إقليم كُردستان: المنطقة الحرة للإيجار الدائم
علي سيريني
قبل أشهر حدثت أزمة ديبلوماسية بين تركيا وإسرائيل، في إثر المعاملة المهينة لسفير تركيا إلى إسرائيل، حيث إجتمع بالرجل رهط إسرائيلي في غرفة عادية، بدا فيها كلّ شيء طبيعياً، لولا قراءة تركيا الدقيقة لخلل دقيق، في إرتفاع مستوى المقاعد التي جلس فوقها ممثلو إسرائيل، قبالة الكرسي المنخفض للسفير التركي!
هذه المعاملة أدت إلى أن ترفع تركيا عقيرتها بالاحتجاج، وكانت محقة، فطلبت من إسرائيل أن تعتذر وترد الإعتبار، ففعلت الأخيرة ذلك. إذن، في الأعراف الديبلوماسية، لا يجوز إهانة الضيف، ولو حدثت فإنها تعني إعلان الحرب إلى أن يثبت العكس!
لكن الأمر بدا على العكس تماماً، في ما يخص تركيا مع الجانب الكُردي في إقليم كُردستان. فبعد الحادثة المذكورة بأسابيع، زار السيد مسعود بارزاني تركيا (بإعتباره رئيس إقليم كُردستان وفق إدعاء الجانب الكُردي)، لكنه وجد موظفاً بسيطاً في الوزارة الخارجية التركية في استقباله، إصطحبه إلى غرفة لقاء مع وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، الذي كان أعد كل شيء بدقة تامة. فما إن صعد مع بارزاني الى المنصة المعدة للمؤتمر الصحافي، حتى بادر صحافي تركي بالسؤال نحو بارزاني، عن سبب عدم وجود العلم الكُردي! فالتفت بارزاني نحو الخلف ضاحكاً وقال: (لم انتبه)!
لكن أوغلو أكمل الطبخة، وأضاف أن بارزاني ضيف عزيز على تركيا باعتباره إبناً لإحدى العوائل العراقية المشهورة، ولو أراد (موجهاً الكلام نحو بارزاني) سأجلب له حالاً العلم العراقي! وعليه، لم يكن استقبال تركيا لبارزاني، بصفته رئيساً لإقليم كُردستان، التي كان السيد مسعود بارزاني يصر عليها، في شرطه إستجابة اي دعوة له من دول الجوار!
لم يحتجّ الجانب الكُردي أبداً، ومضى إعلامه يهتم بظاهر الزيارة، فيما الغصة في القلب تتجشأ في عناء الكبت. لكن الأدهى من ذلك هو ما حدث في اليوم التالي، حين أعدّ رئيس وزراء تركيا رجب طيب أوردوغان استقبالاً لبارزاني على طريقته الخاصة. فالاتراك الذين يهتمون بالتفاصيل، حتى في ارتفاع وانخفاض الكراسي التي يجلس فوقها ديبلوماسيون، كان أوردوغان قد وضع بينه وبين بارزاني إبريقاً نحاسياً مَسْكته في جانب الضيف الكُردي، ولولبه في اتجاه أوردوغان. ولم يظهر خلف الرجلين سوى العلم التركي الأحمر. وبما أن الإبريق له دلالاته في الثقافة الشرقية، وتحمل معاني بليغة تختزل في الأذهان صورة الخادم المطيع لسيده، فإن الجانب الكُردي تغاضى عن أي تعليق أو احتجاج، وبدا غير جريح على غرار جرح الكُرسي المنخفض للسفير التركي في اجتماع اسرائيل! وينتاب المراقب للشأن الكُردي الاستغراب الشديد، ليس فقط بسبب اصرار الجانب التركي على تكرار الإهانات المتعمدة، ولكن بسبب الصمت الكُردي الدائم إزاء ذلك. فقد سبق أن رفضت الحكومة التركية استقبال السيد جلال طالباني (رئيس العراق) استقبالاً رسمياً وساقه موظفون حكوميون إلى اللقاء مع وزير حكومي، مما شكل اهانة قوية له، بالرغم من تنازله الكبير في عقر دار تركيا في توجيه اهانة مشينة للأكراد أنفسهم، حيث وصف استقلال كُردستان المنشود لديهم بـ “أحلام الشعراء” (إحالة المثال إلى الشعر والشعراء في الثقافة التركية ترمز الى الجنون!)، لكن الاتراك ظلوا على موقفهم، ولم يلن من قسوة الاتراك واستهتارهم، اصرار طالباني على زيارة ضريح اتاتورك ووضع اكاليل زهور على قبره، وهو تقليد متبع في تركيا للوفود الرسمية، إلا ان الحكومة التركية ادرجت زيارة الرئيس العراقي ضمن زيارة عمل!
ويبدو في هذا المشهد المذل المهين حقاً للجانب الكُردي، والاستعلاء البائن للجانب التركي، كأنه في مثاله يجسّد صورة عبد آبق مطرود لدى سيده، لكنه يصرّ على العودة الى خدمته بولاء مطلق! والحال، كانت علاقة ساسة الاكراد العراقيين مع تركيا على هذا النمط منذ حوالى عشرين عاما، وبالضبط منذ قيام المنطقة الآمنة للأكراد شمال خط العرض 36، في اعقاب هزيمة العراق المنكرة في الكويت في شباط عام 1991.
لكنّ للأحداث أصولاً وخلفيات كثيرة، تصنعها. وفي ما يخص الجانب الكُردي العراقي، فقد ظلت الأوضاع الداخلية المهلهلة، والسياسة الهشة، والانقسامات العميقة المدماة بصراع عنيف، تدفع بإقليم كُردستان الى المزيد من التبعية والارتهان لقوى إقليمية وخارجية لم تبد يوما اي اهتمام بالاكراد الا على سبيل غاياتها التي تتعارض مع جوهر المصالح الكردية معظم الاحيان. وفي هذا السياق نشرت جريدة “الصباح” التركية قبل ايام بعضاً من الغسيل الكُردي، الذي يضيف وثائق جديدة لادانة الفصيلين الكُرديين اللذين يحكمان كُردستان العراق عبر سلطتين ميليشيويتين، تجمعهما في الظاهر حكومة موحدة تدار من قبل الفصيلين المذكورين، عبر الاملاء المباشر، وبسيطرة مطلقة. وثائق “الصباح” التركية تثقل ميزان الفصيلين، في ما هم عليه من فساد وديكتاتورية واجرام غريب جداً بحق الاكراد انفسهم اولاً وآخراً. فـ”الصباح” التركية، نشرت وثائق تبين تقديم طلبات من قبل زعماء الفصيلين الى الحكومات التركية، من اجل تخصيص رواتب لميليشياتهم (البيشمركة)، حيث تشير “الصباح” الى ان طالباني طلب مليوني دولار، لكن الحكومة التركية وافقت على ستمائة الف دولار دفعت له، فيما استمرت تركيا بتقديم الدعم المالي والعسكري لبارزاني بغرض استعماله ضد غريمه التقليدي طالباني (في تسعينات القرن الماضي)، وضد حزب العمال الكُردستاني منذ ذلك والى اليوم. والأمر مع إيران هو على النسق نفسه.
وفي غياب سياسة واعية رشيدة، تستند على ارضية ثقافية غنية بالهدف المشترك والاستراتيجيات المستقبلية، ظل الفصيلان كقبيلتين مسلحتين من قبائل بدايات القرن الماضي، لم تغير من جوهرهما، المظاهر المتبدلة المعاصرة. وعليه فإن الاكراد انحنت ظهورهم اكثر فاكثر تحت ثقال الحروب الداخلية، وتبعاتها ونتائجها من دمار وفساد، وسيطرة اقليمية ودولية على ارضهم ومواردهم. وعلى هذا الاساس انكسرت احوال الاكراد على مسارين، اولهما: ان قادة الاكراد تركوا كماً هائلاً من الاسرار لدى دول اقليمية ودولية، أستعملت لابتزازهم وليّ اعناقهم، إن خرجوا عن الطاعة، فقدموا إثر ذلك التنازل تلو التنازل، في عملية ماراثونية غريبة بين هذين الفصيلين، بدءاً بارتشاء الصحافيين والكتاب من دول الجوار، ودول غربية، الى حيث ما يمكن تسميته بتسليم شبه كامل، للسياسات الكبيرة والمصيرية في يد خصوم الاكراد العديدين والمتناقضين، مثل ايران وتركيا واسرائيل- اميركا! وثانيهما، ان الحزبين الرئيسين اهملا شعبيهما بصورة كلية، وهذا ما يبدو في واقع الكُرد المعيشي من آلام وعذابات، وكذلك في انعدام اي بناء عقلاني، لمستقبل اجيال شعبٍ، عانى كثيراً الظلم المزدوج لقوى عالمية واقليمية. وفي المسار الثاني قام زعماء الفصيلين وحواشيهم، بتوفير الحد الاقصى للامن والرخاء لأنفسهم وعوائلهم، في الحاضر وللمستقبل، عبر نقل معظم اموال ميزانية الحكومة الى الدول العديدة والمتناقضة التي ذكرناها آنفاً، لضمان الظفر بإحداها، في حال فشل هذه او تلك، في توفير الملجأ لكبار المسؤولين في الفصيلين مستقبلاً. وهذا الهاجس يضغط باستمرار على حزبي السيدين مسعود بارزاني وجلال طالباني، في تدبير السياسات الآنية التي تسيّر يومياً بارتجال عفوي كبير. لكن الفريد في عالم السياسة الكُردية، أن حزب العمال الكُردستاني يقف تماماً على نقيض هذه السياسات. فالصمود والإباء الشديد اللذين يبديهما الحزب تجاه تركيا وايران، لم يجعله يبحث عن سند ودعم لخصومهما، كإسرائيل ضد إيران مثلاً. كلا، فحزب العمال بقيادة الزعيم الأسير عبد الله أوج ألان، ظل قوياً في سياساته الاستراتيجية إزاء العدوان التركي والايراني شبه المستمر ضد الأكراد، وقبالة الألاعيب الدولية لأميركا وإسرائيل في منطقتنا بشكل عام، وفي كُردستان بشكل خاص.
فلا صمود حزب العمال ضد ايران وتركيا أودعه في الارتهان الى احضان أميركا وإسرائيل، ولا تصديه لسياسات هاتين الأخيرتين، دفعه الى التصرف بخفة وذل امام ساسة الاتراك والايرانيين، على غرار الفصيلين الكُرديين العراقيين في ما يمكن تسميته بسياسة الابريق الأردوغاني ذاك مع بارزاني، وأكاليل الزهور على قبر أعتى أعداء الكُرد على مرّ التاريخ من لدن طالباني!
(أوستراليا)
( كاتب كردي)
النهار