الـــدرس التركـــي
عباس بيضون
فوبيا الإسلام قد تكون عند المسلمين، فالأرجح أن حزب العدالة والتنمية منذ فوزه يبدو بالنسبة إلى كثيرين أحجية، وفي ظن البعض ان نجاح حزب إسلامي في إي بلد يكذب أطروحاتهم ويبقى مشبوهاً ومحرجاً. صعود حزب ديني إلى السلطة يزري بسنين انقضت في الصراع بين وطنيين وتقدميين وليبراليين وجماعات أصولية. صراع على حدود العنف وأحياناً في حمأته. فالجماعات الأصولية واحدة في حملتها على الغرب والثقافة المعاصرة، وواحدة في حملتها على الديموقراطية، وواحدة في مطالبتها بحكم ديني، وواحدة في تحكيم الله والأمراء المتسَمّين به. والحكومات الدينية على تفاوتها واحدة في أوتوقراطيتها وفي سلفيتها وعلاقتها الشائكة بالغرب والسياسة والعصر والحكم. برهنت هذه جميعها على أنها لا تنفك ترى في نفسها إماماً وهادياً، ولا تتنازل عن هذا الموقع إلا بالجهد وتظل تتطلع إليه إذا انثنت عنه. لذا يحسب ليبراليون وتقدميون ووطنيون ان الدين واحد وانه يتموّه ويتعدد جزافاً وأن علينا أن لا نحسن الظن به وإلا خنّا أنفسنا وغدرنا بها.
فوبيا الإسلام تفترض أن الاسلام جوهر ومبدأ وأنه يظل جوهراً ومبدأً مهما اختلفت الظروف. هنا تكاد فوبيا الاسلام في الغرب والشرق وبين المسلمين تكون واحدة أيضاً. فالجميع يلتقون على لا تاريخية الاسلام. الاسلام عند الجميع لا يتأثر بالزمن. إنه راسب متحجّر محنّط. انه لا زمني بل هو عقبة أمام الزمن والعصر والتاريخ. هؤلاء جميعاً لا يفهمون العلاقات المعقدة التي تنشأ بين طرفٍ وزمنه. لا يميزون أن العقل الابوكاليبتي القيامي، عقل النهايات، كان دائماً رداً على تحديات معاصرة، وأنه يتشرب هذه التحديات ويستبطنها فيما يجابهها. الإسلام الخليجي هو غير الإسلام الإيراني وهو غير الإسلام التركي اليوم. بل إن الاسلام الأخير لم يصل إلى ما وصل إليه إلا في بيئته، ومهما بدا معترضاً فهو يبني على ما تراكم من تاريخ حديث تركي. إنه يبني على الأتاتوركية فيما يعترض على عواقبها.
يبني الاسلام السعودي على التاريخ السعودي، والاسلام الإيراني على التراث الإيراني، كما أن للإثنين ردودهما على العصر الذي هو، على نحو ما، معاصرتهما الخاصة. فالإسلام الإيراني غير بعيد عن الأنظمة الجماهيرية وحركة التحرر، فيما الإسلام الخليجي نموذج لرسملة عشائرية مغرِقة. بين الإسلامَين فروق بالطبع ولكل منهما نظامه. الاول اقرب إلى الديموقراطيات الشعبية أما الثاني فهو مبني على القاعدة العشائرية. لكن الاثنين يشتركان في الائتمام بالدولة الدينية وتفسيرها للشرع، وفي الرجوع للسلف الصالح، وفي الاسترشاد بالحاكم الديني، ولا يحول التحالف السياسي مع الغرب أو الانتفاع التكنولوجي منه دون رفضه فكراً وثقافةً ونظاماً. أي أن النظام الاسلامي في الحكم وخارج الحكم أصولي. من هنا مأساة «الإصلاح الإسلامي» الذي وصل في النهاية إلى طريق مسدود. هذا لا يمنع من أن النظام ينتج إصلاحاته التي تندمج في المنظومة الأصولية. إنه يتكيف لكن بدون التخلي عن أركانه وغالباً ما يَعتبر أن إصلاحاً من غير هذا النوع مروق ينبغي ردعه.
«الإسلام التركي»، بدون مزاعم ايديولوجية، يحيي الأمل في الإصلاح الإسلامي الذي اعتبر كثيرون أن لا سبيل إلى التغيير من دونه، وهذه فكرة رثّت من زمن وها هي تتململ وتنبعث من جديد.
لفهم هذه النقطة ينبغي أن نتوقف قليلاً عند الأتاتوركية. العلمانية الأتاتوركية أخرجت الإسلام من الحكم لكنها فسّرتها، العلمانية، على هواها واحتفظت بحق تفسيرها الذي يملي إجماعاً قومياً نابذاً أفضى إلى تمييز عرقي وبالتالي ديني. فالعلويون كدين وكجماعة، شأنهم شأن الأكراد والأرمن، لا يجدون اعترافاً قانونياً.
الإسلام التركي يطرح برنامجاً لما بعد الأتاتوركية قوامه التسامح القومي والعرقي والديني. لا يتنافى مع العلمانية لكنه يسحب من الاتاتوركية حق تفسيرها ويوكله إلى أجهزة مستقلة. إنه اليوم داعية الديموقراطية والاندماج في المنطقة مع الدخول في الاتحاد الأوروبي. أي أنه هكذا يجمع بين العمق الشرقي والأفق الغربي. أي أن الإسلام التركي يأخذ على عاتقه البرنامج التغييري والمصالحة الاجتماعية التي هي شرط أولي لقيام مجتمع ودولة. الديموقراطية والتوسط بين الشرق والغرب، ذلك برنامج لم يربح تماماً رغم الـ 58%، فلا بد من عمل إضافي ومراجعة للنفس ومواجهة عقبات من كل نوع قبل إتمام المصالحة الاجتماعية، ولعل عدم تصويت الأكراد يشير إلى هذه الصعوبة. التراث الأتاتوركي التمييزي سيكون عقبة كبيرة والتراث الأتاتوركي هو إلــى حد ما التاريخ التركي الحديث. إنه المجتمع والدولة والجيش ومجابهته تعني الدخــول في صراع متّصل تتتابع دوائره ويخرج من حلــقة إلى حلــقة، والاستفــتاء الأخير موقعةٌ في حرب معلنة.
السفير الثقافي