَم الوصال، وكتب تعلي سلطة العقل وأخرى تسقينا ترياق الأمل، ونحن نغرق في محيط العالم المسموم. كتب وكتب وكتب تملأ خزائن بيوتنا وقاعات المدن وجامعاتها وأسواقها وتنشر بهاءها بين الناس بأسرع مما تشيع تعاليم المستبد أو فتاوى المتشدد. إزاء البهاء الذي تسفحه الكتب على حياتنا، يتكاتف الجهلة والمستبدون لإدراكهم خطورتها على سلطة القمع ويجنّدون لدمارها جيوش النار وجحافل النهابين.
كتاب فرناندو بياز، “التاريخ العالمي لتدمير الكتب من سومر القديمة إلى العراق الحديث”، الصادر عن “دار اطلس” في نيويورك، سِفر عابقٌ بالنار والحيف. قال عنه نعوم تشومسكي “مدهش، وافضل كتاب من طرازه”. هذا العمل يثأر لكل كتاب أُحرق وكل رقيم دُمِّرَ على امتداد التاريخ البشري المجبول بالدم والرماد. فرناندو بياز، كاتب ومدير المكتبة الوطنية الفنزويلية، وباحث في تاريخ تدمير الكتب وملمّ بحوادث المحارق المخزية التي وصمت الحضارات على مر العصور. زار العراق بعد سقوط بغداد فلم يجد سوى الرماد يرسم شارته على جباه القتلة والضحايا، ولم يستثن أكفّ الرضّع وشفاه العاشقات. أتى بياز الى أرض سومر، هو المهموم بملاحقة أعداء الكتب، ضمن فريق دولي متخصص بالمكتبات لمعاينة ما دمره النهّابون ومشعلو الحرائق، وليقدم هو وفريقه رؤية ميدانية عن الخسارة التاريخية للذاكرة العراقية المدمرة، قال: “إن ما شهدته في بغداد كان افظع من أن يستوعبه عقل انسان أو تعبّر عنه بلاغة اللغات”. وقف مذهولا أمام نزعات البشر التدميرية وشهد بقايا حريق المكتبة الوطنية ودار الوثائق اللتين تحولتا ركاماً اسود وهباباً يتطاير في رياح الجنون. في زيارته عقد لقاءات مع المعنيين بالمكتبات وزار بعض المكتبات الناجية. عمل بياز طوال اثنتي عشرة سنة لينجز هذا الكتاب، الذي بدأه قبل احتلال العراق وصدّره بعبارة للشاعر هاينريش هاينه “حيث يحرقون الكتب سينتهون بإحراق الجنس البشري”. استل العبارة من كتاب هاينه عن المنصور الاندلسي الذي استولى على حكم قرطبة بعد الخليفة الحكم الثاني وأقدم على حرق مكتبة القصر الملكي في لحظة جنون. ومن الشاعر الاميركي ايمرسون، اختار بياز هذه العبارة الشجية البليغة: “كل كتاب يحترق يضيء لنا العالم”. أنجز الكتاب بدعم من جامعات أميركية وأوروبية، وكشف في تضاعيف صفحاته عن تاريخ تراجيدي لعلاقة الانسان بالكتاب، بادئا من سرقة ألواح سومر القديمة وتهشيمها، حتى النهب المروع للمكتبات العراقية بعد الاحتلال، مرورا بالصين والهند وبلاد الاغريق والاسكندرية والاندلس، ليتوقف برهة لدى حرق الصليبيين للكتب وصولا إلى حرق القسطنطينية، ويتريث برهة في المانيا  حيث تلذذ النازيون بإشعال محرقة شنيعة للكتب عام 1933 على يد غوبلز. وقبل ان ينهي الكتاب، أفرد فصلا عن ظهور الرقابة والرقابة الذاتية ومجازر حرق الكتب في القرن العشرين.
ارتقى فرناندو بياز بهذا التحقيق العالمي الى مصاف المحاكمة الكبرى لقتلة الفكر، وكشف عن انحطاط السلوك البشري والدوافع الخفية وراء تدمير الكتب، وقرأ عنف الانسان ضد الكتابة على أنه “سلوك منحرف موجه ضد الفكر والخلق، إذ يعتقد بعض اعداء الكتب أن حرق كتب الاخرين وتدمير ثقافتهم المختلفة، شعيرة للتطهير والتكريس ومحو الآخر، وبالتدمير يظهر لنا البشر نزعات كامنة في أعماق الشخصية الانسانية  ترى ان القوة الخالدة للكتب تكمن في كونها مستودعا للمعرفة البشرية وذاكرتها”. يصبح تدمير كتب الآخرين ممن نختلف معهم او حتى الذين لا نفهمهم، تعبيرا عن إلغاء ذاكرتهم واطفاء حضورهم في مهرجان التاريخ الصاخب.
يستهل بياز الكتاب ويختمه بتصوير عمليات نهب الكتب والمخطوطات والاعمال الفنية وحرقها في المكتبة الوطنية العراقية والمتحف العراقي ومكتبة الاوقاف في 2003، ويعلن ان الدمار الكبير والحرائق التي حصلت كانت بعون من لامبالاة القيادة الاميركية، فقد تمركزت قواتها امام المتحف العراقي، وعلى مرأى منها تم نهب متحف الحضارات وتدميره، وكان النهّابون يحملون غنائمهم من التماثيل والقطع الاثرية في سيارات تقف قرب الدبابات والمصفحات الاميركية، مما حرّض النهابين والغوغاء وشجعهم على القيام بأعمال التخريب المشينة فضلا عن السرقة. يتساءل فرناندو بياز عن هذا اللغز الغريب: “لماذا يظهر قتلة الذاكرة في البلد الذي ولدت فيه الكتابة والكتب؟”.
هشاشة الكتب
تكمن محنة الكتاب في سهولة تدميره وهشاشة مادته. فقد صنع الكتاب من الواح الطين واوراق البردي والجلود المدبوغة وحتى الخشب وصولا إلى الورق. لا يملك الكتاب التحكم بوجوده بل هو طوع أهواء مالكه أو سارقه. يحتاج الكتاب دوما إلى وجود راعٍ أو حامٍ يحرسه ويشكّل في علاقته معه وشيجة تتجه إلى مستقبل الإثنين معا. وعلى الرغم من كون الكتاب ثرياً بكنوزه وعوالمه وامتلاكه نصوص البطولة والحكمة والشعر ومتون القوانين والفلسفة والملاحم والنصوص المقدسة، إلا أنه يبقى الضحية العاجزة الضعيفة وأول المستهدفين في الحروب والنزاعات والغزوات وكوارث الطبيعة، وهذه خاصية يتشارك فيها مع الكائنات الاخرى. فمصير الكتب ينبئ بمصائر البشر في اللحظة التاريخية المتوترة، لحظة الحرب ونشوب الحرائق، ولا يتأتى هذا من تشابهها مع البشر بل من فرادتها ورمزيتها واحتوائها معارف الشعوب وذاكراتها. وهي بتجريدها من تاريخيتها وقيمتها لحظة مواجهة الكارثة، تتساوى مع الحجارة والخشب والغصن اليابس وجديلة الشعر المجزوزة من جهة، وتتفوق على الاشياء الاخرى من جهة رمزيتها ومثولها الايقوني في وعي البشر.
سألتني طفلة تحب قراءة القصص ذات يوم: هل تموت الكتب؟ احترت في ما اجيبها، لكني سألتها في اللحظة ذاتها: وماذا تظنين انت؟ قالت: انها لا تموت لأني لا أريدها أن تموت. حسناً، قلت لها، إنها فعلا لا تموت طالما منحناها محبتنا فهي موجودة في ذاكرتنا حتى لو اختفت من بين أيدينا.
يقول بياز: “دمرت الكثير من الكتب نتيجة عوامل متباينة كالكوارث الطبيعية: الحرائق والاعاصير والفيضانات والزلازل والتسونامي والعواصف والرياح الموسمية والحوادث مثل حريق السفن وغرقها كما اتلفت الكتب حشرة العث ودودة الكتب والجرذان والحشرات والتغيرات الثقافية مثل موت اللغات وتحولات الطرز الادبية او بسبب المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة الورق كالأسيد الذي اتلف ملايين الكتب، ونضع في اعتبارنا ايضا اعداد الكتب التي لم تطبع وضاعت مخطوطاتها والكتب التي نشرت بطبعات محدودة وفقدت نسخها، والكتب التي تنسى في المترو والقطارات والمتنزهات، ومن الصعب حصر هذه الافكار المقلقة التي تتعلق بدمار الكتب، ولكن علينا ان نعرف حقيقة ماثلة: في كل لحظة تمر ونحن نقرأ هذا الموضوع يختفي كتاب واحد الى الابد من عالمنا”.
تدمير المختلف ومحو الذاكرة
كارهو الكتب يؤمنون بقدرتهم على تدميرها وإلغاء حضورها وتداولها بين البشر. وسواء كان كاره الكتب غازياً أم مغزواً،  فلا بد له من أن يحرق كتب الآخر أو يهيج جموع الغوغاء لتؤدي طقوس الجريمة، وقد يحرق المغزو كتب غزاته إن وجد الوسيلة لذلك، ولا يجد القاهر أيسر من تدمير المكتبات، وهي التي تضم ثقافة الأمم وذاكرتها، ولا يتذوق نشوة النصر إلا وهو يرى النيران تأتي على تراث ذلك البلد الذي قهره وتضعه على نقطة الصفر المطلق بلا تاريخ ولا ذاكرة. كتب روبرت فيسك مراسل “ذا اندبيندنت” البريطانية وهو يرى ما حل بالمكتبات والمتاحف ودار الوثائق العراقية وشهد النهابين ومشعلي الحرائق يدمرون الوثائق الثمينة من العهد العثماني ووثائق الفترة الملكية: “إن هذه السنة هي السنة صفر بالنسبة الى العراق. إذ مع تدمير المتحف العراقي وحرق الوثائق الوطنية ومكتبة الأوقاف تمّ محو هوية العراق الثقافية، ومحو أي هوية ثقافية يعني في المحصلة تدمير الأحساس بثقافة مشتركة بين العراقيين لتبقى بدلاً منها صفحة فارغة يسهل إشغالها بتاريخ جديد أو ثقافة مهيمنة أخرى”.
يقدم فرناندو بياز في فصل “صعود الفاشية”، ارقاما مذهلة عن مجموع المكتبات واعداد الكتب المليونية والمتاحف التي دمِّرت بأيدي النازيين الالمان في البلدان التي اكتسحتها قواتهم. ففي باريس وحدها دمرت القوات الالمانية في الايام الثلاثة الاولى لسقوطها 723 مكتبة واحرقت نحو 1,108,797 كتاباً. ما حدث في ألمانيا ذاتها، التي دمرت مدنها غارات الحلفاء، كان مروعا، إذ أحرقت معظم المكتبات الالمانية العريقة ونفائسها وفقدت مكتبة برلين وحدها اكثر من مليوني كتاب. الفاشيون في ايطاليا واسبانيا اقترفوا ما لا يقل فظاعة وجنونا عما فعله النازيون في حق الكتب، ولم يختلف عنهم الاتحاد السوفياتي في تدمير كتب معارضيه ومكتبات البلدان التي احتلها. يختم الكاتب هذا الفصل الدموي من حياة كوكبنا بإلقاء اميركا القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي. فإضافة الى هلاك مئات الالاف من البشر، كانت المكتبات ضحية عرضية لهذا الجنون. لكن مكتبات طوكيو الشهيرة استهدفت بغارت مقصودة واحرقت تماما.
لعل حارق الكتب لا يدرك في عماء كراهيته وجهله أو في قصديته ومعرفته، أن ارواح الكتّاب والشعراء ومؤلفي الأسفار العظمى وأفكارهم، تنتقل من عصر إلى عصر وتخلد في الزمن على رغم تحول الكتب رماداً وعدماً. لم يخلد جلجامش بحصوله على عشبة الخلود، إنما خلّده شين إيقي أونيني، كاتب الملحمة وناسخها الذي نقش أخبار رحلته وسؤاله الوجودي عن الحياة والموت على ألواح الطين الاثني عشر، وجففها تحت الشمس الرافدينية الحارقة، فخلّد الملحمة الأولى في تاريخ البشرية ليتداولها الناس ويستعيرها القراء من مكتبة آشور بانيبال كما تشير ألواح سجلات الاعارة فيها. وعندما شاعت شهرة الملحمة، نُقلت نسخ منها الى مكتبات الحثيين شمالا وتعرفت اليها الشعوب المجاورة لبلاد ما بين النهرين فخلدت “جلجامش” في برزخ الابدية صحبة اوديسيوس وبينيلوبي واورفيوس ولاوتسو وراما واوزيريس.
دوافع تدمير الكتب
يرى بياز أن ثمة أسبابا ودوافع مختلفة ومتعددة لتدمير الكتب، من بينها شهوة تدمير الثقافة الغريبة عنا ووثائق الأديان الأخرى التي لا نؤمن بها، أي تدمير كل ما لا نعرفه وكل ما أنتجه الغريب الذي نخشاه، ويفرد بياز فصلا عن موضوعة تدمير الكتب في الأعمال الروائية بدءاً من “دون كيخوتة” حتى “451 فهرنهايت” لراي برادبري. ويمتعنا ويحزننا بتنقيباته الدقيقة في المتون التاريخية وتاريخ الكتابة والكتب والمكتبات، أي تاريخ الفكر الانساني بكامله منذ اول كلمة صورية ورمزية خطّت على الطين حتى يومنا هذا، ويكشف وثائق مهمة عن ملاحقة الفكر في متاهة التاريخ الوعرة ويثير شجون عشاق الكتب ويقلّب مواجع الذاكرة ويحيى ذكرى الحرية المهدورة عبر العصور.
محارق الكتب في غرناطة اسبغت الظلمات على عصر التنوير. فبعد سقوط غرناطة جمع الكاردينال أكزيمينيس عام 1492 ثمانين ألف كتاب من كتب العلوم والفكر والرياضيات والفلسفة والأدب من المسلمين وأمر بحرقها، وطورد من أخفى كتبا أو اتهم بامتلاكها وسُجن وعذِّب وأُحرق بتهم أقلها الهرطقة والخروج على تعاليم الرب التي تقضي بتطهير العالم من السحرة والساحرات والمفكرين والمفكرات. خلال ذلك كان سافونارولا الراهب المتشدد في ايطاليا، يقيم محرقة عظيمة وسط فلورنسا ويحرق الكتب والتماثيل واللوحات وادوات الزينة والمجوهرات التي حرّمها على النساء، ثم انتهى به الأمر أن أعدم وأحرقت جثته. وفي 1530 أحرق خوان دو زوماراغا، مؤسس اول مكتبة في المكسيك، جميع مخطوطات شعب الازتيك. ولم يكن مستبدو الانظمة الاسلامية والعربية أقل تفننا في إبادة الكتب، فلهم طرائقهم الحاسمة في تدمير المخطوطات والوثائق والكتب التي تنتمي الى فكر مختلف او تعود الى جماعات دينية او عرقية يرون فيها خطرا على المنحى الرسمي لثقافة نظامهم، وقد برع أسلاف حكّامنا المستبدين في إتلاف الكتب بأساليب راوحت بين حرق بالنار وإغراق وغسل بالماء ودفن بالتراب والطين وتدمير بالتخريق والتمزيق.
يقرر فرناندو بياز أن ثمة خطأ فادحا نرتكبه جميعا عندما نحصر تدمير الكتب بالجماعات الجاهلة المنفلتة في الحروب والثورات والاحداث التراجيدية، فبعد اثنتي عشرة سنة من البحث والتقصي والدراسة خلُص إلى أن أكثر الامم والأفراد ثقافة وتعلما هي الأشد شراسة وعنفا مع الكتب، حتى لتبدو الجماعات الجاهلة غاية في البراءة مقارنة بها.
يقول في مقطع عن ثقافة التدمير: “ثمة وفرة من الأمثلة عن فلاسفة وعلماء لغة ومثقفين بارزين برروا تدمير المكتبات لأغراض تتعلق بمواقف فكرية ودينية وسياسية. ففي مصر جمع الفرعون الشاعر اخناتون المؤمن بالتوحيد كل الكتب الدينية التي سبقته ليفرض ما كتبه عن عبادة الاله اتون. وفي القرن الخامس قبل الميلاد قاضى الاثينيون الديموقراطيون المتصوف بروتوغوراس بتهمة العقوق وأحرقوا كتابه “عن الآلهة” في محرقة عامة، وبحسب رواية ديوجينوس ليريتوس، كاتب سيرة افلاطون الذي أوصى بإقصاء الشعراء من جمهوريته الفاضلة، أن افلاطون حاول إحراق كتب ديموقريطوس ثم أحرق قصائده هو عندما التقى سقراط، ولم يتردد شخص متسامح مثل ديفد هيوم ان يطالب بمنع جميع كتب الميتافيزيقا. وفي عام 1910 نشر المستقبليون بيانا دعوا فيه إلى تدمير جميع المكتبات، وفي عام 1967 احرق الشعراء الكولومبيون من جماعة ناديستا، رواية “ماريا” لجورج ايزاك وهم على اقتناع تام بضرورة تدمير الماضي الأدبي للامة. جوزف غوبلز، كاره الكتب الخطير، نظم في 1933 المحرقة النازية الكبرى للكتب. وفي عام 1939 منع مسؤولو مكتبة سانت لويس العامة في الولايات المتحدة كتاب “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك وأحرقوا نسخه علانية (…) وحتى لحظتنا هذه لا يزال التدمير المتعمد للكتب يطغى على جميع الاحداث الخسيسة في عالمنا. وسواء كان الكتاب المدمر ألواحا سومرية او كتبا عبرية احرقها مشرف مكتبة فرنسي في 2002، فإن المشكلة في الموقف العلني لهؤلاء الذين يدمرون الكتب ونعثر على مثالهم في جميع الثقافات. حيث يقسم معظم البشر عالمنا “نحن” و”هم”، ومن الطبيعي ان تكون “نحن” الأفضل والأجدر بالحياة. بتطبيق هذا المعيار في الغاء الآخر، تمارس الرقابة الانكار الدائم  لحقوق الآخرين وثقافاتهم”.
يتحدث بياز عن جذور ميثولوجية لفكرة التدمير ذاتها، فخلال بحثه عن نظرية ما لتفسير نزعة تدمير الكتب وحرقها لدى البشر يكتشف عرضا ان هناك عددا لا يحصى من الأساطير تتعامل مع الكوارث الكونية التي تعلل وتشرح أصل العالم ونذر نهايته، وفي أساطير الخلق إحالة على موضوع التدمير في نطاق يتمحور حول فكرة العود الأبدي، ونجد ان التدمير واعادة الخلق هما الامران الوحيدان اللذان يتبادلان الأدوار والمواقع في الكون كما يقدمهما المشهد العبري والفارسي والاغريقي– الروماني وأساطير اميركا الوسطى.
أميركا ونار الرقيب كومستوك
عندما مات الاميركي انتوني كومستوك عام 1915، انزاح كابوس الرعب عن الكتّاب وأصحاب المكتبات وعشّاق الكتب في اميركا. عُرف كومستوك بكونه الرقيب المروع الذي أقام محارق لأطنان من الكتب على امتداد الولايات المتحدة حين حكم على الكتب والمطبوعات بالحرق من وجهة نظر محض اخلاقية دينية. خاض كومستوك الحرب الاهلية كجندي في الجانب الاتحادي، وكان لتشدده وعدم اعترافه بأي فكر مختلف عما يؤمن به، يملك يقينا راسخا مفاده أن الشيطان يسيطر على عقول الأدباء والكتّاب وأن رسالته الدينية في الارض تنحصر في القضاء على هذا الرجس، ولم يثنه شيء عن شن حربه الصليبية الأخلاقية على الكتب والكتّاب حتى نهاية عمره.
لطالما احتقر كومستوك كتابات جورج برنارد شو، الكاتب الاشتراكي البريطاني، وكرهه أكثر عندما صاغ شو مفردة “الكومستوكية”، التي شاعت في العالم الغربي كتعبير عن فظاعة الرقابة المفرطة التي سعى كومستوك الى فرضها على المطبوعات، بعمله على استصدار قانون أقرّه الكونغرس عام 1872 يفرض ارسال نسخة الى البريد من كل كتاب يصدر لمراقبته من وجهة نظر أخلاقية، وتقرر ادارة البريد بحسب تعليمات كومستوك حظر الكتاب او السماح بتداوله، وكان معروفا عن كومستوك تفاخره بعدد الأدباء الذين دفعهم للانتحار حتى قيل إنهم تجاوزوا الاثني عشر كاتبا منتحرا، وظل قانون كومستوك ساريا لعقود طويلة وافادت منه الحملة المكارثية إلى أقصى الحدود، وبموجبه تم منع كتاب “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك، وحظرت دائرة البريد كتاب “عشيق الليدي تشاترلي” في 1959!
قمع كومستوك الادباء وصادر آلاف الكتب والمجلات مستندا إلى نظرة أحادية متزمتة، وتصاعدت نيران محارق الكتب في عهده حتى وصل وزن المطبوعات المحروقة في الساحات العامة الى 120 طنا، وما بين 1940 و1941 أحرقت الولايات المتحدة اعتمادا على قانون كومستوك 600 طن من الكتب والمطبوعات الاخرى. للمفارقة فإن الولايات المتحدة كانت أشد الدول إدانة وشجبا لمحرقة الكتب الشهيرة التي نفّذها النازيون عام 1933.
كيف لنا أن نستغرب المحارق العظمى في بغداد إثر دخول القوات الاميركية؟ حرق الكتب شغف بشري منحرف طاول قبلنا كتّابا اميركيين في الحملة المكارثية، أمثال هاوارد فاست وجوزف ديفيز وليليان هيلمان وداشيل هاميت وجون شتاينبك وتيودور درايزر، كما تعرضت كتب جورج أمادو وحتى ماريو فارغاس يوسا للحظر، وطاولت محارق التشدد الاميركية عام 2001 كتاب هاري بوتر إذ احرقت مئات النسخ منه في مدينة ألاموغوردو في ولاية نيومكسيكو في ساحة عامة على يد جمعية كنسية، بذريعة أن الكتاب يدفع الفتيان الى تعلم السحر ويبعدهم عن المثل العليا، أحرقوه من غير أن يطلعوا على مضمونه، بل زادوا الأمر فظاعة عندما أحرقوا معه بعض روايات ستيفن كنغ!
مطاردة حارقي الكتب
نعرف الكثير عن حارقي الكتب المعاصرين، ونعرف أكثر عن محارق الكتب التي حفلت بها كتب التراث العربي الاسلامي، سواء تلك التي اقترفتها السلطة أو العلماء والكتّاب المسلمون أنفسهم. استدعت روائح حريق الكتب في بغداد كل تلك النيران المجنونة التي لاحقت المكتبات في عصور الانسانية المتألقة التي تلتها عصور استبداد وظلمات.
“العالم القديم”، هو وجهة فرناندو بياز الاولى في سياحته التراجيدية بين المحارق، يطوف بنا في الشرق أدناه وأقصاه، بادئا بسومر وأكد، مهد اول كتابة في التاريخ واول كتب مصنوعة من الطين ومرسومة برموز صورية عن الحياة السومرية وجرى تدميرها وفقدانها بسبب هشاشة المادة وانحلالها في الفيضانات وتهشيم الانسان لها. يقول بياز: “لا أحد يعرف كم هو عدد الحشود العسكرية التي دمّرت المنطقة في الحروب المتلاحقة، فقد كشف المنقبون عما تبقّى من هذه الكتب القديمة في حفريات الطبقة الرابعة لمعبد الالهة الجبارة إينانا في مدينة اوروك، وجد بعضها سليما والبعض الآخر متحولا شظايا او مسحوقا او محروقا، ويعود تاريخ هذه الكتب إلى 4400 قبل الميلاد وينطوي هذا الكشف على مفارقة الشرق الكبرى: الاكتشاف يحمل تاريخ الكتب الاولى في العالم مع تاريخ أول تدمير للكتب! لعل هذا حدث بفعل عوامل الطبيعة او التدمير المتعمد، فقد كانت الحروب بين دويلات المدن السومرية تترافق عادة بالحرائق، وبفعل ضراوة القتال سقطت الالوح الطينية عن رفوف الخشب التي طاولتها الحرائق (…) وقد تسبب الماء بتلف آلاف الكتب الطينية حين كانت مياه دجلة والفرات تطغى ويجتاح الطوفان مدن السهول ومكتباتها وليس مصادفة حين يُنظر إلى الماء في بلاد ما بين النهرين كإله متقلب لا يؤتمن، أن يعدّ عدوا لآلهة الذاكرة حيث ظهرت أولى اساطير الطوفان في العالم”.
يطوف بياز ثانية وراء الفرات متريثا مع كشوفات الاثاري الايطالي ساباتينو موسكاتي، الذي اكتشف مكتبة مدينة إيبلا جنوب حلب، التي كانت تتمتع بتقنية تصنيف مكتبي متطورة وفيها قواميس بالسومرية وما يقابلها بلغة ايبلا، وقد احترقت المكتبة مع القصر الملكي حين هاجمها الملك الاكدي نرام سن في نحو 2230 قبل الميلاد وحمل الغزاة النهّابون الذهب والكنوز الثمينة وتركوا الواح الكتب المحطمة.
آشور بانيبال عاهل بلاد آشور (680) قبل الميلاد، هو اول ملك تعلم الكتابة على الالواح ليحفظ إسمه من النسيان، ورعى عددا من المشاريع الثقافية والدينية وكانت مكتبة قصره في نينوى تنمو بسرعة حتى بلغ تعداد كتبه نحو 20.000 كتاب ووجدت بعض الكتب بنسخ متعددة، وعدّه الآثاريون اول ملك عظيم في العالم القديم جامع كتب وعاشق ثقافة، استدعى النسّاخ وجعلهم يعملون ليل نهار لنسخ النصوص من الثقافات المختلفة، ووجدت نسخ عدة من شريعة حمورابي وملحمة الخليقة “إينوما ايليش” وملحمة “جلجامش”، ولكن تحالف بابل على عهد الملك الكلدي نبوبلاصر، والد نبوخذ نصر، مع مملكة ميديا وغزوها مملكة اشور وتدميرها نينوى وحرقها، أدى إلى تدمير أعظم مكتبات التاريخ القديم التي لم يصلنا من ألواحها الا الجزء اليسير.
يخبرنا بياز عن مكتبة برسيبوليس الفارسية ودمارها، وعن مكتبات الفراعنة والضياع الغامض لكتب ارسطو، وحرق مكتبات الصين العظمى بيد اباطرتها لمحو اخبار سابقيهم، ومكتبات روما والصراعات في فجر المسيحية، ويتوقف عند مكتبة الاسكندرية التي يفرد لها فصلا مستقلا، ويمضي بنا إلى بيزنطية وحصار القسطنطينية وحريق مخطوطاتها وايقوناتها على أيدي العثمانيين، ويكتب عن الرهبان والبرابرة ويخبرنا عن احوال المكتبات ما بين القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد عندما لم يكن النسخ والكتابة شائعين الا بين النبلاء وبعض الكهنة، فكانت المكتبات مغلقة شأنها شأن مقابر مهجورة يحرم دخولها على العامة إلا من كان له حظ وحظوة لدى الكهنة. ويسهب في الفصل المتعلق بالعالم الاسلامي في الحديث عن الخليفة العباسي المأمون، الذي كان واحدا من أعظم رعاة الفن والكتب وأنشأ “دار الحكمة”، وهي مكتبة عظيمة وجامعة تعدّ اول جامعة في العالم ومقراً للترجمة بين اللغات، جمع فيها العلماء والفلكيين والمترجمين. وفي هذا الفصل يتحدث عن الغزو المغولي للعالم، ثم يتوقف عند حركة الحشاشين وزعيمهم حسن ابن الصباح الذي اسس مكتبة عظيمة في قلعة آلموت قرب بحر قزوين ضمت نحو 200,000 كتاب احرقها المغول حين سقط حصن آلموت، ونهبت بعض المخطوطات الثمينة التي تعرضت في ما بعد للضياع. ويلاحق هولاكو وجحافله المغولية التي اجتاحت مواطن الحضارات الاسيوية العريقة واستهدفت المكتبات في معظم المدن التي مرت بها، وكانت بغداد أبرز المدن المستباحة بما حوته من مدارس للقانون والرياضيات والآداب، ومكتباتها التي كانت تضم انفس المخطوطات لمختلف ثقافات العالم.
ألق قروسطي في غير أوانه
فصل مثير عنوانه “ألق قروسطي في غير أوانه”، يروي لنا حادثة وقعت في  الأندلس على عهد خلافة الحَكَم الثاني، الذي كان  حذرا وتقيا وعنيدا، واثقا من نفسه، وقد عززت هذه الفضائل مملكته وأخذ عهدا على نفسه بأن يؤسس أعظم مكتبة في العصر الاوروبي الوسيط تكريسا لمدينة قرطبة كحاضرة للعلم والمعرفة، وأعلن أنه يسعى للحصول على أندر المؤلفات فأرسل الرسل الى جهات الدنيا ليحصلوا على نسخ من افضل كتب العالم واختار مستشاروه نحو 400,000 كتاب من مختلف العلوم الانسانية وبلغت صفحات فهرس المكتبة نحوا من 2000 صفحة، وحين توفي آلت الخلافة الى ابنه وكان ضعيفا منصرفا الى مباهج الدنيا، فسيطر عليه صديق والده المسمّى المنصور بالله وكان مهووساً بالسلطة وكارهاً للعلم والعلماء، وللعجب أنه قرّب فرق المتصوفة وحماها في بداية ملكه ثم تخلى عنها، وفي لحظة هياج وجنون أمر بحرق جميع الكتب التي لا يقدسها المسلمون في المكتبة الملكية التي أسسها الحكم الثاني، واستمر عمل الحرّاقين في عزل الكتب وحرقها أياما ولم يسلم من كتب الحكم الثاني كتاب واحد.
بعد الاندلس والوهج الذي خبا بغتة، يتجه فرناندو بياز الى أميركا ليكشف كيف دمّر الغزاة الأسبان الثقافات ما قبل الهسبانية (ثقافة الازتيك وثقافة المايا)، ثم يفرد فصلا مهما عن عصر النهضة وفصلا عن قمع الكتب في انكلترا وآخر عن الثورة الفرنسية واسبانيا واميركا اللاتينية، وفي الفصل السابع عشر من القسم الثاني يتحدث عن الحرائق والحروب والأخطاء ويختم القسم الثاني بفصل تدمير الكتب في الأعمال الروائية.
يطلعنا القسم الثالث على مجازر الكتب منذ مطلع القرن العشرين وحرق الكتب في اميركا، وثمة فصل عن صعود الفاشية وآخر عن الرقابة والرقابة الذاتية في العصر الحديث وعن اسبانيا الحرب الأهلية وتشيلي والأرجنتين، وفصل بعنوان “جنس خاص من الحاقدين” وينهي الكتاب بفصل ذي مشاهد مأسوية عن حرائق مكتبات العراق ومتحفه عام 2003.
لغز بغداد
يضع فرناندو بياز عنوانا مثيرا لمقدمة كتابه هو “لغز بغداد”، وهذه مقاطع من المقدمة عن كارثة تدمير الذاكرة العراقية:
“أحرقت المكتبات ونهب المتحف العراقي في 12 نيسان 2003 واختفت ثلاثون من اثمن القطع الاثارية وأندرها في العالم مع سرقة 14 الف قطعة اثرية خلال تدمير القاعات الكبرى في المتحف، وفي يوم 14 نيسان دمرت ملايين الكتب عند حرق المكتبة الوطنية واحرقت معها عشرة ملايين وثيقة من العهد الجمهوري والفترة العثمانية، كما استمر حرق مكتبات جامعة بغداد ومكتبة الاوقاف وجميع مكتبات الجامعات في مدن العراق. في البصرة احرق متحف التاريخ الطبيعي اسوة بالمكتبة المركزية العامة ومكتبة الجامعة والمكتبة الاسلامية. وفي الموصل سقط مسؤول مكتبة المتحف ضحية خبراء المخطوطات الذين نهبوا المخطوطات المصنفة وحاول منعهم اثناء حرق المتحف. وفي تكريت هرب حارس المتحف حين قصف المبنى بالقنابل فاقتحمه النهّابون، أضف الى ذلك كارثة مريعة لامتوقعة، اذ تعرضت الاف المواقع الاثارية للخطر والنهب بعدما غدت مكشوفة بلا حراسة، ووصلت عصابات عابرة للحدود متخصصة بسرقة الاثار على نحو غير مسبوق، وبدأت بحفر المواقع المحظورة التي غادرها حراسها، وعلى الرغم من جهود الفرق الايطالية هناك فليس ثمة موقع اثاري بوضع آمن في العراق (…) وحالما غادرت طيارات الهليكوبتر والقوات العسكرية المواقع، احتل رجال عصابات مسلحون ببنادق -47s AK مواقع اثرية مهمة مثل مدينة الحضر وايسن وكولال ونينوى ولارسا وتل الذهب وتل جوخا ومدينة اور وتل نمل وأم العقارب، وعادت جموع اللصوص تحفر بتهوّر وجنون ومن دون تقدير لقيمة اللقى الاثارية وتخريب المواقع، ثم جرى تهريب بعض القطع الاثرية الى الكويت ودمشق، ومن هناك جرى شحنها ثانية الى روما وبرلين ونيويورك ولندن، حيث يدفع هواة الاثار أي مبلغ يعرضه المهرّبون مهما كان مرتفعا. ترى لماذا ظهر هؤلاء القتلة في المكان الذي ولدت فيه الكتابة والكتب؟”.
النار سيدة الحياة والموت
يبحث فرناندو بياز موضوعة النار والحرائق ويتساءل: “لماذا حدث ان كانت النار ابرز وسائل تدمير الكتب؟ وهل ان اؤلئك الذين يحرقون الكتب هم من المهووسين بإشعال الحرائق؟ هناك تفاسير عديدة لهذه الظاهرة، لكن الاطباء النفسيين يميلون للقبول بالفكرة، في حالة كان مهووسو الحرائق من كارهي الكتب، وكارهو الكتب في الضرورة ليسوا دائما من مهووسي الحرائق، بعض الأطروحات تربط المشكلة بنوع آخر من المظاهر النفسية، النار خلاص، ولهذا قدمت جميع الاديان تقريبا النيران للآلهة المبجلة، هذه القوة التي تديم الحياة وتحفظها هي ذاتها التي تفنيها وتدمرها، وعندما يعمد الانسان للتدمير بقوة النار فإنه يتقمص دور الإله سيد نار الحياة والموت”.
ويستطرد في تقصي استخدام النار كطقس تدميري للكتب قائلاً “ان سبب استخدام النار في غاية الوضوح لأنها تعيد روح الكتاب إلى هباء وهيولى أولية، عندما تحرق إنسانا فإنه يعود إلى عناصره الاربعة الرئيسية: الكاربون، الهيدروجين، الاوكسيجين والنيتروجين، وعندما تحرق الورق فإن العقلانية اللازمانية في الكتاب تكفّ عن كونها عقلانية، وتغدو محض رماد”، ويورد امثلة عن تدمير الانسان لما يحب، ويتوقف عند الروائي والمسرحي الياس كانيتي وروايته “الاعدام حرقا”، اذ حكم على بطل الرواية بالحرق حيا مع مكتبته الكاملة، وختم الرواية بعبارة: “وأخيرا عندما طالته ألسنة اللهب انفجر بضحكة كما لو أنه لم يضحك من قبل في حياته”، ويعود الى اوفيد في كتابه “مسخ الكائنات”، معلناً رغبته في ان تحفظ اعماله من النار والسيف واقدار الالهة والزمن غير انه اعترف بحرق قصائده لأن الشعر لم يمنحه سوى خيبة الآمل.
انسلم كيفر ومكتباته المدمرة
الفنان انسلم كيفر، الذي ولد عام 1945 أوان سقوط الرايخ الثالث، كرس أعماله المبكرة لإجراء حوار بين التاريخ والفن وطرح موضوعات عن الشعور الالماني بالذنب تجاه العالم، ثم مال الى استقصاء الاساطير ودراسة الاديان واستخلص موضوعاته من التراث الجرماني واوبريت فاغنر، ثم جرّب الثيمات التي كانت محظورة في المانيا ما بعد الحرب كمناقشة الأطروحات النازية التي أثارت جدلا كبيرا في الاوساط الثقافية الالمانية، ولكنه سرعان ما تخلى عن الموضوعة الالمانية ليتبنى الموضوعة الكونية الشديدة الغموض والتعقيد، كمزاوجته بين ثيمات الاطلال الرومانية والاساطير الفرعونية وانمساخها بالقنابل النووية، واهتم برسم اعمال مستلهمة من قصائد باول تسيلان التي كتبها في معسكر الاعتقال النازي، وما لبث ان انصرف إلى رثاء عالمنا بتجسيد أعمال ذات أحجام عملاقة عن حرائق المكتبات وعرضها في برلين تحت عنوان “الخراب مستقبل العالم”، مستخدما رقائق معدن الرصاص لصنع كتب ضخمة على غرار المخطوطات القديمة. من ابرز انجازاته في موضوعة حرق الكتب المتسلسلة عمله النصبي التعبيري الضخم، “الكاهنة العظمى لبلاد ما بين النهرين”، ويتكون من خزانتي كتب ضخمتين بمقاييس عملاقة رصف على رفوفهما نحو مئتي كتاب محترق مصنوع من رقائق الرصاص، بعض الكتب فارغة تستدعي فكرة كابوسية عن كتب معطلة اوقفت فاعليتها كمصادر للمعرفة، وكتب يصعب تصفحها او قراءتها، وقد أحاطها الفنان بأسلاك رقيقة تحول دون فتحها او استخدامها، ودسّ بين الصفحات أغصان نباتات حقيقية جافة وبعض البذور وطبع على بعضها صورا فوتوغرافية مبهمة لغيوم او حبات بزاليا، ولعله اراد بوضع بذور الاعشاب بين الكتب العاطلة، ان يشير إلى استمرار الخراب الذي يحمل بذوره معه، أو على النقيض من ذلك لعله شاء تذكيرنا بوجود أمل ما قد ينبت وسط خراب العالم. وتكررت ثيمة النار كقوة مدمرة في اعمال كيفر عن خراب المكتبات وسلسلة اعماله عن قصائد الشاعر تسيلان وموضوعته الاثيرة عن فناء الاشياء، وبذور الخراب الكامنة في جميع الموجودات.
أنا من حارقي الكتب!
رددتُ، وانا أهمّ بحرق الكتب المحظورة في حديقة بيتي البغدادي، ما قاله سليمان الدارني حين سجر التنور واحرق كتبه “والله ما أحرقتك حتى كدت أن أحترق بك”. مرتين اقترفت حرق الكتب تحسبا من بطش السلطة في هياج عنفها. كانت لجان الجرد والتفتيش الحزبية تقتحم بيوتنا لتحصي انفاسنا وتحركاتنا، نحن الذين كانوا يصنفوننا تحت مسمّى مثقفي اليسار. حرس حزبيون يدهموننا في كل وقت ويعتقلون الرجال. وجود المكتبات في بيوتنا كان يثير غضب بعضهم فكانوا يعاملونها بعنف مفرط، يمزقون بعض الكتب أو يلقون سواها على الارض أو يطأونها بأحذيتهم. في المرة الاولى، أحرقتُ مئات الكتب في موقد الحمام وراء البيت على مدى ثلاثة أيام، وفي المرة الثانية في 1979، كنت ارتجف هلعا بعدما طرق بابنا زوار الليل، فجمعت الكتب المحظورة في حفرة وسط مرج الحديقة الخلفي وسكبت عليها النفط، وأغمضت عيني وارتجفت يدي وانا ألقي عود ثقاب فوقها ثم انفجرت بالبكاء. وفي عام 2006 اقتحم المارينز مع القوات العراقية منزلي بعد تحطيم الابواب المغلقة بحثا عن مسلحين في الحي حيث يقع منزلي، وكنت أحضر مؤتمرا خارج العراق، ودمروا مكتبتي ونثروا اوراقي على امتداد الممرات وكسروا حاسوبي والبيانو وعبثوا بمخطوطاتي وسرقوا تحفا ومقتنيات، ولسبب أجهله، سكبوا الماء على الارائك والكتب التي بعثروها فوق الارض. كنت أضع على منضدة صغيرة كسرات من الطين المشوي ترقى الى العصر البابلي مرقومة بكتابة مسمارية، التقطتها من سفح برج نمرود قرب مقام النبي ابرهيم جنوب بابل. الملك النمرود باني البرج الذي اراده مرتقى لبلوغ السماء، شاء أن يعاقب النبي الموِحّد الذي تمرد على آلهة بابل، حرقا بالنار فكانت بردا وسلاما على ابرهيم نابذ الأوثان، بعد حين ضربت البرج صاعقة وتحول الآجر والواح المعبد جلاميد صخر محروقة عقاباً للنمرود كما تخبرنا الأسطورة، اجتهدنا انا وصديقتي الرسامة في تسلق بقايا البرج والتقطنا هذه الكسرات الفريدة المهملة من بين أكداس الحجارة، وعندما دهم المارينز المنزل، اسقطوا تلك القطع من الالواح البابلية الثمينة فتحطمت نثارا على الارض، أو لعلهم سحقوها بأعقاب أحذيتهم وامتزج ترابها العتيق مع بقايا الكتب التي دمروها ¶

النهار