قمّة الإنماء الالفية: أي فقر تعالجه سياسات الإفقار؟
صبحي حديدي
كلما انقضت ثلاث ثوانٍ ونصف، من زمن البشرية المعاصرة، يموت شخص جوعاً، تحديداً، أي ليس بسبب المرض أو الكوارث الطبيعية؛ وفي صفوف الأطفال، حسب إحصائيات الـ’يونيسيف’، يموت 22 ألف طفل يومياً: ‘بصمت، في بعض أكثر قرى البسيطة فقراً، بعيداً عن مرأى الضمير العالمي’. أرقام أخرى تقول إنّ مليار آدمي يعيشون على أقلّ من 1.25 دولار يومياً، وقرابة 2,56 مليار على أقلّ من دولارَيْن، و5.05 مليار (أكثر من 80 في المئة من تعداد سكان العالم) على أقلّ من 10 دولارات. في المقابل، أقلّ من 1 في المئة ممّا ينفقه العالم على التسلّح كلّ سنة، كان يكفي لتأمين المدارس لكلّ أطفال العالم الأمّيين، وذلك منذ سنة… 2000!
تلك، بالطبع، هي السنة الشهيرة التي شهدت دخول الإنسانية في ألفية جديدة، وخلالها عقدت منظمة الأمم المتحدة القمّة الكونية المعروفة، التي تبنّت إعلاناً هائل الطموح، يهدف إلى تخفيض معدّل الفقر العالمي إلى النصف، عند حلول السنة 2015. الأغراض الأخرى، التي ستُعرف باسم ‘الأهداف الإنمائية للألفية’، تضمنت القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتحقيق تعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتخفيض معدّل وفيات الطفل، تحسين الصحة النفاسية (الرعاية قبل الولادة، وتنظيم النسل…)، ومكافحة فيروس نقص المناعة (الـ’إيدز’)، وكفالة الإستدامة البيئية (شؤون فقدان الموارد، وفقدان التنوّع البيولوجي، وربط التنمية المستدامة بسياسات طويلة الأجل…)، وإقامة شراكة عالمية.
أهداف كبرى، لا ريب، ومن أجل رصد نتائج تحقيقها على الأرض دعا الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أكثر من 140 رئيس دولة وحكومة إلى اجتماع ‘رفيع المستوى’، شهدته نيويورك قبل أيام، تحت لافتة تعلن أنه ‘لا يوجد مشروع عالمي أكثر قيمة من هذا’، كما تطالب: ‘فلنرسلْ رسالة أمل قوية. ولنفِ بالوعد’. وبالفعل، تقاطرت الرسائل وتعاقبت، ومثلها تدافعت الوعود وتزاحمت: روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، أعلن مبلغ 750 مليون دولار لتحسين التعليم في بلدان الفقر المدقع، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زاود عليه بـ 1,4 مليار دولار لـ’الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسلّ والملاريا’، ورئيس مفوضية الإتحاد الاوروبي جوزيه مانويل باروزو أعلن أنه يحاول تأمين مساعدة بقيمة 1.3 مليار دولار…
المشكلة أنّ السخاء ظلّ إسمياً، في المستوى العملي، منذ انطلاق أحلام الأهداف الإنمائية تلك، وما خلا خمس دول فقط (السويد والنروج واللوكسمبورغ والدانمرك وهولندا) لم تبلغ أيّ من الدول المصنّعة الكبرى معدّلات الحدود الدنيا المطلوبة منها للإسهام في تحقيق تلك الأغراض، او الوقوف على عتبة ملموسة تضمن المسير على دروب تحقيقها. الولايات المتحدة، القوّة الكونية الأعظم، لا يُعرف بعد متى ستتضح برامجها (وليس متى ستفي بالتزاماتها!) في البرنامج الألفي؛ ومقابل 112 سنتاً تقتطعها السويد من كلّ 100 دولار في الإنفاق العام، لا تقتطع أمريكا سوى 20 سنتاً، وبالتالي فإنّ أحداً لا يستطيع التنبؤ حول عدد السنوات التي تحتاجها واشنطن لكي تبلغ السنة 2015!
النتيجة هي أنّ العجز بين الوعود الإسمية للمانحين، وما يصل فعلياً إلى صناديق التنمية في بلدان الفقر المدقع، وصل إلى 20 مليار دولار أمريكي هذا العام، ومن المتوقع أن تقتضي الحاجة توفير 175 مليار دولار خلال السنوات الخمس التالية! المفارقة، المأساوية تماماً في الواقع، هي أنّ أصحاب الوعود يواصلون إغداقها على الفقراء، في حين أنّ نسبة الفقر لا تتراجع أبداً، بل هي لا تراوح حتى عند معدّلاتها السابقة على انبلاج فجر الألفية، بل تتزايد أكثر فأكثر. وفوق هذا وذاك، ثمة ألعاب سحرية تكتنف الأرقام الإسمية ذاتها، كما حدث حين خصّص الإتحاد الاوروبي نسبة 11 في المئة من المساعدات لقطاع التعليم في سنة 2005، فلم يصل منها فعلياً سوى 5.7 بالمئة. أين ذهبت بقية المساعدات؟ وهل يجوز، والحال هذه، الطعن بمصداقية التقارير التي تصدر بين حين وآخر عن منظمات غير حكومية، حول تحويل جزء من المساعدات العلنية إلى معونات مستترة ذات أغراض أمنية وسياسية صرفة، لا تخدم الشعوب بقدر ما تديم أنظمة الإستبداد والفساد، هنا وهناك على امتداد جغرافيا الفقر؟
لكنّ الفقر سياسة، مثله في ذلك مثل الاقتصاد البسيط والاقتصاد المعقد والتنمية المؤقتة والتنمية المستدامة، ولهذا فإنّ تحقيق أيّ تقدّم في تنفيذ الأغراض الألفية ليس وثيق الارتباط بسياسات الدول والشعوب المعنية بالإنماء فحسب، بل كذلك بسياسات الدول والشعوب التي تتعهد بالمساعدة على الإنماء. ولأنّ تلك الأغراض جُرّدت من السياسة على نحو مثالي (يرى الكثيرون أنه كان متعمداً، وجزءاً لا يتجزأ من شروط اللعبة بين الشمال الغنيّ والجنوب الفقير)، وجرى استسهال فصل الأنظمة عن برامج التنمية، وكأنّ المناخ السياسي الصحيّ ينطبق على الجميع؛ فإنّ تلك الأغراض لم تكن واقعية، وبالتالي كانت غير قابلة للتطبيق، أو لقطع أشواط واسعة في تطبيقها، على الأقلّ. كذلك تجاهل الجميع (مصادفة، هنا أيضاً، أم عن سابق قصد وتصميم؟) حقيقة أنّ تنفيذ تلك الأغراض يُطرح على مستوى كوني (تختلط فيه، عدا الدول، مؤسسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والمنظمة الدولية للتجارة، والمنظمات الدولية للأمم المتحدة…)، في حين أنّ أفضل خطط التنمية الوطنية هي تلك التي تقوم على ركائز محلية أوّلاً.
وفي سنة 2000 كانت ‘القمّة الألفية’ قد استضافت واستمعت إلى خُطَب أكثر من 150 زعيم دولة، دارت جميعها حول ردم ما يمكن ردمه من هوّة شاسعة بين الفقراء والأغنياء، وحول تحسين عمل منظمة الأمم المتحدة بعد مرور 55 سنة على تأسيسها، فضلاً عن تلمّس حلول (غير مباشرة، كما قيل!) لمشكلات هذا الغامض الكبير الراهن والمستقبلي الذي يُدعى العولمة. كانت الأجندة هائلة، ولم يكن يفوقها وعداً بالهائل العجيب سوى تلك السلسلة من التعهدات التي كان الأمين العام للمنظمة آنذاك، كوفي أنان، قد حثّ قادة العالم على الإلتزام بتحقيقها. ولأنّ الحلم مشاع لكلّ حالم، كما كان الأمل مجازاً في تلك الأيام الألفية، فقد استبصرت القمّة تخفيض عدد الذين يعيشون على أقلّ من دولار أمريكي يومياً إلى النصف، وتأمين مياه الشرب النظيفة إلى هذا النصف ذاته من شعوب الأرض، وتأمين التعليم الإبتدائي (إلى جميع أطفال العالم، هذه المرّة)، وإظهار التصميم على وقف انتشار مرض الـ’الإيدز’ والفوز في معركة الوقاية منه… على أن يتمّ ذلك كلّه بحلول العام 2015!
لكن السياسة ظلّت تخيّم على كواليس القمّة، وتهيمن مفرداتها ـ على خفر تارة، وعلى علانية طوراً ـ في تلك الخطب الفارقة المحورية التي ألقاها بعض كبار النظام العالمي الراهن. بيل كلنتون، رئيس الولايات المتحدة الذي كان يرى بلاده رئيسة الكون بأسره، توقف بدوره عند هذه الاجندة الهائلة، ولكنه ذهب مذهباً مختلفاً عن جميع أقرانه زعماء العالم حين تذكّر أولويات الولايات المتحدة وذكّر بها، وحين اختار التركيز على مسألة واحدة بعينها: واجب التدخّل في الشؤون الداخلية للأمم والشعوب تحت ذريعة حماية الأبرياء. وعلى امتداد أكثر من فقرة واحدة في خطابه كان ضمير الـ ‘نحن’ يخرج عن مدلول تمثيل العالم والرهط المجتمع في القاعة، فيتماهى أكثر فأكثر مع مدلول تمثيل أمريكا وحدها، وإقامة الثنائية العتيقة الشهيرة دون سواها: ‘نحن’ و’هم’.
‘منذ خمس وخمسين سنة تأسست الأمم المتحدة لإنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب. واليوم، أكثر من أيّ يوم مضى، يجتمع في هذه القاعة أناس مخوّلون بتنفيذ ذلك الهدف. إننا اليوم نجد حروباً أقلّ بين الأمم، ولكننا نجد حروباً أكثر داخل هذه الأمم. مثل هذه النزاعات الداخلية، المندلعة غالباً بفعل خلافات إثنية ودينية، أودت بحياة خمسة ملايين في العقد الماضي، كان معظمهم ضحايا أبرياء’. هل نسكت، بذريعة الحفاظ على مبدأ السيادة؟ تساءل كلينتون بعد الفقرة التي تعرض لحال بعض العالم، ثم تتكىء على هذه الحال المنتقاة، لفرض واقع الحال على الجميع. الولايات المتحدة لم تسكت، في كلّ حال، وكان المثال الحيّ عندئذ هو يوغوسلافيا، والمثال السابق (واللاحق، عمّا قريب) هو العراق. وفي المثالين، تابع كلينتون، وضعت الأمم المتحدة مسوّدة لما يتوجب القيام به، ولم تكن مصادفة أن تلك المسوّدة كانت متطابقة مع ‘قراراتنا’ و’قِيَمنا’… نحن، الولايات المتحدة الأمريكية!
وقبل أشهر قليلة سبقت تلك القمّة كانت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأسبق، قد وقّعت مقالة شهيرة بعنوان ‘اختبار السياسة الخارجية الأمريكية’، نُشرت في في مجلة ‘فوريين أفيرز’، اعتبرت فيها أنه باستثناء الأسابيع الستّة التي شهدت حرب الخليج الثانية، كان ‘السلام الأمريكي’ قد هيمن، وصبر، وظفر. المطلوب، تلميحاً لا تصريحاً، هو المزيد من الهيمنة والصبر إزاء الجوع والفقر، في انتظار المزيد من الظفر. لكنّ العالم في نظرها ليس واحداً، بل أربعة عوالم: الأعضاء الأصلاء في النظام الدولي؛ والأعضاء الذين يعيشون حال انتقال إلى النظام الدولي؛ والأعضاء غير المنتسبين إلى ذلك النظام، من الضعفاء والفقراء والغارقين في نزاعات إثنية وأهلية؛ والأعضاء غير المنتسبين بدورهم، ليس لضعف أو فقر أو حروب داخلية، بل لأنهم عصاة مارقون أبالسة أشرار. وثمة، استطراداً، فقر وغنى، وجوع وتخمة، وقوّة وعجز… لكلّ عالم من هذه العوالم!
وبالعودة إلى لغة الإحصائيات، ثمة الكثير الذي يؤكد اتساع الهوّة بين العوالم. ففي عام 1996، صبيحة افتتاح ‘القمّة العالمية للأغذية’ في العاصمة الإيطالية روما، كانت الإحصائية التي جثمت فوق صدور المؤتمرين هي التالية: ميزانية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الـ ‘فاو’) أقلّ ممّا تنفقه تسعة من البلدان المتقدّمة على غذاء القطط والكلاب، لمدة ستة أيام؛ وأقلّ من 5 في المئة مما ينفقه بلد متقدّم واحد على منتجات التنحيف وإنقاص الوزن. بعد ستّ سنوات، وفي الدورة الثانية للقمّة ذاتها، ظلّ الـ 800 مليون جائع جائعين بالشروط ذاتها، بل أخذوا يعانون الجوع بشروط أسوأ ربما. وفي قمّة جوهانسبرغ 2002، كانت الإحصائيات تقول إنّ الدَيْن الخارجي للدول النامية ارتفع من 90 مليار دولار في سنة 1970، إلى 2000 مليار دولار في نهاية القرن؛ والأسعار الفعلية للمواد الأساسية التي تنتجها الدول النامية، بما في ذلك النفط والغذاء والمواد الأولية، انخفضت بنسبة 50 في المئة خلال العقدين الأخيرين.
ثمة، إذاً، تنازع بنيوي شامل، لكي لا نتحدّث عن هوّة مادّية شاسعة واسعة، ليس لها من حلّ منظور، ولا ملموس، ما دامت أعراف النظام الرأسمالي العالمي تقتفي الدروب القديمة ذاتها، في مكافحة الفقر عن طريق سياسات الإفقار. وليس عجيباً، بالتالي، أن تتحوّل هذه القمم إلى جعجعة بلا طحن، حول أغراض أين منها مجتمعات الطوبى، حيث الأبراج عاجية والآذان صمّاء تماماً عمّا يدور في الشارع من صخب وعنف وفاقة.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –