صفحات ثقافية

النحل العاطل عن العسل!

null
خيري منصور
ما أكثر الشعراء وما أقل القصائد! هذا ما يشعر به المرء وهو يرصد الاصدارات وحفلات التوقيع او الايقاع بالاغرار، فالامر لا يتطلب اكثر من تقديم مخطوط او الحصول على نصيب من مؤسسات ثقافية ووزارات لا تفرق بين السياحة والشعر، وبين باقات الورد الصناعي والزهور الحية! لهذا فالتعويم يصلح لأن يهاجر كمصطلح من الاقتصاد الى الادب، وكذلك التضخّم وسائر مفردات هذا المعجم الاكثر رواجا في أيامنا، وما يضاعف من البلبلة والتّعويم واضطراب المعيار الجمالي، تخلي النقد عن دوره، على الاقل في حده الادنى القائم على الفرز واقامة الفواصل التقريبية بين الكتابة واشباهها من الهذيانات المدوّنة! واذا كانت الفضائيات المتورطة بالبث على مدار الساعة بحاجة الى علـــــــف لا حدود له، فان وفرة الصحف والمهرجانات في عالم عربي يعاني من شحة الثــــــــقافة وفائض الورق أدت هي الاخرى الى تسامح في المقــــاييس وشروط النشر، بحيث تحول التسامح بمرور الوقت الى تواطؤ، وانتهى المشهد الى ما هو عليه الان! ان كثرة الشعراء وقلة القصائد هي المعادل الادبي لعدة اورام في حياتنا وهي ما أشار اليه المتنبي حين عيّر من لا يفرقون بين الشحم والورم، فالعافية كما قال انسي الحاج قبل نصف قرن تسرطنت، اننا نعيش وقتا رماديا تفلطحت فيه المصطلحات وسالت الكلمات على بعضها بحيث اصبحت اللغة وسيلة لتعميق سوء التفاهم او مغنية صلعاء حسب تعبير يونسكو في احدى مسرحياته المعقولة جدا رغم انها مصنفة في خانة اللامعقول! والمجتمعات التي اصابها العمى من فرط المراوحة والدوران حول الذات بلا طائل تسلم الثقافة مما يعصف بها وربما كانت الثقافة والشعر بالتحديد هي الضحية السّهلة، لأنها الحائط الأوطأ، والهامش الذي تسطو عليه متون الأعراف والتقاليد وفقه المصادرة والمقايضات البدائية.
”’ وحين كان الشعر العربي الحديث في بواكيره قبل اكثر من ستة عقود، لم يكن اعزل من النقد والتقويم، سواء مارس هذا النقد اكاديميون او جاء من الشعراء انفسهم، لهذا لم يدم العارض والطارىء كثيرا، وسرعان ما طردت العملة الجيدة نقيضها وليس العكس، بخلاف ما يحدث الان، فثمة شعراء اصابهم القرف من مناخ مشبع برطوبة غير شعرية على الاطلاق تحتشد فيها اكاسيد خانقة ويندر فيها الاكسجين.
والشعر هو اسهل الفنون وأعسرها، لأن مادته الكلام ولأن معاييره الجمالية كنوع ادبي متحركة، ونسبية اضافة الى كونه مثقلا بإرث من النّظم، والحرفية التي حولته الى سلعة في كل العصور، فما ظفرت به القبيلة نافسها عليه الحزب واخيرا الدولة والزعيم، ومن كتبوا عن التكسب بالشعر ومنهم د. جلال الخياط وعبد الفتاح كيليطو قدموا لنا استقراءً وافيا لتاريخ القصيدة العربية التي لم ينج منها الا القليل من جرثومة التكسب والاتجار بالمديح والهجاء وحتى الرثاء! ”’ التجريبية مرحلة في تاريخ الفنون وشرط لتطورها، لكنها حين تتحول الى مناخ مقرر وينظر الى كل ما عـــداها على انه اتباعي وتقليدي فإن البيوت لن تكون الا مجرد عتبات لا تفضي الى ما يتخطاها، وكلمة التجريب تتحول احيانا الى ذريعة يلوذ بها اصحاب اشباه الجُمل، الذين يفلت منهم الخبر بعد كل مبتدأ.
وما يمارس من ابتزاز باسم التجريب يقصد به غالبا خلخلة الحد الادنى من المعيار الجمالي الذي تقطر من الخبرات البشرية عبر العصور، فما من كائن سواء كان شاعرا او روائيا هو آدم الخليقة وبكرها، فكلنا نولد مسبوقين بمن عبّدوا لها الطرق، وهذا ما قاله دانتوس عندما عاتب اسلافه لأنهم قـــالوا أقواله قبل ان يولد، وليس معنى ذلك اننا محكــومون بالنمو الدائري والمراوحة فالاضافة هي سرّ البقاء وسحره معا، لكنـــها ليست منقطـــعة عن الميراث الذي انجز اللغـة اولا، ثم انجز خبرات جمالية قد لا ندركها بصورها المباشرة لأنها تتحول الى شحنات وطاقة تعبير مبثوثة في الموروث! وقد كانت الشعرية العربية حتى وقت قريب تضاريس تنشطر الى خطوط طول وعرض، كالتصنيفات المدرسية للعمودي والحديث او التفعيلة وقصيدة النثر، فهذا التشطير اسهل للنقد المحافظ الذي لا ينزع الى المغامرة، لهذا اصيب هذا النقد بارتباك عندما رأى شعراء يكتبون العمودي والتفعيلة ومنهم من انتهى الى قصيدة النثر! ان الكتابة الان عن الشعر تشترط رؤى وأنماط تفكير تتخطى خانات النقد الداجن، فالشعر العربي كما يعترف اهم الشعراء العرب الاحياء ليس في ربيعه، وكثرة ما ينشر منه ليست دليلا كافيا على عافيته، وقد ساهم النقاد الذين فروا من النقد التطبـــيقي واجتذبهم التأنـــــق النظري في جعل اكثر الشعر المنشور مهجورا، وعلى الشاعر ان يحك جلده بظفره، ويصول ويجول بين الصفحات الثقافية للجرائد او المهرجانات كي يسمع صوتا آخر غير صدى صوته .
ان السائد الان في حياتنا بما فيها الادب هو المونولوغ لا الديالوغ، ومن يطربون لأصواتهم وهم يجربون الغناء في الحمامات او غرف النوم كثيرون، وانهماك اغلب الناس في شجون غير شعرية على الاطلاق، قدم للشعراء حرية وهمية، فليس المهجور او المهمل او المنسيّ حرا لأنه لا يرتطم بأي مصدّ او عائق ولا يختبر منسوب حرّيته …
”’ كيف يمكن لنحل يجازف في التحليق بعيدا ان يكون عاطلا عن العسل؟ هذا السؤال يبرره الازيز والطّنين في اوساط الثقافة العربية، وهو ما عبّر عنه الاسلاف حين عزلوا الجعجعة عن الطّحن! قد نقرأ عدة لقاءات صحافية مع شاعر في بداية البداية، ليس لأهميته او لسطوع حضوره، بل لأن الورق الصحافي كالفضائيات بحاجة الى علف مستمر.
ولا ادري لماذا لا يقدم الشعراء والنقاد العرب من اصحاب الشأن نصائح كتلك التي كتبها ريلكه؟ لأن هناك ما يحـــتاج الى إضاءة واجتراح طريق في الصحراء ان لم يكن في الغابة خصـــــوصا بعد ان اصبح الانترنت ومدوناته مجالا فســــيحا وربما بديلا للنشر في الصحف والمجلات، وان كــــــــان أخطر ما في هذا المجال البديل حرمــانه من النقد والمتابعة بحيث تبدو الحرية مطلقة، ويختلط حابل الشعر والقصة بنابل الثرثرة والهذيان العقيم! ان ما ورثناه من الزهو بالكثرة، ومباهاة الأمم بالعدد انتقلت عدواه الى الكتابة والابداع فالشاعر يحصي اهميته بعدد دواوينه وبعدد المقالات التي كتبت عنه حتى لو لم يكن بينها مقال نقدي واحد يعتدّ به، وحين نسمع او نقرأ تقارير من طراز ما تنشره المؤسسات الثقافية الرسمية ووزارات الثقافة الصفراء نوشك ان نصفق، ونتنفس الصعداء، فالامة بخير وكذلك ثقافتها وأدبها، لأن الدولة يوتوبيا والزعماء معصومون ومن أجلهم فقط تشرق الشمس، لكن ما ان نبدأ بالتمحيص والاحتكام الى مقياس نوعي حتى تمتلىء ايدينا بالزؤان، ومنه ما يتسرب الى أفواهنا لفرط الشبه بينه وبين القمح! فالمؤسسات التي احترفت تبرير الاخطاء قدر تعلّقها بالدول والحكومات رسخت تقليدا شمل الثقافة ايضا، ومن يتحدثون بملء الفم عن عدد الكتب والمهرجانات والمناسبات، لا يدركون بأن أبسط القواعد الرياضية والمنطقية هي ان حاصل جمع الأصفار هو صفر ايضا، حتى لو كان بحجم بعير! وأسوأ ما يمكن ان ينتج عن الفِقْه الاعمه والطنين هو أن ما يقـــــال وما يكتب من ملاحظات نقدية بهدف الاستدراك يبقى خارج المراصد والحواسيب كلّها، وما اسهل ان يوصف من يمارسون مثل هذا الرصد النقدي بالعقوق واحيانا بالتّحامل، لأن ثقافة الارتهان والتّقريد والقطعنة والامتثال لا تعترف بالخطأ وتندفع الى مضاعفته بعد ان تأخذها العز بالاثم.
وعلى من يتحدثون بلا انقطاع عن خطوط الفقر والبطالة والاستنقاع السياسي ان يفكروا ولو للحظة بهذا النحل العاطل عن العسل رغم ان الرّحيق يملأ البراري!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى