حوار مع جورج قرم عن العلمانية: ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشدّ وطأة؟
ميشيل كيلو
نشر الأستاذ الدكتور جورج قرم مقالة في مجلة اللوموند ديبلوماتيك (عدد شهر آذار من عام 2010) حول إشكاليات العلمانية بين أوروبا والعالم العربي، جعل عنوانها «حرية التأويل هي المفتاح في الإسلام».
في مقالته، يؤكد الكاتب مجموعة مسائل رئيسة، أهمها اثنتان: أن تاريخ أوروبا ليس تاريخ المسلمين والعرب، وأن اختلاف التاريخين يكمن في كون ثانيهما عرف حرية الفكر، وهو قيمة جوهرية في العلمانية، بينما لم يعرفها الآخر، الأوروبي، قبل نهاية القرن السابع عشر. لذلك كانت المسألة الرئيسة في أوروبا هي فصل الدين عن الدولة، والفصل بين الروحي، المستولى عليه من قبل مؤسسة منظمة وحاكمة هي الكنيسة، والزمني، كما مثلته دولة اختلفت في ماهيتها ووظائفها عن الكنيسة، التي تزايدت الحاجة إلى التحرر من قبضتها الممسكة بكل شيء، بعد أن تبلورت في الواقع العناصر الكفيلة بجعل تجاوزها أمراً ضرورياً وممكناً، علماً بأن سيطرتها استمرت حتى القرن التاسع عشر، وكان آخر شكل رمزي لها قيام بابا روما بوضع تاج الإمبراطورية على رأس نابليون بونابرت مطالع القرن المذكور. بالمقابل، لم يعرف الإسلام كنيسة تدير شؤونه، ولم يكن على رأس دولته رجل دين كالبابا، بل حكمه دوماً رجال دولة مدنيون، فصلوا بين الدين والدولة، وإن اتبعوا تعاليم الدين إلى هذه الدرجة أو تلك، لكنهم جعلوها متفقة مع مصالح الدولة لا الدين. المشكلة عندنا هي أن باب التأويل أغلق في القرن العاشر، مما قيّد حرية الفكر وحدّ من العلمانية كأمر واقع، فلا حاجة هنا ولا مجال لعلمانية من نمط أوروبي تفصل الدولة عن الدين أو تطيح بسلطة كنيسة وبابا لا وجود لهما. ولا بد من فتح الطريق من جديد أمام حرية التأويل، التي ستعيد الأمور إلى نصابها وتتكفل بحل المشكلة.
آمل أن لا يكون هذا التلخيص قد حجب بعض جوانب مقالة الدكتور قرم أو أساء إليها، وأجد أن من الضروري إبداء بعض الملاحظات حولها:
1ـ عرفت سيطرة الكنيسة البابوية على الدولة والحياة العامة في أوروبا مراحل متباينة، وكانت في صعود وهبوط ـ بلغ صعودها أوجه قبل وخلال حروب الفرنجة، ثم بدأ بالهبوط بعد أن مر في مراحل خمس، كانت أولاها في القرنين الخامس والسادس، عندما تمتعت السلطة الكنسية بالأولية على السلطة الزمنية، وبدأت ثانيتها مع مجيء شارلمان وانفصال كنيسة الغرب عن كنيسة الشرق وركون البابا إلى الغرب، وثالثتها مع سيطرة شارلمان وإقامة النظام المسيحي تحت إشراف الإمبراطورية في الغرب، ورابعتها مع استيلاء الكنيسة على تراث شارلمان وثأرها من السلطة الزمنية التي كان قد خلّفها وراءه، وخامستها مع محاولة سلالة أوتو إعادة بناء إمبراطورية الغرب ـ . هذه الأطوار المتعاقبة، تقول إن سيطرة الكنيسة لم تكن من طبيعة واحدة في جميع مراحلها قبل الإصلاح البروتستانتي، كما يؤكد الدكتور قرم. من الأدلة على ذلك رسالة بعثها شارلمان عام 800 إلى البابا ليون الثالث يخاطبه فيها قائلاً: «نحن نقاتل دفاعاً عن صليب المسيح ضد الكفار ومن أجل نشر رسالته بين الوثنيين، وتبارك أنت أسلحتنا وتصلي من أجل انتصاراتنا … وتحرص على أن يكون سلوكك متفقاً مع تعاليم المسيح». بينما وجه هوغو كابيت، الملك الفرنسي المتمرد على البابوية، كلامه إلى رئيس الكنيسة (البابا) قائلاً: «كلانا تلقى سلطته من الله ـ حسب قول بولس الرسول: «كل سلطة من الله» ـ فلست بحاجة إلى بركتك وتطويبك لي ملكاً». ومن المعلوم أنه سادت في تلك الحقبة من صراع السلطتين الدينية والزمنية نظرتان: إحداهما في الشرق المسيحي اعترفت بوحدة الإمبراطورية والمجتمع المسيحي وقبلت إقامة نظام موحد يختلط فيه الزمني بالروحي ويقبل أحدهما الآخر، والثانية في الغرب وضع أسسها القديس أوغسطين، فصلت جذرياً بين النظامين المسيحي والإمبراطوري، لكنها اقتبست عن الشرق مبدأ ربط الإمبراطور ومصيره بمصير الدين الرسمي.
هذا المبدأ، انتشر في الغرب على يد قسطنطين، قبل سقوط روما، علماً بأن تدهور مؤسسات الإمبراطورية لم يلحق ضرراً جدياً بالكنيسة، التي عرفت كيف تتأقلم مع الوضع الجديد وتفيد منه. إلى هذا، هناك رسالة للبابا غريغوار الكبير يخاطب فيها الإمبراطور، «هذا الكركدن الذي دجنه لله»، بالقول: «لقد أعطيت السلطة كي تساعد من يبتغون فعل الخير وتوسيع الطريق التي تقود إلى السماء، لتكون المملكة الأرضية في خدمة ملكوت السموات». وبلغ تنظير السيطرة الكنسية أوجَهُ في نظرية السيفين لبرنارد دو كليرفو، التي تقول: «يخص السيفان الروحي والمادي كلاهما الكنيسة، لكن السيف المادي يجب أن يشهر من أجل الكنيسة، والروحي من قبلها، على أن يكون أحدهما بيد الكاهن والآخر بيد الجندي، ويكون الأمر للكاهن بقيادة الإمبراطور». إلى هذا، هناك خلاف حول المدة التي بقيت سيطرة الكنيسة خلالها، وحول ما إذا كانت سيطرة إلهية مباشرة مارستها الكنيسة أم سيطرة كنسية بتكليف من الله، والفارق بينهما كبير، ما دامت الثانية تحتمل وجود سلطة زمنية إلى جانب السلطة الكنسية، وفي قراءات معينة، فوقها، بالنظر إلى أن الإمبراطور أو الملك هو من الكنيسة، وأنه يمارس سلطة منحه إياها الله، فلا يحق للكنيسة التدخل فيها أو الاعتراض عليها.
في القرن الثالث عشر، سيقول فيلسوف الكنيسة الأكبر توما الأكويني إن: «أفضل النظم السياسية هو ذلك الذي يخضع الهيئة الاجتماعية إلى حكم فرد واحد. لكن هذا لا يعني أن النظام الأمثل هو أن ينفرد بحكم الدولة رجل واحد، فالأمير لا يستطيع تأمين خير الشعب العام إلا إذا استند إليه (إلى الشعب)، وعليه إذن الدعوة إلى تعاون جميع القوى الاجتماعية المفيدة للمصلحة العامة، كي يتولى قيادتها وتوحيدها، وينشأ نظام أحكمت مقاديره». أما روبرت فولز، فيلاحظ: «إن تاريخ أوروبا يتسم منذ القرن الثاني عشر بإعادة بناء الدولة الملكية، انطلاقاً من النظام الإقطاعي»، قبل أن يضيف: «إن إحدى نتائج الإصلاح الغريغوري بالنسبة إلى البابوية المعززة كانت النزوع إلى محاكاة الإمبراطورية». أريد القول: إن علاقة السلطة الكنسية بالسلطة الزمنية ظلت طيلة نيف وثلاثة عشر قرناً في صعود وهبوط، وبقيت محل شدّ وجذب شديدين، وكانت أكثر تعقيداً بكثير من أن تلخصها عبارة أو فكرة تعميمية، تخضع السلطة الزمنية للكنسية، وتؤكد ذلك بمثال نابليون الذي وضع البابا تاج الإمبراطور على رأسه، علما بأن البابا هو الذي استدعي إلى باريس، وأن نابليون وضع التاج على رأسه بيديه، وليس بيدي البابا.
2ـ يقول الدكتور قرم: «إن دولة القانون، وحقوق الإنسان، وصون كرامة كل كائن بشري، هي أيضاً مفاهيم دمجت بثقافة النهضة العربية الحديثة، لكن هذه المفاهيم فقدت معناها تحت تأثير «الصحوة الإسلامية» المحافظة والسلطوية». أعتقد أنه كان من الصحيح لو أن الكاتب ذكّر بدور الحركة القومية العربية ودولتها، التي ألغت، قبل الصحوة الإسلامية بفترة غير قصيرة، دولة القانون وحقوق الإنسان، بينما أنتجتهما وحمتهما الحركة القومية الأوروبية، مما يفسر العوز الديموقراطي الذي أصاب الحركة القومية العربية ودولتها منذ ستينيات القرن الماضي، ويظهر عيبها الرئيس والسبب الذي أفرغها من مضمونها التقدمي وقاد إلى تقويضها في مرحلة مبكرة من حكمها. رفضت الصحوة الإسلامية هذه المفاهيم، لكن الدولة القومية كانت قد قضت قبل ذلك على وجودها الفعلي ودورها، ولم تكتف فقط بإفقادها معناها.
3ـ ينفي الدكتور قرم أن يكون في الإسلام كنيسة، ويطالب في الوقت نفسه بإطلاق حرية التأويل، فمن هي الجهة التي يطالبها بذلك، ومن الذي يقيد هذه الحرية؟ إذا كانت هناك جهة بيدها منع وإطلاق حرية التأويل، ألا تكون هذه الجهة كنيسة أو سلطة كنسية وإن لم تتخذ شكلاً كنسياً؟ ألا تستخدم في هذه الحالة قراراتها وسيطرتها لأغراض كنيسة؟ ما معنى الحديث عن افتقار الإسلام إلى كنيسة، إذا كانت توجد في مكان ما سلطة لا يستطيع، أو لا يريد أحد تحديدها، نجحت في تقييد حرية التأويل طيلة عشرة قرون، وفرضت عقائد ومذاهب بعينها على المؤمنين، من الصعب مناقشتها ونقض مقولاتها والخروج على اجتهاداتها وفقهها؟ ومن الذي قام في الإسلام بـ«تجميد العقيدة وعد الفكر الفلسفي خطراً على الإيمان الديني» حسب قول الدكتور قرم، وكيف لا يكون هذا أشد هولاً من الكنيسة، التي بدأت سيطرتها الفكرية والسياسية تتداعى منذ القرن الثالث عشر، مع أنها لم تدم غير خمسة قرون واجهت خلالها مقاومة متشعبة وضارية، فكرية وسياسية( 1)، بينما يستكين عالم الإسلام في رحاب الأشعرية، التي جمدت الاجتهاد والتأويل واعتبرتهما بدعة وضلالة، وما زالت قادرة اليوم أيضاً على تجميدهما.
4 ـ يتحدث الدكتور قرم عن «السلطة السياسية المدنية، التي يخضع الفقهاء والعلماء المسلمون بصورة عامة لرقابتها الوثيقة». هل كانت هذه السلطة السياسية محمولة من مجتمع مواطنين أحرار، فيصح عندئذ اعتبارها مدنية تغطي مجمل المجال السياسي والعام، أم أنه يجب أن نفتش لها عن صفة أخرى، سياسية لكنها غير مدنية؟
أود إضافة ملاحظة أخيرة تناقش فقرة من نص الدكتور قرم تقول: «إن المسار التاريخي للديانة الإسلامية مختلف تماما (عن المسار الأوروبي الحديث)، إذ اتبعت هذه الأخيرة تطورا معاكسا لتطور المسيحية، واتسمت خصوصيتها أيضا بتكيفها مع التركيبات الاجتماعية السياسية التي ورثها الغزاة العرب. إنها، من جهة، تركيبات الإمبراطورية البيزنطية التي كانت مسيطرة على المحيط الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط مع ظهور الإسلام، ومن جهة أخرى تركيبات الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي كانت تبسط سيطرتها على بلاد ما بين النهرين والهضاب الإيرانية العالية. فالأهمية المعطاة لسلطة الإمبراطور في الشؤون الدينية، كما كانت عليه الحال في بيزنطة، ستولد الممارسة السنية للسلطة خلفا لها، فيما نجد اليوم السلطة الدينية للكهنة الزرادشتيين في الإمبراطورية الساسانية متمثلة في نفوذ رجال الدين الشيعة واستقلاليتهم بالنسبة إلى السلطة السياسية». لن أتوقف عند «نفوذ رجال الدين الشيعة واستقلاليتهم بالنسبة إلى السلطة السياسية»، التي تناقض أطروحة أستاذنا حول عدم وجود كنيسة في الإسلام، وأسجل أن السلطة السياسية ليست اليوم مستقلة عن نفوذ وتحكم رجال الدين الشيعة، وأن سيطرتهم عليها كانت تستحق وقفة طويلة ومتأملة، بسبب أهميتها بالنسبة إلى أطروحة «فرادة النموذج الإسلامي»، الذي تماشى وتماثل مع نماذج حكم البلدان المجاورة، القائمة في عصره، وأخذ تنظيمه عنها، قبل حدوث انعطاف من نمط غير مسبوق في أشكال السياسة ونظمها، جسده النموذج الأوروبي الحديث، الذي قام على ركائز ومفردات لم تكن معروفة في النماذج التي اقتبس الإسلام نظامه عنها، وشكل ظهورها ونجاحها في الغرب تحولا تاريخيا نوعيا طاول جميع نظم السياسة، وجعلها ترى نفسها وتعيد إنتاج ذاتها بدلالته، لكونه ابتدع منظومة مفاهيم ومقولات ونظريات لم تعرفها النظم السابقة جميعها، وفي مقدمها النظام الإسلامي، السياسي والأيديولوجي، وأخذ بأشكال من التنظيم السياسي والاجتماعي ما كان الانتقال من العصر الزراعي ثم التجاري إلى العصر الصناعي لينجح بدونها، ارتكزت، بين أشياء أخرى، على العلمانية وما ترتب عليها من مواطنة وحقوق إنسان وديموقراطية ودولة تمثيلية/مدنية. السؤال هو : هل يمكن فعلاً إعادة إنتاج «النظام الإسلامي» في حاضنة هذا الانقلاب، الذي يمثل حقبة جديدة في تاريخ البشرية طبعت بطابعها وجود وثقافة الشعوب والأمم الأخرى؟ وهل يستطع النظام الإسلامي تجديد وتحديث دولنا ومجتمعاتنا وضمان لحاقنا بالعصر والانتماء إليه؟ وهل تكفي حرية التأويل الديني لـ: تحقيق انقلاب سياسي/ اجتماعي، مفهومي وعملي، يبقي من جهة على فرادتنا، ويمكننا من جهة أخرى من تحقيق ما سبق لغيرنا أن حققه من تقدم مادي وثقافي، ولكن عبر دروب خاصة بنا مختلفة عن دروبه؟
أصل الآن إلى لب الموضوع، الذي فيه مفتاح الإجابة على الأسئلة السابقة، وألخصه في السؤال التالي : هل صحيح أن العلمانية اقتصرت في الغرب على فصل الدين عن الدولة، أو الزمني عن الروحي؟ وهل صحيح أن حرية التأويل هي المفتاح في الإسلام؟ أعتقد أن العلمانية ليست مفهوما سياسيا إلا على السطح، أما في العمق، فهي مفهوم فلسفي/ ثقافي أحدث نتائج ثورية في الفكر والممارسة السياسيين، كما في الحركة الاجتماعية. فلسفياً، تعني العلمانية فصل الإلهي عن الإنساني، فصل المقدس عن الدنيوي، ورؤية الإلهي بدلالة الإنساني، عقب تاريخ طويل رأى الإنسان نفسه فيه بدلالة الإلهي، بتأثير الدين وسطوة الكنيسة كمؤسسة وسلطة. هذا التحول جعل الإنسان مركز ومحور العلاقة مع الله، فصارت مركزيته العامل الذي سيعين ويفسر سائر جوانب وجوده، بعد أن فتح الباب أمام نمو وتبلور نمط جديد من النظر أفضى إلى منظومة فكرية مفتوحة ومتكاملة، تشمل سائر مناحي وجود الإنسان وظواهره، وترى الله والطبيعة بدلالته.
هل هذه النظرة خاصة بأوروبا وحدها، ألا يتسع لها الإسلام ؟ أعتقد أن الجواب على شق السؤال الأول موجود لدى أرسطو، الذي يعرف الإنسان بالكلمات التالية: «ذات حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها». إذا قبلنا فكرة أن الإنسان يتعين بالحرية، بحريته، كان علينا الإقرار بأن الفكر الديني عامة والإسلامي خاصة لم يعرفه، وأن انتفاء وجوده يجعل الإسلام عاجزاً عن تحقيق نمط العلمانية الذي فصل الإنساني عن الإلهي والدنيوي عن المقدس، ورأى الإنساني والدنيوي في أولويته واستقلاليته المطلقتين.
يقدم الدكتور قرم حلاً لهذه المعضلة من طبيعة فقهية/ سياسية، يرى أنه سيفضي إلى العلمانية أو هو العلمانية في تجربتنا المختلفة عن التجربة الأوروبية. ولكن: ألا يشترك الإنسان عندنا مع إنسان أرسطو وأي إنسان آخر في كونه ذاتاً حرة تتعين بحريتها، أم أنه يجب أن يبقى متعينا بواحدة من تعييناته الموضوعية، أي إيمانه، الذي ليس، في فلسفة أرسطو، محددا أوليا، بل هو محدد ثانوي إن عيّناه من خلاله عجزنا عن رؤية الدين والله بدلالته، وعجز هو عن تحرير نفسه، بالعلمانية أو بغيرها، من الكنيسة. مشكلتنا في هذا «النموذج الإسلامي الفريد» أنه يحل المؤمن محل الإنسان، يعين الإنسان بالإيمان، فتنتفي المساواة بين البشر، والعلمانية تعني ـ بين أشياء أخرى ـ مساواة البشر، كما تنتفي السياسة كفاعلية تمكّن الإنسان، حسب تعبير لبيير مانيه في كتاب «مدينة الإنسان»، من أن «يقرر تلقي إنسانيته من نفسه، ويعمل على أن يكون خالق تكوينه الخاص»( 2).
ليس الإنسان الحر محور العقل السياسي والفلسفي الإسلامي الحالي، مع أن الله استخلفه هو، ولم يستخلف المؤمن أو المسلم في الأرض، بعد اكتمال الرسالة المحمدية، كما يخبرنا القرآن الكريم. بيد أن العقل الإسلامي السائد يجهل أو يتجاهل هذا للأسف، ويضع المؤمن فوق الإنسان، ويرفض وجود الأخير كاسم نوع مستقل عن صفاته، ويراه تحت حيثية وحيدة الجانب هي الإيمان، يعتبره متعيناً بها، وأراها ـ بفضل أرسطو ـ ثانوية وتسببت بجزء من الخراب الذي نعيشه، في الفكر والواقع، السياسة والمجتمع، العقل والروح… الخ.
هل يمكن بناء مفهوم إسلامي للعلمانية، إن بقي العقل الإسلامي مفتقراً إلى فهم للإنسان يرى فيه كائنا قوامه ذاته الحرة، منفصلا ومستقلا عن الإلهي؟ هل يمكن لحرية التأويل أن تفضي حقا إلى العلمانية، إن هي افتقرت إلى هذه الركيزة الفلسفية، التي أذكّر من جديد أنها أنجبت نمطاً جديداً من علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، وبالدولة والمجتمع، قامت على المواطنة والمساواة والعدالة والحرية والديموقراطية؟ ما هذه العلمانية التي ترفض فكرة المساواة بين البشر، وتضع المؤمن، في سائر أحواله، فوق الإنسان، إن كان غير مؤمن؟ وهل سيترتب فصل الدين عن الدولة بالضرورة على حرية التأويل، التي كانت متاحة طيلة قرنين تقريباً، لم ينفصل الدين عن الدولة خلالهما، ثم منعتها سلطة ما طيلة القرون العشرة الماضية، دون أن ينتقص منعها من اقتناع العقل الإسلامي السائد بامتلاكه أجوبة صحيحة على جميع أسئلة الوجود والواقع والفكر، وإيمانه بأن الحرية تستهدف تقويض عالم الإسلام الكامل وإخضاعه لعالم أوروبا: الكافر والناقص؟
أخيرا، هل فصل الزمني عن الروحي يعادل تماما فصل الدين عن الدولة، وهل يجوز أن نساوي بين الفصلين في السرد؟ أليس أمرا لافتا أن تطور العقل الإسلامي بقي مقاربا لتطور العقل الأوروبي حتى نهاية القرن الحادي عشر وربما أواسط القرن الثاني عشر، ثم افترقا، فتطور الثاني عبر معارك فكرية شتى داخل وخارج الكنيسة نحو العلمانية بمعناها الفلسفي ثم السياسي، في حين انتكس الأول ودخل في حالة همود وجمود جعلته يحظر الأسئلة ويتمسك بتأويل وحيد للنص (هنا مكمن المشكلة الحقيقية)، يرفض حق المسلم في أن يقوم بقراءته الخاصة له؟ ألم يتسبب هذا الاختلاف في افتراق المنهجين الفكريين ونشوء عالمين متباينين أشد التباين تفصلهما هوة تعاظمت حتى صارا بصورة متزايدة من زمنين وتاريخين مختلفين، ينتج أحدهما شروط تقدم لا قيد عليه ـ نعرف جميعا عيوبه ونواقصه ـ وثانيهما غربة متعاظمة عن التقدم والعالم، فيتقوقع أكثر فأكثر على ذاته، ويحبس نفسه في زمن مضى ومفاهيم تقادمت، يبدد جهوده ووقته في سعي فاشل لإعادة إنتاجها في حاضر تنتفي منه شروط وإمكانيات بعثهما، فلا يجد جوابا على هزيمته وغربته غير الخروج على زمنه ومنه، وإن بقوة السلاح.
أعتقد أن العلمانية مشكلة فلسفية/ فكرية ذات مضامين ونتائج اجتماعية وفكرية، قبل أن تكون مشكلة سياسية. أما جذرها فلا يكمن في علاقة الدين بالدولة، بل في علاقة الإنساني بالإلهي، وما يمكن أن يترتب عليها من ثورة ثقافية متنوعة المنطويات غنية المضامين، تفضي إلى إعادة إنتاج السياسة والمجتمع والاقتصاد في حاضنة مفتوحة مركزها الإنسان بما هو ذات تتعيّن بالحرية. إذا لم نمتلك هذا الأساس الفلسفي/ الفكري، الذي ليس معادياً بالضرورة للدين أو لرجاله، ولم ننجز هذه الثورة الثقافية الشاملة والعميقة، التي ستجسر الهوة بيننا وبين عصرنا، وستضعنا فيه وستجعلنا منه، فإن أي تدبير سياسي أو إجرائي سيكون ناقصا، لن يلبي حاجتنا إلى حال تجعل «الشأن السياسي حقيقة نسقنا البشري، والديموقراطية حقيقة شأننا السياسي، وطاعة القانون، الذي نعطيه لأنفسنا، حقيقة ديموقراطيتنا»، كما يقول بيير مانيه !
المراجع :
1 ـ تاريخ لأفكار السياسية. تأليف جان توشار وترجمة ناجي الدراوشة. إصدار وزارة الثقافة، دمشق عام 1984. الجزء الأول، صفحات مختلفة .
2 ـ مدينة الإنسان، تأليف بيير مانيه، ترجمة فاطمة لجيوشي. إصدار وزارة الثقافة، دمشق 1972، صفحات مختلفة .
السفير