صفحات العالم

سقى الله ايام استبداد المماليك.. متى نرى البلاد العربية متحررة من طبائع الاستبداد؟

فرج بو العَشّة
قد يعزو البعض فشل النهضة العربية وإمعان النظام العربي الرسمي في طبائع استبداده الشرقي، إلى وجود السرطان الكولونيالي ـ الامبريالي في صورته الصهيونازية، الذي زرعته بريطانيا ثم رعته الولايات المتحدة الأمريكية ونمته حتى صار وحشاً نووياً مستقلا بذاته، بل متحكماً بالسياسة الأمريكية الخارجية في ما يتصل بالشرق الأوسط.
وفي رأيي أن وجود إسرائيل، وفي سياق الصراع التاريخي معها الذي لم ينقطع منذ نشأتها، مثّل ولا يزال وخزاً مستديماً مؤلماً في الوعي التاريخي للعرب من جهة، ومُحفِّزاً على طلب أسباب القوة (الصلبة/الناعمة) لمحاربة مشروعه الصهيوني من جهة أخرى.وطلب أسباب القوة (الصلبة/الناعمة) يشترط استحقاق ضرورات النهضة في مجمل سياقاتها: التنوير الفكري العقلاني، التقدم العلمي، التطور الاقتصادي. وفي مركز هذه الاستحقاقات استحقاق الدولة الديمقراطية. وهي الضرورات النهضوية التي، وإن لم تُنجز استحقاقاتها بالتمام، لا تزال ضغوطاتها تواصل تجذير أسئلتها التنويرية وتفعيل حركيتها التغييرية، رغم محدودية قدرتها المجتمعية (عواما ونخبا) على تحقيق الخلاص التام من أنظمة الاستبداد وطبائعه كمقدمة تاريخية تأسيسية للدولة الديمقراطية.ولكن ماذا لو لم تكن إسرائيل موجودة بقوة الغرب في وجود أنظمة عرب الاستبداد والتبعية؟ ـ ربما كانت وضعية النهضة العربية، التي انبثقت مع إصلاحات محمد علي وتألقت مع المشروع القومي التحرري بقيادة عبد الناصر، أكثر فعالية وأعمق تنويرا، وأسرع تحولا. إذ أن مواجهة الوجود الصهيوني استنزفت طاقات الشعوب العربية ومقدراتها وإمكانياتها، وتحديداً، في الحواضر النهضوية: (مصر، سورية، لبنان، فلسطين والعراق) واستخدمت مبررا لترسيخ حكم الاستبداد وإدامته، بأشكال أنظمة الحكم العربية المختلفة: ملكية أميرية سلطانية أو جمهورية أو جماهيرية.لكن، وبغض النظر عن مسألة وجود إسرائيل من عدمه، فإن المعوّق المركزي لاستحقاق العرب نهضتهم الحداثانية، كبقية معظم أمم الأرض، كان ولايزال كامناً في قصورهم عن حسم معركتهم نهائيا مع طغاتهم.
إن الشعوب العربية، عامة ونخباً، غير المنخرطين في مشروع الأصولية الهستيرية، يدركون، بوعي سياسي نافذ، أن طغاتهم متسلسلي الاستبداد هم أصل الداء الذي أجهض نهضة الرواد العظام. كما أنهم، بخنوعهم المهين للقوى الأجنبية (بريطانية ـ فرنسية، ثم أمريكية) كانوا العامل الجيوسياسي المركزي وراء ترسيخ دولة إسرائيل التي كان من الممكن التخلص من مشروعها الصهيوني مبكراً عند قيام دولته لو كانت شعوب الطوق حول فلسطين حينها ممسكة بزمام أمرها التحرري. وهم، الطغاة العرب متسلسلو الاستبداد والتبعية، الذين عملوا كل ما يقدرون عليه، بالتنسيق مع سيدهم الفرنجي، على اجهاض مشروع عبد الناصر القومي التحرري النهضوي وما ضخه من فعالية قومية نهضوية متصلة بنهضة الرواد الأوائل، حتى تحقق لهم ما أرادوا في هزيمة حزيران/يونيو 67، من دون إعفاء ناصر من مسؤوليته. وهكذا مع السادات، الذي آل حكم مصر إليه، بعد وفاة قائد الأمة في اليوم التالي على إيقافه لحرب ‘الملك الهاشمي’ على المقاومة الفلسطينية، سرعان ما دخلت المنطقة في ‘الحقبة السعودية’، وما أدراك ما ‘الحقبة السعودية’ وبترودولاراتها. ورغم نصر تشرين الاول/أكتوبر العسكري الباهر وإن كان جزئيا، سلّم السادات بأن تسعة وتسعين في المئة من أوراق الحل بيد أمريكا التي هي بيد إسرائيل، لينتهي به الأمر إلى الهبوط مُسالماً في مضارب بني صهيون. واليوم بعد مرور قرابة ثلاثين عاما على تسلم حسني مبارك تحولت المحروسة، التي كانت في عهد ناصرها (حبيب الملايين) عاصمة الممانعة القومية والريادة النهضوية، الى دولة أمن مركزي (تضاعفت ميزانية وزارة الداخلية من 300 مليون جنيه العام 1981 إلى أكثر من عشرة مليارات جنيه العام 2006، بينما انخفضت ميزانية التعليم من 5.5′ إلى 3.4′) يديرها لواء طيار سابق، قزّم دور مصر القومي القيادي في نطاق أدائي وظيفي لموجبات الاستراتيجية الأمريكية للهيمنة على حاضر العرب ومستقبلهم.وهي الموجبات التي اقتضت ابتكار ما يسمى بـ’محور المعتدلين العرب’ المراهن عليه أمريكياً وإسرائيليا بالضرورة. أي ‘محور الساداتيين’ المسلمين بالتسعة والتسعين في المئة من أوراق الحل والربط بيد أمريكا. إلا أن طغاة ‘محور الاعتدال’ وجدوا أنفسهم يواجهون قوى ممانعة ومقاومة عربية مضافا إليها قوة إيران الإسلامية، وإليها عودة تركيا، قادة وشعبا، بروح عثمانية للعب دورها التاريخي القيادي في لمنطقة. وهم (طغاة محور الاعتدال) خاب رهانهم على حرب إسرائيل للقضاء على حزب الله وعلى حربها الفسفورية للقضاء على حماس. ولم يكن رهانهم صامتا، بل كان صاخباً في تواطئه المفضوح مع عدو الأمة من خلال تبريرهم المعلن للعدوان الإسرائيلي وتحميلهم المسؤولية لقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وإشهارهم العداء لسورية، وإظهارهم لإيران خطراً على العرب أكثر من إسرائيل. ورغم خيبة رهاناتهم على التخلص من حزب الله وحماس ومحاصرة سورية وضرب إيران، فإنهم ما زالوا ماضين في امتثالهم لرغبات السياسة الأمريكية وأداء الأدوار المناطة بهم في تنفيذ أجندتها، بخصوص تسوية القضية الفلسطينية عن طريق المفاوضات ورفض حق الفلسطينيين في المقاومة. وترك العراق للذئاب على رأي طارق عزيز.
وتبني تحالف قوى 14 اذار الجامع بين آل الحريري وسنته (برعاية سعودية) ومعهم مخلفات المارونية السياسية الانعزالية، لمواجهة حزب الله وحلفائه الوطنيين وأبرزهم التيار الوطني الحر. والاشتغال المخابراتي، بالشراكة بين مخابرات محور الاعتدال والسي آي أيه، على إشاعة مناخ إعلامي من الفتنة المذهبية: السنية/ الشيعية، لخلق مناخ من العداء المذهبي الغوغائي الُعصابي عند الشعوب العربية السنية ضد الفرس الشيعة، كتغطية لتبرير انخراط دول ‘محور الاعتدال’ في المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي لضرب إيران عسكريا. ويمثل ‘محور الاعتدال’ الدول العربية التي رفضت حضور قمة غزة في الدوحة. وترتكز قيادته على النظام المصري والسعودي وإليهما النظام الأردني باعتبار خصوصية موقعه الجيوبولتيكي ودوره السياسي الوظيفي القديم ـ الجديد، في إطار علاقته القديمة ـ الجديدة مع المهيمن الأمريكي وابن العم اليهودي، في التعامل مع القضية الفلسطينية لاسيما بعد اتفاقية ‘وادي عرفة’ ثم وقد أصبح عباس حاكم المقاطعة… والحال أن حال الأمة ما كان ليكون على هذا النحو من الهوان المهين لو كانت شعوبها متحررة من طغاتها العرب المستنسخين في صور سفيهة عن معاوية، مع الاعتذار لمعاوية فقد كان مستبداً عظيماً يقود إمبراطورية متعاظمة في نشوئها المطرد، علاوة على أن معطيات عصره التاريخية لم تكن تطلب منه إلا أن يكون على نحو صورته التي كان عليها.أما طغاة العرب اليوم فهم فضيحة شعوبهم الخانعة التي كأنها لم تغادر ‘مقدمة ابن خلدون’.
والخلاصة: هل من المحتمل أن نحتفل في إحدى السنوات القريبة القادمة بمئوية وفاة النهضوي السوري، عبد الرحمن الكواكبي العظيم، كما يليق بذكراه في بلاد عربية متحررة من طبائع الاستبداد، وتكون مصر الديمقراطية الحقانية الأولى المحتفى بها. ليس فقط لأن الكواكبي عاش ومات فيها، إنما لأن لا ديمقراطية عربية حقيقية بدون مصر. مع وجوب تقديم فروض التقدير والاحترام للشعب الموريتاني الذي أجبر العسكريين في محاولتين انقلابيتين على صياغة النظام السياسي وفق آليات ديمقراطية تلبي إرادته الشعبية. أما الديمقراطية اللبنانية فإنها تبقى، للآسف، رغم حيوية شعبها النهضوي الخلاق مشوهة بأمراضها الطائفوية…. فلننتظر إذن مصر ما بعد حسني مبارك. فإذا آل حكمها إلى وريثه المشاع جمال مبارك تكون السفاهة الطغيانية العربية قد تفوقت على نفسها. ويصبح من المنطقي أن يرث ابن الكولونيل الأخضر حكم المزرعة الجماهيرية، ويواصل ابن عقيد اليمن إصدارالتصريحات للطائرات الأمريكية بلا طيار واعتبار الحوثيين الذين هم من صميم الشعب اليمني غزاة أجانب تستدعي محاربتهم الاستعانة بجيش آل سعود، وينحصر احتمال وراثة حكم بن علي لتونس في زوجته أو أخيها، ولا يملك عبد العزيز بوتفليقة في جعبة نسله سوى أخيه الذي لا يُعلم عنه شيئاً… فأي أمة هذه يستهلك مصيرها، بشعوبها وثرواتها ومقدارتها، طغاة مستبدين فاسدين من بني جلدتها… بحيث سقى الله استبداد المماليك، فهم على الأقل صدوا غزو المغول والتتار وهزموهم بحيث لم يجدوا مخرجا لهم للحضور في التاريخ إلا باعتناق الإسلام، وطهروا الشرق العربي نهائيا من الوجود الصليبي.
‘ كاتب ليبي
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى