المناضلون والمتدينون… من المرافعة ضد ‘المفسد- يون’ الى التناحر فيما بينهم على الفضائيات!
خطيب بدلة
مذ بدأت القنوات الفضائية بالظهور في أواخر القرن العشرين، وأخذت الأقمارُ الصناعية تُمطر الناس بوابل من الفضائيات، وما يزال العربانُ منقسمين بالرأي حولها، بين مؤيد ومعارض.. وكل واحد منهم يقدم حججه وبراهينه، ليثبت لنا، جرياً على عادة العرب الأزلية، أن رأيه جامع، مانع، صحيح، دقيق، مُسْنَد، مُعَنْعَن، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،.. وأن رأي الآخرين، كائناً من كانوا، هوائيٌّ، خاطئ، فاسد، باطل، لا تشوبه شائبةٌ من صواب أو من صحة!
المناضلون قالوا إن الفضائيات تشوش عقل المواطن الذي أمضينا عمرنا ونحن نناضل لنحميه من الديمقراطية والأفكار الهدامة، والمتدينون قالوا إنه يفسد الأخلاق ويبعد الإنسان عن دينه ويجعله لا يحسب حساباً لآخرته، و(بعض) المشايخ، (أقول: بعض.. لأنني لا أعني كلَّ المشايخ المتنورين الأجلاء) لم يقفوا ضد وجود الفضائيات فقط، بل إن لهم سابقة بالوقوف ضد التلفزيون نفسه، وقد أطلقوا عليه لقب (مفسديون).
ولكن، حينما اكتسحت الفضائيات الموقف، غير مبالية بالمؤيد أو بالمعارض، وأصبح وجودها حقيقة ساطعة لا تقبل الجدل، بدأ الناس، بمختلف أشكالهم وألوانهم، برؤوس ومن دون رؤوس، يهرعون للجلوس على مقاعد استوديوهاتها، فهذا يجلس بصفته محللا سياسيا، وهذا صحافيا مشهورا، مع أننا نحن العاملين في الصحافة منذ ثلاثين سنة لم نسمع به، وهذا خبير استراتيجي (خبير شو؟.. استراتيجي!)، وفلان ناقد أدبي، وعلان ناقد تشكيلي، وفليتان موالٍ لسلطة بلاده، وعلاك البان معارض لسلطة بلاده، وهذا صحافي بحدود، وذاك صحافي بلا حدود، وواحد بقافية والثاني بلا قافية، والثالث لا أدري ماذا، والرابع ما بعرف شو.
و(بعض المشايخ.. وليس كل المشايخ) ركبوا موجة الفضائيات، وذهبوا إليها جماعات وفرادى، وجلسوا يتحدثون ويسردون محفوظاتهم التي يعرفها القاصي والداني، وأصبح حال الواحد منهم ينطبق عليه الوصف القديم لأحد المطربين الذي قيل إنه (لا يغني إلا بدرهم.. ولا يسكت إلا بدينار)!
في بداية الأمر كانت أحاديثهم تقتصر على الوعظ، والتذكير برحمة الله تعالى الواسعة، والدعوة إلى المحبة والتسامح، والحض على عمل الخير.. ولكنهم، مع الزمن، تذكروا أنهم قوم متناحرون، لا توجد بينهم أية رحمة، أو محبة، وظهرت فضائيات (معروفة.. ولا حاجة لأن أذكر أسماءها)، تلح على أن السنة على حق، والشيعة ومن سواهم على خطأ، وفضائيات تلح على أن الشيعة على حق، ومَن سواهم على باطل.. إضافة إلى فضائيات معتدلة كـ (المنار)، لا تدخل في هذا السجال العقيم، وفضائيات اخرى توفيقية، معتدلة تدعو إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة.
وأما المواطن الصائم، الفقير، الغلبان، التعبان، المعتدل، العائف رد السلام، الذي يفهم الدين على أنه وئام وتسامح، فقد زهق حقيقة من هذه المجادلات البيزنطية، وتمنى أن يمر رمضان على خير، من دون أن يُدخله المتشددون، على اختلاف مذاهبهم، في متاهات هو في غنى عنها، وأصبح حاله كحال أحد الفنانين القدامى الذي زهق ذات يوم من كثرة المطربين والأغاني والألحان حوله، فغنى مقطعاً فريداً من نوعه يقول فيه:
يا اهل المغنى
دماغنا وجعنا
دقيقة سكوت لله!
نعمة أم نقمة؟
ذات يوم، حضر إلى محافظة إدلب إعلاميٌّ عربي يُعِدُّ ويصور فقرات برنامج عنوانه (القافلة) لقناة ‘الجزيرة’ القطرية.. طبيعة البرنامج تقتضي أن يسافر هذا الإعلامي برفقة فريقه الفني، في كل مرة، إلى إحدى الدول العربية، ويجري ريبورتاجاً مصوراً عن أحوال منطقة مختارة من مناطق هذه الدولة العربية، مركزاً على الناحية الاقتصادية والاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد.. إلخ.
وكان أن مر بصديق له، وأحب صديقُه أن يُعَرِّفَه على بعض إعلاميي المنطقة، فكان أن حضروا لزيارتي في البيت، باعتبار أن لديَّ تجربة في الصحافة والكتابة الإذاعية والتلفزيونية.
وبينما نحن نشرب القهوة خطر لي أن أفتح أي حديث عام، ثم يجرُّ الحديث بعضه بعضاً، فنصل إلى الهدف الذي جاؤوا لأجله. فقلت:
– والله يا أستاذ.. هذه الفضائيات التي أُحدثت في السنوات الأخيرة كان فيها الخيرُ للناس.. وأنت تعلم أن كل مواطن عربي كان محكوماً للفرجة على القناة الحكومية الوحيدة في بلده.. مما يبعث في النفس الملل.
فجأة تحمس الإعلامي (معد البرنامج) وقال لي:
– ملل؟ الله يسامحك يا أستاذ.. إنك تستخدم كلمة (ملل) ببساطة متناهية.
قلت: عفواً، ما هي الكلمة المناسبة إذن؟
قال: هي ليست كلمة، بل هي سلسلة طويلة من المترادفات التي تبدأ بكلمة (ملل) ولا تنتهي عند أي عبارة من قبيل (شيء يجنن)، و(شيء، يطقق)، و(شيء يفلق) و(شيء يشق الإنسان، بالطول، إلى شقتين)! تصور يا أستاذ، عمري الآن خمسون سنة، وأعمل منذ ثلاث سنوات فقط في محطة ‘الجزيرة’، وهذا يعني أنني عشت سبعاً وأربعين عاماً في بلدي الفلانية.. (وذكر لي اسم الدولة العربية التي ينتمي إليها، وهي ذات نظام ملكي).. وأتفرج على قناتها التلفزيونية الحكومية الوحيدة..
والحقيقة أن كل برامج تلفزيون مملكتنا تُصَوَّرُ وتُسَجَّلُ و(تُمَنْتَج)، وتُرَاقَب، ولا تعرض علينا إلا بعد أن يطمئن معدوها على أنها خالية من الدسم، ومكفولة. سوى نوع واحد، وحيد، أوحد من البرامج كان يُبث على الهواء.. ألا وهو تحركات جلالة الملك.. استقباله لضيوفه، وتوديعه إياهم محمولين بالسلامة..
في مرة من المرات، يا أستاذ يا محترم، تفرج شعب مملكتنا لمدة ثلاثة أيام متواصلة.. احزر على ماذا؟ تفرج على استقبال الملك لولي العهد.
حينما وصل ضيفي الإعلامي إلى هذه النقطة من حديثه، سكت، وشرع يحتقن بالغيظ. ثم قال لي: ما بك أستاذ؟ كأن الموضوع لم يثر استغرابك. أنت تعرف من هو ولي عهد ملكنا؟
قلت: لا والله. لا أعرف.
قال لي: واضح أنك لا تعرف. يا أستاذ، ولي العهد الذي زار ملكنا في قصره، وتفرجنا عليه، في بث مباشر، ثلاثة أيام بليالها، هو ابن الملك.. ابنه!
حقوق الناس
في وقت متأخر من ليلة العيد أجرت قناة ‘الحوار’ الفضائية اتصالاً هاتفياً مع الاستاذ هيثم مناع الناطق الرسمي باسم رابطة حقوق الإنسان في باريس.. وقد طمأننا (مناع) -الله يطمئن باله في الدنيا والآخرة- إلى أن حقوق الإنسان في الوطن العربي في تراجع مستمر، وأنه حصل تقدم كبير في الآونة الأخيرة على صعيد التوقيف الاحترازي.
وحينما قال المحاور إن إحدى الدول الخليجية أطلقت سراح خمسة وثلاثين معتقلاً كادت الأمور تتلخبط في عقلنا، ولكن مناع عاد إلى طمأنتنا بأن السلطات العربية المظفرة لا ترى مثل هذا الرقم الصغير بعينها المجردة، وأن بإمكانها أن تعوضه بالعشرات، متى شاءت.
وتحدث مناع أيضاً عن حالات منع السفر التي تفرض على بعض المواطنين العرب.
ههنا يمكن للمرء أن يوجه إلى قناة الحوار وإلى السيد هيثم مناع سؤالين على قدر كبير من الأهمية:
أولهما: المعتقل العربي الذي تفرج عنه سلطة بلاده، إلى أين سيذهب؟ و(شو عنده شغل) خارج السجن؟
ثانيها: إذا فرضنا- من باب المماحكة- أن سلطة بلاده سمحت له أن يسافر.. ماذا سيفعل خارج بلاده؟ هل يوجد احتمال غير أن يتخرب عقله ويعود إلى بلاده بأفكار تجر عليه وعلى أسرته المزيد من وجع الدماغ؟
قرأت مرة، على الإنترنت- الذي يسميه النحويون العرب: الشابكة- خبرا معبرا يقول ان سجيناً من دولة أطلق سراحه بعد (15) سنة اعتقال.. خرج من السجن وإذا به قد أصبح خرفاً، ثقيل الدم، يسبب لأفراد أسرته الكثير من المشاكل. مما حدا بأحد أبنائه الى أن يخاطب ملك البلاد غيابياً فيقول له:
الله يصلحك يا جلالة الملك، أخذت أبانا وخربت عقله في السجن.. طيب ليش ما تركته عندك؟
قاص وكاتب من سورية
القدس العربي