“الحبل السرّي” لمها حسن: عندما يموت الأمان
غادة علي كلش
تخط الروائية السورية مها حسن مسار الحياة الصعبة في روايتها «حبل سري» الصادرة حديثا عن «دار الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر». هي حياة صعبة تخص صوفي/الفرنسية في شبابها وشخصيتها وغرامها وموتها وحنيفة السورية في طفولتها وتماهيها مع الجنس الآخر وعنفها وانزعاج عائلتها. صوفي هي حنيفة في انتماءين للجغرافيا، وهي البنت والأم في عدة انتماءات الى الأنا، حيث الجسد والكلام والرغبات تتقاطع مع مصائر الاشخاص وتعاقب الاحداث، وحيث فجوة «الروح» تتسع للهروب صوب بواكير الموت قبل الوصول الى الموت ذاته. فمن قال ان الأمان لا «يموت»؟
لقد فقدت حنيفة الصغيرة في مدينتها حلب امانها واستقرارها النفسي والعائلي و«الجندري» ايضاً، مثلما فقدت حين أصبحت «صوفي» الجميلة في مدينة باريس، اتزان سلامة الوعي ورصانته تجاه الذات وتجاه الحياة نفسها.
صيغة الرويّ الفني والتسلسلي في الرواية، آثرتها الكاتبة مها حسن متقابلة ومتقاطعة معاً, فثمة خطان متوازيان في السرد يمتدان معاً، فيما يربط بينهما حبل سري… حيث العديد من اسرار النفس معلقة بحبال سرية، لا يستكشفها الذين يتسببون بتدليها في معاقل القلب، ومحاور العقل، واغوار المشاعر ولأن الراوي يمارس مع تقنيات الرواية واحداثها واستحضاراتها ومفرداتها، لعبة المرآة السحرية، فان مخزون الرويّ ينفجر قاذفاً كل ما فيه الى الملأ، مفجراً كل ما حوله كتعرية صادمة وفاضحة في الوقت عينه. فتصبح الأنا الكاتبة هي ذاتها الأنا المكتوبة… وتصبح الاحداث المصورة، هي ذاتها الاحداث «المعيوشة». هكذا ينبني العالم الروائي، وقد استطاعت حسن هندسة معاييره واركانه في عمران لغوي وايحائي وتفريغي وإسقاطي صارخ، جامعة الى ذلك كله العناصر الفنية والتوصيفية الشديدة الواقعية، من ارض حلب، ومن ارض باريس، بما فيهما من اختلاف شديد على صعيد الذائقة والتربية والحضارة والقيم والمبادئ والاعراف الاجتماعية والدينية.
تقول الكاتبة واصفة حال صوفي – ص 14 – «تكره ذلك الالتزام الأجوف، عليها ان تعود في لحظة ما، من دون مبرر واضح او منطقي. حتى حين لا يكون آلان في باريس. تشعر انها في لحظة ما يجب ان تكون هناك. في باريسها، وهي تعود الى هناكها، سرعان ما تضجر، وتشعر ان باريس لا تعني لها شيئاً، هو شيء من المراهقة العاطفية، ربما، تلك المراهقة الملازمة لكل انماطها السلوكية والعاطفية. ترغب ولا ترغب في الوقت ذاته. تفرح ثم تحزن للأمر ذاته. تحب وتنفر.
قالت لدومينيك، محللتها النفسية: في كل دورة زمنية، أشعر انني ابدأ من الصفر. تصبح ذاكرتي خالية تماماً. اتفرغ من عالمي، اتجوف، واشعر ان عليّ الامتلاء مجدداً، بالدوافع والرغبات والافكار، والبحث عن المحرك الاساسي، لماذا انا هنا، وماذا افعل؟ ثمة تجويف كبير في داخلي، هوة سحيقة مخيفة، تشدني الى العدم، الى الرغبة الملحة في الموت، والخوف من الموت في آن معاً».
شخصيات الرواية، تنزاح عن ظروفها وتحولات افكارها وطاقاتها النفسية الرغبوية، من خلال محاولة الانفلات من الجذور… لكن متشعبات الاصل والاساس والبنية التكوينية لهذه الشخصيات، تظل معلقة ولو من اطرافها في تربة هذه الجذور… ما من طيران لها خارج كينونة الذات… إذ ان الطيران والهيمان كعنصرين مشتهيين غالباً ما يحدثان في المخيلة الارتكاسية – إن صح التعبير – وهذا بالفعل ما حصل لحنيفة/ او صوفي، ولأختها شيرين التي كانت حجر زاوية في بناء طفولي متهدم، متفرع من «زلزلة» سلوكية قوامها رجرجة بيت العائلة المنقسم الى عائلتين وبيتين وضرّتين وأختين (طفلتين) تتبادلان الضرب واللعب الصبياني والأذى: «تكادان تتطابقان في سلوكهما الصبياني، العراكي، بل والعدواني احياناً، في استمالة حتى صبيان الحي الى العراك، ومع رأفة الصبيان، وتنازلهم تحت وطأة إحساس مبكر بالتفوق الذكوري إلا انهما حنيفة. وشيرين دوماً، لم تسلما من الرضات والعضات والكدمات في مختلف انحاء جسميهما، خصوصاً من أعتى صبية الحي، هاجار، الذي لم يشفع لهما يوماً، بل ربما أحسّ بتعادله معهما وربما خشي قوتهما. فأصر دوماً على كسر شوكتهما، كان يفلح احياناً، واحياناً ينهزم امام صلابتهما. وقد شاع لقب ادريس بـ«أخ البنات» لأنه يهدد ويستقوي بأختيه اللتين تثأران له دوماً، الى ان غدا من النادر ان يتعرض له أحد، والى ان عُدّت الفتاتان بدورهما عامل تهديد ضد الكثير من الصبية، بل الكبار، إذ برعت شيرين بشتائمها، وبذاءة لسانها. ورغم المحاولات القصوى التي بذلها كمال (والدهما) لتأديب ابنتيه، ورغم انه علّق كل واحدة منهما عدة مرات من قدمها في سقف المطبخ، وحبسهما في الحمام، ومارس ضدهما كل اشكال التعذيب الممكنة لزجرهما عن عدوانيتهما، فقد تفاقم العنف لديهما، بل يمكن القول ان ذلك العقاب كسر حالة الخوف، فصارتا أشد باساً، وقويت عظامهما باكراً».
بأكثر من إفراد للمكنونات، تسير هذه الرواية، بأكثر من نبش للمخزون الحدثي والحسي والفعلي والتواصلي والفكري واللغوي والواقعي والجغرافي في آن. وتأتي آلية النبش صارمة في وقعها، صادقة في ايقاعها، عارية في اسقاطها… إذ كل شيء يدور فيها بامعان وبشفافية جارحة احياناً: الحب، الجنس، الحرية، مقابل المُثل المطلوبة من هذه الشخصيات في انتمائها الى الشرق والى المجتمعات العربية، وذلك رغم التحام البطلة الرئيسة مع المجتمع الغربي، وتحديداً الفرنسي. انها مُثل المحافظة على الجسد وعلى الصيت، ومثل الالتزام بالرباط الزوجي الحلال المتعاقد عليه في الرسالات السماوية.
ثمة إسقاطات لمفهوم الحب او لمعيوشه والاحساس به، تتأتى عن رؤية صوفي او حنيفة للرجل كموضوع للاتصال والتواصل معاً، وعن رؤيتها «لأناها» الانثوية كموضوع للتجربة والبرهان والدلالة الاختمارية في طلب السعادة من عالم الحب.
اما اللغة التي تأخذ من قاموس العلاقة الجنسية كل مفرداتها، فقد كانت حاضرة في الرواية مع صوفي ومع ابنتها بولا من بعد وفاة الاولى… إذ ما من خطوط حمراء في الروي الجنسي على لسانيّ كلتيهما… رغم ذلك التماهي الذي أظهرته الكاتبة بين رحيل البطلة، وبين استمرارها في بقاء الابنة داخل اختبارات اللذة الفالتة من ضوابط المسلك الديني والتربوي للشرق، الى احضان الغرب… رغم انتمائها الشرقي من ناحية الجدة الى البيئة السورية عموماً، والحلبية خصوصاً. لكن زيارة الابنة باولا الى مسقط رأس والدتها حنيفة او صوفي. غيّر في حياتها أيّما تغيير… لم تكن تؤمن بالحب… فغيرت رادارات مشاعرها وسعت الى البحث عنه في سوريا كموئل للاستقرار العاطفي والعائلي معاً. الا ان الحبل السري الذي كان رابطاً بين صوفي وباولا في مرثية الرحيل والبقاء، كان ايضاً هو الرابط الاساسي الذي ارجع الابنة الى فرنسا… تاركةً وراءها حبل الانفصال عن الارض الاولى، ومتعلقة بكل قواها بحبل الاتصال مع الارض الثانية، حيث الخيار هو ذاته، المتوارث من «جينات» الأم… ضد عناصر الاتزان والاستقرار والمحافظة… ومع عناصر الحرية الجنسية الاجتماعية التي ليس لها حدود دنيا.
الرواية في 482 صفحة من القطع الكبير.
الطبعة الاولى: 2010.
لوحة الغلاف: سعاد العطار (العراق).
الكفاح العربي