صفحات أخرى

ساطع الحصري… العودة الى الوجه العلماني العربي

كرم الحلو
السائد أن العلمانية في العالم العربي إنما نهض بها المسيحيون الشوام درءاً لموقعهم الذمّي الدوني في الامبراطورية العثمانية، وأن دور المسلمين العرب في الخطاب العلماني محدود وهامشي. وإن انطوى هذا في جزء منه على جانب كبير من الصواب، الا انه لا ينصف العلمانيين المسلمين العرب الذين لم يتوانوا بدورهم عن المناداة بالرابطة الوطنية والقومية فوق كل الروابط المليّة ومقارعة العقل الطائفي والثيوقراطية ورفع لواء المساواة المواطنية والعروبة الجامعة.
من بين هؤلاء من دون ريب المفكر القومي العلماني ساطع الحصري الذي دان بـ«دين العروبة بكل جوانحه» ورفع شعار «العروبة فوق الجميع». لكن «الباحثين العرب مدعوون الى إيلاء الحصري مزيداً من الاهتمام» كما يقول أحمد ماضي في «ساطع الحصري، الدين والعلمانية» مركز دراسات الوحدة العربية 2009، اولاً لأن بعض الأبحاث التي تناولته في العربية اتسمت بالمنزع الايديولوجي، وثانياً لأن في فكر الرجل ما لا يزال يحتاج الى دراسة وتمحيص، كما ان في آرائه القومية والعلمانية ما نحن في اشد الحاجة إليه في زمن انبعاث الاصوليات الظلامية والعصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية ما قبل الوطنية وما قبل القومية، والتي تهدد العالم العربي بأوخم العواقب.
في التعرف الى نمط تفكيره وقناعاته الايديولوجية والسياسية رأى المؤلف ان دين الحصري الاول هو العروبة، فضلاً عن إيمانه بدينين آخرين هما «العلم والوطنية». وليس من الملاحظ انه ملحد او شكاك او لا ادري إزاء الدين، لكنه أراد ان ينأى بنفسه عن المناقشة في المسائل الدينية كي لا يثير حوله الشبهات وحتى لا يتورط في مجابهة مع السلفيين، وإيمانا منه بأن الخوض في الدين امر لا طائل فيه.
إن البرهان والعقل والمنطق والبحث العلمي هو ما يقنع الحصري، والمسائل الدينية ليست مما يخضع لما تقدم تمام الخضوع. من هنا انه يدعو الى ان نحذو حذو الغربيين في التخلص من النزعة الكلامية التي ابتليت بها اوروبا وتخلّصت منها عندما تغلّبت روح التفكير الحقيقي ونزعة البحث العلمي عليها. ونحن في حاجة شديدة الى الاقتداء بالأوروبيين في استنطاق الوقائع والحادثات واستقرائها بالتجرد عن الميول النفســانية والآراء القبلانية، اذ بهذا الاقتداء ندخل في «عداد الأعضاء العاملين في حـضارة القرن العشرين». لكن الحصري الذي لم يذكر عبارة «العلمانية» إلا في سياق واحد لا اكثر، لم يبن موقفه العلماني على اعتـبارات فلــسفية، شأنه في ذلك شأن العلمانيين العرب الذين ذهبوا هذا المذهب، باستثناء قلة منهم مثل انطون سعادة ومحمد أركــون وناصيف نصار. وتبعاً لذلك، ان طموح الحــصري لم يتـعد فصل الدين عن السياسة وعن العلم، لكن علمانيته مع ذلك يمكن ان توصف بأنها علمانية سياسية متقدمة، نظرا الى اولوية العقل عنده.
هل يعني هذا انه لم يكن ملّماً بالفلسفة؟
في رأي المؤلف ان الحصري ملّم بالفلسفة، وإن بشكل محدود ومسوّغ نظراً لموسوعية ثقافته ومعرفته، فكتاباته تنطوي على ذكر العديد من الفلاسفة مثل سقراط وأرسطو وهوبس وسبينوزا وهيوم وفخته وشوبنهاور وبرغسون وغيرهم، وقد طرح في بعضها مسألة الحقيقة والمعرفة والفلسفة الحقة، وثمة ما يثبت اهتمامه بالفلسفة الوضعية الفرنسية وتوجهه العقلاني العلمي. ولكنه رفض ربط الفكرة القومية باللادينية لأن هذه الفكرة «لا تتضمن انكار الدين او استنكاره بوجه من الوجوه». وليس بالضرورة، في رأيه، ان تكون الفكرة القومية في تضاد مع الدين، وانما تريد ان تنأى به عن التسييس، الامر الذي يجعل الحكم مدنياً، وبعيداً كل البعـد عن أي تأثير للدين فيه.
في استقراء مصادر علمانية الحصري وكيفية تكوّنها، رأى المؤلف ان الحصري التحق بالمدرسة الملكية الشاهانية التي كانت مؤسسة مدنية وعلمانية تخرّج منها العديد من قادة «تركيا الفتاة» الذين اهتدوا الى مفاهيم الحرية والوطنية بفضل معلمي المدرسة، وقد أدت ثورة «الأتراك الشبان» عام 1908 الى تحولات هامة باتجاه علمنة المجتمع، مما يحمل على القول ان دعوة الحصري الى فصل الدين عن السياسة، هي من ثمار تكوينه العلماني. لكنه بعد رحيله إلى الوطن العربي حاملا ثقافة علمية التوجه عميقة التكوين، انتقل من العمل من أجل الجامعة العثمانية إلى العمل من أجل الوحدة والقومية العربيتين، وتطـورت علمانيته حتى بات رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي.
شدد الحصري على أولوية اللغة في تصوره للأمة والقومية، إذ قال إنها روح الأمة وحياتها، ومحور القومية وعمودها الفقري، وأهم مقوماتها ومشخصاتها، وهي التي تميز بين الأمم، فقد يتغير الدين دون ان يطرأ خلل على وحدة الأمة اللغوية والقومية. ولم يتردد الحصري في القول إن «تأثير رابطة اللغة أقوى من تأثير رابطة الدين»، مستلهماً في ذلك جمال الدين الأفغاني وعلي عبد الرزاق وعبد الحميد الزهراوي، دون شبلي الشميل وفرح أنطون وأنطون سعادة. وقد كان للثقافتين الألمانية والفرنسية تأثير كبير في فكره القومي، إلى جانب مؤثرات أخرى لم يأتِ المؤلف على ذكرها.
على أساس هذه الرؤية القومية يميز الحصري بين التاريخين العربي والإسلامي، فالحضارة العربية لم تكن دينية، بل مدنـية علمانية اضطلع فيها المسيـحيون بدور كبــير قبـل الإسلام وبعده. لكن الإسلام لعب دوراً عظيماً في تكوين الأمـة العــربية، وكانت الحركة الإسلامية «واقعة تاريخية مهمة، أوجدت تحولاً انقلابياً خــطيراً في أحوال العرب» وقد حمى القرآن اللـغة العربية من خطر التفكك التام، والـتفرع إلى لغات عديدة. إلا أن الحضارة العربية تبــقى مع ذلك «حضارة عربية» في نظر الحصري الذي استبعد الدين من العوامل التأسيسية الأساسية للأمة.
في نظرة إجمالية نرى ان المؤلف قد أضاء من جديد على مفكر قومي رائد عدّه بعض الباحثين «أب القومية العربية» واعتبره بعضهم «نموذجاً للفكر القومي الخالص» ورأى آخرون في كتاباته تأثيراً كبيراً في تكوين وعي عربي في العراق وفي تلوين القومية المصرية بلونها العربي. وتعدّ مؤلفاته، في رأي المستشرقة الروسية تيخونوفا، من الأعمال الكلاسيكية القومية الأساسية التي مارست أثراً بالغاً على إيديولوجية القومية العربية، وعلى فكر بعض الزعماء السياسيين العرب. إلا أن الكتاب يشكو من منهجية فضفاضة، يعوزها الاتساق ويغلب عليها التكرار والاقتباس، في ظل غياب موقف نقدي مركزي جامع للمؤلف، تتبلور من خلاله الملامح والتوجهات الايديولوجية العامة للحصري، بما يبرزه في وجهه الحقيقي خارج التأويلات والتفسيرات المتعددة والمتناقضة.
المؤلف: أحمد ماضي
ساطع الحصري، الدين والعلمانية
بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009، 125 صفحة
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى