عندما وقع «ليبراليّونا» في غرام فيديل كاسترو!
ورد كاسوحة*
لا يوفّر الخطاب النيوليبرالي مناسبة لإحراج خصومه إلا ويقتنصها. وهذا منطق سياسي مفهوم ورائج. لكن عندما ينطوي هذا الاقتناص على تقريظ ضمني لمن كان حتى وقت قريب بالنسبة إلى هؤلاء «شيخ التوتاليتاريين»، لا يعود ذاك المنطق مقنعاً ولا مفهوماً. هنا ينزلق الخطاب «الليبرالي» من قعر الابتذال إلى قعر آخر لا قرار له. قعر يجمع بين الانتهازية الأخلاقية والتسويغ لخطاب الكراهية ضد الآخر (وهو هنا اليهودي). والكراهية في هذا الموضع خاضعة لشرط انتقائي. فهي مقبولة عندما يصدر هذا الخطاب الكريه عن دولة غير إيران، لكنها تكفّ عن كونها كذلك عندما يتبنى أحمدي نجاد الخطاب ذاته ويمضي به إلى خواتيمه (إنكار المحرقة). وإقحام عدو «الليبراليين» التقليدي فيديل كاسترو في هذا النقاش مفيد لأنه يسلّط ضوءاً إضافياً على حجم المأزق الذي يقبع فيه هؤلاء، وهم ينافحون عن نظام يحتقر اليهود ضد آخر… لا يعترف بالهولوكوست! وإمعاناً في تتفيه المشهد يستعينون بحوار صحافي لزعيم يساري تاريخي يكرهونه وهو يدعو فيه إيران إلى «الكفّ عن الافتراء على اليهود»! وكالعادة لم يأخذوا من حوار كاسترو مع المجلة الأميركية «ذي أتلنتيك» ومعلّقها جيفري غولدبرغ إلا هذا الجزء، وأهملوا لغايات سلطوية معروفة كلّ ما قاله الرجل عن أميركا وإسرائيل ومعارضته الحرب على إيران. فكاسترو لا يصلح للاستخدام «الليبرالي» إلا عندما يتمايز عن أحمدي نجاد ونظامه. وتمايزه هذا هو ما يشفع له عند هؤلاء ويجعل منه فجأة وبعد عداء مديد، راجح العقل وذا مرجعية ماركسية وثيقة الصلة بأوروبا. وأوروبا التي ينصّبها هؤلاء مرجعية وحيدة للماركسية هي غير أوروبا التي نكّلت باليهود وما زالت تدفع ثمن تنكيلها إلى يومنا هذا. يا ترى إلى أيّ من هاتين النسختين تنتمي ماركسية كاسترو التي يراد لها «ليبرالياً» أن تكون الحاضنة لمناهضة «عقلانية» للغرب الرأسمالي؟ طبعاً لن يعدم «ليبراليو» السلالات الحاكمة الإجابة عن سؤال كهذا، لكن إجابتهم ستبقى قاصرة ما لم يضعوا تعريفاً واضحاً للغرب الذي يعودون إليه في كل صغيرة وكبيرة. هل هو غرب نيكولا ساركوزي وسيلفيو برلوسكوني وطوني بلير وجان ماري لوبان وخوسيه ماريا أزنار وجورج بوش الابن، أم غرب ميشيل فوكو وجاك دريدا وكلود ليفي شتراوس وجورج لوكاش وأنطونيو غرامشي و…الخ؟ ألا يحقّ لنا تقسيم هذا الغرب إلى صالح وطالح كما يفعلون مع خصومهم؟ ففي النهاية ما لم تجر عملية عزل واضحة للطبقة التي أفسدت عملية التثوير (وكذا التنوير) في أوروبا فسيبقى تقريظ هؤلاء لماركسية كاسترو الأوروبية حمّال أوجه.
وإذا تركنا مقاربتهم المبتذلة لماركسية كاسترو جانباً، وذهبنا مباشرة إلى حيث وظّفوا هذه المقاربة، فسنجد أننا في حضرة التقسيمات البوشية ذاتها، لكن مع فارق بسيط: نقل المعركة إلى جبهة الخصوم والشروع بتقسيمهم سوسيولوجياً. فهذا ديني متشدد «لا يقبل المساومة»، وذاك علماني معتدل يمكن مساومته و..الخ. من هنا نفهم سحب مفردات بعينها من التداول ريثما يلين النظام الذي نعتناه بها سابقاً: التوتاليتارية، دعم الإرهاب، قمع المعارضين…الخ. وهو ما ينطبق على الحالة السورية أساساً. حتى عندما تصدر عن النظام في دمشق إشارات تذكّر بمراحل سابقة لا يجري التعامل معها على نحو سلبي. فسوريا يجب ألا توضع بعد اليوم في الخانة ذاتها مع إيران. ذلك أن نظامها براغماتي وعلماني. أضف إلى ذلك عدم رغبته في صراع وجودي مع إسرائيل كما هي الحال مع النظام الإيراني. وهذا يعني أن المسألة لم تعد مسألة سجال فكري محض. لقد باتت في مكان آخر تماماً. مكان له علاقة بكيفية خوض الصراع مع إسرائيل. حسناً. لمَ إذا كلّ هذا التحايل على الواقع؟ هل هو فقط للقول إن سوريا لم تعد كما كانت من قبل؟ وإذا كان ذلك صحيحاً حقّاً فلنضع التحوّل السوري في سياقه المنطقي، ولنكفّ ولو لمرة عن تفصيل سياقات وهمية وحشر خصومنا فيها كيفما اتفق. فجملة «سوريا لم تعد كما كانت من قبل» تفترض منطقياً وقوع هزيمة أجبرت سوريا من بعد على تغيير سياساتها والتراجع عن نهج سابق في مواجهة إسرائيل. طبعاً ما حصل لم يكن هزيمة، ولا كان نصراً أيضاً. لنقل إنه يقع في منزلة بين المنزلتين. ومجرد تموضعه في هذا المكان يعني أن افتراض تغيير سوريا سياستها باطل من أساسه. فمن يرطن بذلك يكن كمن يبني على أساسات غير موجودة. وما يصحّ على سوريا يصحّ كذلك على غيرها
من «حلفاء إيران». ومن بين هؤلاء كوبا. وكوبا هذه ليست طرفاً في صراعنا مع إسرائيل، حتى يغدو «التشبيك معها» «ليبرالياً» من باب ذمّ إيران أمراً مستغرباً بالنسبة إلى البعض. وهذا استنتاج منطقي إلى حدّ بعيد، لكنه ناقص بعض الشيء . ذلك أن استدراج رمز صمود كوبا في مواجهة الغرب لخوض معركة هامشية مع من يفترض أنه «حليفه» في السياسة وفي مناهضة أميركا أمر له ما بعده. والما بعد هذه تنطوي على حيثية رمزية تتعلّق بالرّهان على خلخلة «الجبهة» المنعقدة في مواجهة الحلف الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ العربي. ولكاسترو باع طويل في هذا الخصوص رغم انقطاعه عنّا وعن صراعنا مع إسرائيل جغرافياً. وهو لم يخف يوماً مشاعره تجاه هذا الصراع. حتى عندما تحدّث في حواره الأخير لمجلة «ذي أتلنتيك» الأميركية عن وجوب إبداء حساسية أكبر لمعاناة اليهود «الذين طردوا من أرضهم وأخضعوا لاضطهاد رهيب ثم للبوغرومات (معسكرات الاعتقال) ولا شيء يقارن بما مثلته المحرقة» لم يخلط بين اليهودية والصهيونية كما يفعل كثير من اليسار الأوروبي مع الأسف. فهو مثلاً لم يقصد العرب في حديثه عن طرد اليهود من أرضهم، بل قصد «أوروبا اللاسامية» التي ظنّت أنها ستتخلص نهائياً من عبء المسألة اليهودية إذا ما أنشأت لهؤلاء وطناً قومياً في فلسطين.
ثم عاد الرجل وأوضح في حديث لاحق أن «اليهود لم يكونوا الوحيدين الذين اضطُهدوا وافتُري عليهم بسبب معتقداتهم، المسلمون أيضاً خلال أكثر من 12 قرناً اعتُدي عليهم واضطُهدوا من المسيحيين الأوروبيين». وهذا يعيدنا مجدداً إلى الفكر القروسطي الذي يبدو أن أوروبا لم تبرأ منه تماماً. أما هواجسه تجاه المسألة النووية فقد خصّ بها إسرائيل بالاسم حين قال: «إن إسرائيل (والقوى النووية الأخرى) لن تحصل على الأمن إلا إذا تخلّت عن ترسانتها النووية». وفي المقابل لم ينس أن يظهر تفهّمه لمخاوف إيران من الاعتداء الأميركي الإسرائيلي. ذلك أن العالم برأيه لا يقدّر قدرة إيران على الردّ، وهي «لن تتراجع أبداً لأنها بلد (ذو اعتقاد) ديني عميق». هنا أيضاً لم يرجع الرجل الهواجس الإيرانية من أميركا وإسرائيل إلى الطابع الثيوقراطي المتشدّد للنظام كما يفعل «مريدوه» الجدد من «الليبراليين». فقط اكتفى بإبداء تفهّمه لهواجس هذا البلد (وهي ذات صلة بالاستراتيجيا والأمن القومي أكثر منها بالسياسة والأيديولوجيا)، من دون أن يقلّص هذا التفهّم المسافة التي تفصله هو الماركسي عن نظام متشدد دينياً كالنظام الإيراني.
على هذا النحو العقلاني الواضح، قدّم لنا فيديل كاسترو رؤيته للعالم اليوم. رؤية جدلية لا مكان فيها لمن يريد أن يلحق الماركسية ذيلياً بالبعد السلطوي، ويجعل من هذا البعد ذريعة لتسويغ الزئبقية والدوغمائية وضيق الأفق والذرائعية السياسية الرثّة.
* كاتب سوري
الأخبار