صفحات الناس

من هارون الرشيد إلى أم الطنافس

null
غازي دحمان
أجاد الكاتب ممدوح حمادة في عرضه لإشكالية النفاق والتملق بوصفها معطى وركيزة أساسية من ركائز الشخصية الشرقية. ففي إحدى حلقات مسلسل “ضيعة ضايعة” تصدر الجهة الحكومية قراراً بمعاقبة المنافقين، والتشجيع على إبداء الرأي بصراحة في كل الأمور، والمفارقة أن أهل تلك الضيعة “أم الطنافس” إرتبكوا أمام هذا القرار، فلا هم يستطيعون أن يعبروا عن رأيهم بوضوح، فضلاً عن كونهم لم يعرفوا أصلاً عن ماذا سيعبرون؟، ولا هم يستطيعون أن يتخلوا عن النفاق (التملق) الذي بات صنعتهم وحرفتهم التي يتقنون، فيقررون في نهاية المطاف أن يطلبوا من آمر السجن حبسهم بتهمة النفاق (التملق) على أن يعبروا عن رأيهم!
والواقع أن هذه القصة التي جرى تقديمها بقالب فانتازي ممسرح، ليست بعيدة كثيراً عن الوقائع اليومية لحياة الجماعات المشرقية (وبالتبعية الأفراد)، حيث يترعرع الفرد على قيم طالما اعتقد أنها تضمن له السلامة والأمان، في مجتمعات ترى في التعبير عن الرأي صراحة، نوعاً من العداء، فما بالك إن كان هذا الرأي موجهاً ضد السياسات العامة التي يصوغها دائماً الحاكم الفرد .
بالطبع، لا يمكن عزل ظاهرة النفاق والتملق في الشخصية الشرقية، عن ظاهرة الاستبداد السياسي التي يتميز بها الشرق، وهي ظاهرة قديمة طالما وصفتها الأدبيات الغربية بـ”الاستبداد الأسيوي”، والواقع أن الثقافة العربية والإسلامية ساهمت، وبشكل مميز، في ترسيخ هذا النمط من الاستبداد. فمنذ بواكيرها جرت محاربة الرأي الآخر، عبر التصفية الجسدية والإرهاب الفكري، واعتبار كل مخالفة للرأي خروجاً يستوجب القضاء عليه باعتباره فتنة تؤثر في وحدة الأمة وتضعفها أمام الأعداء، وانطلاقا من هذه القاعدة، جرى تصفية كل التيارات الفكرية العقلانية في الثقافة العربية والإسلامية، (المعتزلة مثالاً)، وحرمان المجتمعات العربية من إمكانيات التطور الكامنة في التعدد، كما جرى القضاء على التسامح بوصفه قيمة مثلى لا غنى للمجتمعات الحديثة عنها . لتضمن الإختلاف والتعدد، بوصفهما ضمانات للتطور والتقدم .
المفارقة، أن ثمة خيط واضح لازال يربط الذهنية العربية الإسلامية التي تأسست لبناتها الأولى على يد هارون الرشيد والحجاج، بالثقافة المقيمة فينا في مطالع الألفية الثالثة، حيث لا تزال ثقافة قصائد المديح هي النمط المسيطر على المشهد الثقافي العربي، وإن تغيرت بأسلوبها، نثراً وأعمدة ومقالات، كما أن ردة فعل الحجاج هي النمط المسيطر على الحاكم الفرد العربي تجاه أصحاب الآراء الأخرى، ولا زال قضاؤنا يحكم بذات الطريقة التي تم الحكم بها على الزنادقة والهراطقة، وكل من مر في التاريخ العربي وكان له رأي مخالف .
في هذه البيئة يبدو السؤال عن موت السياسة وحالة اللإنتماء التي يعيشها الفرد العربي، سؤلاً غير مبرر، إذ أن السيكولوجية العربية الإسلامية، وعلى مدار قرون من الاستبداد، تكيفت مع هذا الواقع، لدرجة أن الفرد بات يعتبر النفاق ميزة، ما دامت نتيجة إبداء الرأي والمخالفة باتت واضحة، وما دام الحفاظ على الحياة أهم ما يمكن الدفاع عنه. في هذه الحالة يصبح السلوك المخالف مغامرة، والمغامرة في الثقافة الشرقية تحمل على الدوام طابعاً سلبياُ .
والأمر الغريب في سلوكنا الشرقي، تلك الأمانة المذهلة في نقل هذه الثقافة من جيل إلى جيل، بحيث تبدو الاستجابات تجاه الشأن العام والثقافة السائدة هي ذاتها منذ الحجاج حتى عصر فروع المخابرات العتيدة، وزمن شيوخ الإفتاء الذين لا يوفرون صغيرة ولا كبيرة دون أن يدخلوا فتاواهم فيها، حتى أنه لم يعد ثمة حاجة لتلقين هذه الأنماط السلوكية والقيم الثقافية، بل أنها صارت تورث ضمن الجينات التي تنقل لون العينين والبشرة، وكأن الإذعان والرضا صارا مؤسسة في السيكولوجية العربية والإسلامية، يؤدي انهيارها وزوالها إلى دمار تلك السيكولوجية ذاتها .
ترى لماذا طلب سكان الضيعة أن يتم حبسهم بتهمة التملق والنفاق، ربما لإدراكهم أن قائد الدرك وربما المسؤول الأعلى منه في المركز ليس جاداً في طلبه منهم التعبير عن رأيهم، وربما لحدسهم أن الدخول في هذا الباب من شأنه أن يفتح عليهم باباً لا قبل لهم به. ولكن الأهم إدراكهم الحقيقي بأن ثمن التملق لن يكون أكثر من فلقة (ضرب بالعصا على القدمين)، في حين أن قولهم الحقيقة سيكون ثمنه أكبر بكثير من ذلك، … انهضي يا أمم… أبناؤنا الصغار يعرفون أساليب التملق أكثر منا بكثير.
المستقبل

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. حفظت جملة من كتاب – طبائع الإستبداد _ للداعية المعروف عبدالرحمن الكواكبي – منذ كنت طالبا في الثانوية قبل نصف قرن تقريباً – الجملة هي : إن الظلم الإجتماعي والكبت السياسي يميت في الأمة كل القيم النبيلة ومعاني الرجولة والشهامة والمروءة والنخوة – نعم وألف نعم لقد ماتت كل القيم – وأصبح النفاق هو البضاعة السائدة في المجتمع العربي عموماً وهو أشد مايكون في سوريا لأن الكبت الموجود في سوريا هو الأشد على مستوى العالم العربي بل العالم أجمع – حتى أصبح الرعب من الدولة في سوريا يدخل بين الرجل وزوجته في غرفة النوم وبين الطالب على مقعد الدراسة وزميله في المقعد المجاور – بل بين المدرس وطلابه فالطالب الحزبي يجب أن ينجح وإلا فإن المدرس من أعداء بشار الأسد شخصياً – وياويل ويله هذا المدرس – الشعب في سوريا مخنوق لايكاد يجد الهواء للتنفس فكل شيء في سوريا هو بيد أجهزة الأمن وهي الحام المطلق الذي لارادّ لحكمه – ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم – يا شعوب العالم ادعوا : اللهم فرّج عن الشعب السوري لعل إنساناً صالحاً تستجاب دعوته فيفرج عنّا بهذه الدعوة – فليس لها من دون الله كاشفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى