من مفهوم الدين «الصلب» إلى مفهوم الدين «الليّـن»
ياسين الحاج صالح
في تصوره المهيمن، الإسلام «دين صلب». نعطي لهذه العبارة معنى يفيد أن علاقة كل من الدولة والأمة والعلم والأخلاق والقانون بالدين علاقة ضرورية تنبع من مفهوم الدين ذاته، وليست تاريخية أو عارضة. ندافع، بالمقابل، عن تصور «لين» للإسلام، تترتب علاقته بالميادين الخمسة المذكورة على الاستقلال المتبادل، الأمر الذي من شأنه أن يتيح تطور هذه الميادين، ويفتح آفاق تحرر أوسع لمجتمعاتنا، ويكون أيضاً أساس استقلال مفاهيم الاسلام ذاته واستقرارها. ونرى أن هذا الترتيب هو جوهر عملية إصلاحية واسعة، تعطي معنى لاختلاجاتنا الدينية والسيكولوجية والسياسية الجارية منذ أكثر من جيل، ويعول عليها للخروج من حالة الاختناق الذاتي التي نعيشها منذ أكثر من جيل أيضاً.
تنال العلاقة بين الديني والســـياسي اهتماماً واسعاً. العلمانية هي الاسم المكرس للفصل بين الدين والدولة الذي يوسعه بعضنا ليجعله فصلاً بين الدين والســياسة. لا مسوغ لهذا التوسيع. المهم في الأمر الفصل بين الدين والسيادة، بما هذه هي الولاية العامة واحــتكار العنف. أي بين الدين والدولة كمقر حصري للسيادة. تبقى ولاية الدين خاصة، محصورة بالمؤمنين الراغبين، ومفصولة عن الإكراه. والأساس في هذا الترتيب أنه ليس هناك تصور موحد لمفاهيم الإسلام يضمن حرية الاعتقاد، وهي مقوم ذاتي للدين، من دون فصــله عن السيادة والدولة. لا ريب أنه تقف دون ذلك مشكلات تتصل بجـــوانب من الشـــريعة، الحدود بخاصة، كانت مدخل الفـــقهاء إلى القول بوجوب الدولة والحاكم. لكن لذلك هذه قضية أساسية في أي تصور للإصلاح الإسلامي.
الميدان الثاني ميدان العلم. يمنح إسلاميون متنوعون الدين ورجاله سيادة معرفية تُحكِّمه في معارف متحصلة من علوم تجريبـــية، هنـــاك أيضاً صـــيغة بعدية، تتـــمثل في عقـــيدة «الإعجاز العلمي». تظهر نظرية علمية أولاً، وتفوز بالـــشرعية في مجالها، ثم يأتي إسلاميون لا دراية لهم بالمـــجال العلمي المعني، فيجدون لها أصلاً في المتون الدينية الإسلامية. هذا يضع الدين في موقع التابع المنفعل للتطور العلمي، الحائز وحده على زمام المبادرة والاكتشاف. وهو أيضاً يفسد الوجداني الديني لأنه يتطفل على عمليات لا فضل له فيها. بل إن الرؤى تلك تستتبع الدين لما هو دنيوي وتاريخي ونسبي، فتلحق به الضرر فوق إضرارها بتطور العلوم نفسه. العلم لا يتطور إن لم يكن سيد نفسه.
والنقطة الأساسية هنا أن الدين والعلم لا يتنافسان على المنزلة الأبستمولوجية نفسها، الأمر الذي إذ يحول دون استتباع الدين للعلم، يحول أيضاً دون استتباع العلم للدين.
الميدان الثالث ميدان الأخلاق. يتعلق الأمر هنا بالعلاقة بين القيم الأخلاقية والأوامر والنواهي الدينية. هناك محرمات دينية، لا يكتمل إيمان المؤمن من دون الامتثال لها، يعترض الضمير الأخلاقي الحديث، وهو مؤسس على الإنسانية وعلى الحرية، على إلزامات دينية متنوعة. من جهته، التفكير الإسلامي المعاصر لا يرفض استقلال الأخلاق عن الدين، بل يبدو أنه لا يتصور أخلاقية غير دينية. والانحياز المهمين في المجال الإسلامي هو أن لا أخلاق خارج الدين، الأمر الذي يعززه افتقار حداثتنا الواقعية إلى نظام معياري فعال. لكن هذا يؤدي إلى تصور بالغ المحافظة والجمود للأخلاق، هو ما تصدر عنه تلك الأحكام الشائعة عن الانحلال الغربي، وهو في جذر التوجس مما يمثله متشددون إسلاميون من خطر على الحريات الاجتماعية في بلداننا ذاتها.
هنا أيضاً ليس للدين والأخلاق المكانة «الأكسيولوحية» (القيمية) نفسها. من شأن الإقرار بهذا أن يضمن علاقات تعايش سلمي بين الدين وأخلاقية الضمير الفردي. لكن هل هذا ممكن من دون إعادة بناء الدين على الأخلاق، على ما ينسب إلى كانط أنه فعل في السياق المسيحي الأوروبي؟
الميدان الرابع هو ميدان الحقوق. أي استقلال ميدان الحقوق والقوانين عن الشريعة والفقه. يعتقد عبد الكريم سروش، المفكر الإسلامي الليبرالي الإيراني المعاصر، أن الإنسان المحق (المعرف بحقوقه) هو ما يميز العالم الحديث عن العالم ما قبل الحديث الذي تميز بالإنسان المكلف. هذا الأخير، يقوم بواجباته الدينية، ويحظى بالثواب الإلهي، أو يجحد فيعاقب، لكن النظام القانوني ليس مبنياً على حقوقه. وتبدو فكرة حقوق الإنسان في الإسلام، وقد صدر لها ميثاق في ثمانينات القرن العشرين، توفيقاً شكلياً بين الإنسان المحق والإنسان المكلف. ومعلوم أنها ظلت معدومة التأثير على الحياة الواقعية.
الميدان الخامس هو الأمة وتعريفها أو هويتها. الأمة اليوم غير إسلامية في أي من بلداننا إلا بمعنى وصفي. هذا بفعل تغير تاريخي أساسي، تحوّل فهم العقيدة إلى طائفة اليوم في أي من بلداننا، ولم يعد «الأمة». ولا يبدو أن لدى الإسلاميين مفهوماً متسقاً يجمع بين مفهوم «الأمة الإسلامية» وبين المساواة بين السكان، مما لا يستقيم اجتماع سياسي حديث من دونه. ويتمثل التحول التاريخي المشار إليه في تكون مجال عالمي واحد، لا يزال يحوز طاقات تطورية وإنسانية كبيرة، وإن يكون اليوم في أزمة. وفي هذا السياق يحتاج الفكر الإسلامي إلى تطوير مفهوم حول العالم كمصلحة عامة.
الفصل بين الأمة الدينية والأمة السياسية ينفتح على صيغة دستورية من الإسلام السياسي من نوع حزب العدالة والتنمية التركي. الإسلام هنا منسوب إلى الأمة السياسية السيدة ومكون لشخصيتها، وليس العكس.
انكسار التطابق بين فهم الإسلام وكل من الدولة والأمة والعلم والأخلاق والحق محقق في جميع بلداننا. ما ليس محققاً هو دولة مواطنة تقيم ولايتها العامة واحتكارها للعنف على المساواة بين السكان، وهو علوم تتطور وتحرص على استقلالها وسيادتها، وهو أخلاقية متسقة تؤسس على حرية الأفراد صيغ انضباط جديدة والتزامات جديدة، وهو نظام حقوقي يجمع بين العدالة الجوهرية وبين عمومية قواعده، وهو أخيراً أمة متضامنة متآخية. من هنا حالة الفوضى العامة والاضطراب الشامل الذي نعيشه اليوم. السيادة الدينية متراجعة (وقد يكون منبع العنف الديني تراجعها وليس صعودها)، من دون أن تتكون سيادة جديدة على أي من المستويات التي ذكرنا.