كيف ربطت سوريا مستقبل لبنان بمستقبل العراق ؟
سليم نصار
بسبب ازدياد حال الفلتان السياسي والأمني، وضمور نفوذ الحكومة وسلطة الدولة في لبنان، تضاعفت أعداد المهاجرين من مختلف المناطق، كأن البلد الصغير يتعرض لموجة هجرة جماعية لا تقل حجماً عن الهجرات الجماعية السابقة.
ومع أن عملية تبادل التمثيل الديبلوماسي بين دمشق وبيروت، قد كرست استقلال الواحدة عن الاخرى، إلا ان انشغال سيد “قصر الشعب”، باستقبال السياسيين اللبنانيين يؤكد إحياء عهد الوصاية السورية التي استمرت 29 سنة.
خلال زيارته الرابعة لدمشق (2010/6/15) سمع الرئيس ميشال سليمان من الرئيس بشار الاسد كلاماً مطمئناً مفاده “ان سوريا تدعم موقع الرئاسة وترى فيه ضمانة للسلم الداخلي اللبناني”.
وتوقع سليمان ان تجيّر سوريا دعمها المعنوي الى اللجنة التحضيرية المشتركة، أو الى هيئة المتابعة والتنسيق بحيث تُستكمل الاجراءات المؤدية الى ترسيم الحدود البرية والبحرية بين البلدين.
كما توقع أيضاً أن تساهم حكومة الاكثرية برئاسة سعد الحريري، في تعزيز التعاون مع فريق 8 آذار، الامر الذي يهيئ لقيام قوة قادرة على منع الانهيار عن الدولة والمجتمع.
ولكن الاحداث المتراكمة طوال أشهر الصيف، ضاعفت من حجم الفوضى السياسية، وزادت من اعداد القاصدين دمشق بهدف الاستقواء بنفوذها والاستعانة بمساندتها ضد أجهزة الدولة الشرعية.
ولم تبخل سوريا بتبني طروحات أصدقائها، – لا فرق أكانوا محقين أم مخطئين – وذلك لاسباب تتعلق بسلوك فريق من اللبنانيين معها، اضافة الى سلوك الاسرة الدولية عقب التجديد للرئيس السابق اميل لحود.
فقد رأت الولايات المتحدة وفرنسا في حينه، – وحتى ايران محمد خاتمي – ان التجديد للحود يخالف ارادة الغالبية البرلمانية ويؤسس لخلاف داخلي. لهذا السبب تمت صياغة القرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن بسبعة بنود أهمها: أولاً- حلّ الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وتجريدها من سلاحها وبسط سيطرة الدولة على كامل أراضيها واحترام سيادة لبنان وسلامة أراضيه ووحدته واستقلاله السياسي واجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة. ثانياً- يطلب من الحكومة السورية الاستجابة للحكومة اللبنانية، والعمل على ترسيم الحدود، خصوصاً في المناطق التي تعاني من غموض حول الحدود المتنازع عليها، واقامة علاقات تمثيل ديبلوماسي كامل. ثالثاً- يناشد مجلس الامن الحكومة السورية اتخاذ تدابير تحول دون الاستمرار في نقل الاسلحة الى الاراضي اللبنانية.
ومع ان أهم بنود القرار 1559 قد نُفذت لجهة الاعتراف بسيادة لبنان، واقامة علاقات ديبلوماسية مع حكومته المستقلة نظرياً، بيد ان التطبيق لم يبدأ إلا بعد مؤتمر الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً في أيار 2008. كل هذا، كي تظهر سوريا بالنسبة للأمم المتحدة، دولة مختلفة عن صورة الدولة المهيمنة على لبنان. كذلك أرادت أن تعطي الرئيس ميشال سليمان فرصة امتلاك زمام الحكم لعله يستطيع تطوير المؤسسات وحماية الدستور عبر دور جامع ومنفتح على مختلف الفئات.
شكّل القرار 1559 صدمة كبرى للنظام السوري الذي قرأ في بنوده اتهامات لا تقل قسوة عن الاتهامات التي توجه للدول المستعمرة. وقد أعرب المسؤولون السوريون عن استيائهم من خمس شخصيات لبنانية بلغهم انها ساهمت في صياغة القرار. لذلك أطلقوا صيحات التهديد والوعيد، الامر الذي دفع بأحد المتهمين الى اختيار باريس ملجأ نهائياً لغربته!
يقول المحللون الذين عاينوا الظروف المحرجة التي عاشها النظام السوري أثناء تظاهرات فريق 14 آذار في شوارع بيروت، انها ساعدت على خلق مشاعر الحقد والانتقام ضد خطباء التجريح والاهانات العلنية. وقد نال منها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط النصيب الاكبر بحيث انه وصل الى دمشق فوق طريق معبد بالتنازلات، بدأت بالاعتذار من السيد حسن نصرالله وانتهت باستضافة خصمه الجديد وئام وهاب.
بعد الاعلان عن انسحاب القوات السورية من لبنان عقب اغتيال رفيق الحريري (14 شباط 2005) قررت دمشق بناء حلفاء من مختلف المذاهب والمشارب تنفذ بواسطتهم سياستها اللبنانية. وقد ساعدها على تحقيق هذا الهدف الضوء الاخضر السعودي الذي فتح امام الطائفة السنية باب الحوار مع دمشق. وكان للزيارة التي قام بها الملك عبدالله بن عبد العزيز لبيت الوسط، أبلغ الاثر في تليين مواقف فريق 14 آذار، وتخفيف المشاعر السلبية تجاه سوريا. وهذا ما دعا الرئيس بشار الاسد الى تذكير رئيس مجلس النواب نبيه بري الى صواب نظريته القائمة على “اتفاق سين سين” (اي السعودية وسوريا) من اجل استعادة الاستقرار الذي يفقده لبنان جراء خلافهما.
من المؤكد ان المصالحة السعودية – السورية قد ساهمت في تخفيف حدة الاجواء المتوترة بين سوريا ولبنان. كذلك ساعد دخول باراك اوباما الى البيت الابيض في محو الآثار السلبية التي خلفها جورج بوش الذي استصدر من الكونغرس قانون محاسبة سوريا، كما دعا الى عزلها اقليميا ودوليا، فضلا عن فرض عقوبات وتوجيه اتهامات وتهديدات.
ومن رحم تلك المصالحات، يخرج السؤال المتعلق بمستقبل الدولة اللبنانية، وما اذا كانت مشاركة سعد الحريري قد خففت من نفوذ حلفاء سوريا، وساعدت على وقف انهيار المؤسسات الرسمية؟!
يجمع الديبلوماسيون في بيروت على القول ان نفوذ سوريا قد تنامى اكثر فأكثر بعد تكريس حق النقض الذي تمتع به حلفاؤها بواسطة الاتفاق السياسي الذي أُبرم في قطر. وكان ذلك عقب سيطرة “حزب الله” على بيروت في ايار 2008. واضطرت السعودية في حينه الى دفن خلافاتها مع سوريا منعا لحدوث فتنة شيعية – سنية يمكن ان تؤثر مضاعفاتها على الوضع الاقليمي بكامله.
ولكن منع الفتنة لم يمنع شلل مؤسسات الدولة ونشوء صراعات جديدة حول شرعية المحكمة الدولية ومهمة الحكومة الائتلافية. وهكذا ظهرت حقبة الاستقرار كمرحلة موقتة استفادت منها المعارضة وشركات العقارات فقط. والسبب ان احتكار القرار السياسي الكبير من قبل ايران وسوريا، جعل الوطن الصغير اسير الظروف الاقليمية المتقلبة والثابت ان كل فلاسفة السياسة بدءا بأفلاطون وانتهاء بالمفكر الفرنسي هنري كونستان، لا يعترفون بنفوذ الدولة الا اذا امتلكت وحدها حق السيطرة على قواتها المسلحة. اما عندما يكون هناك فريق آخر – كما يقول كونستان – يملك سلاحا خارج سلطة الدولة المركزية، فان قرار السلم والحرب سيكون موزعا وبعيداً عن خدمة كل الشعب.
في حديث اجراه الرئيس بشار الاسد مع صحيفة “السفير” السنة الماضية، برر عملية دخول القوات السورية الى لبنان بتحقيق هدفين: حماية لبنان من التفتت، واعادة الاستقرار والوحدة الى ربوعه.
وقال ايضا: ان صدور القرار 1559 فرض التمديد للرئيس اميل لحود، باعتبار ان اميركا وفرنسا حاولتا ابعاد لبنان عن سوريا، كما حاولتا ابعاد الرئيس لحود عن المقاومة وبما انه رفض الاذعان لكل الاغراءات، فقد قررت دمشق فتح معركة المواجهة بواسطة التمديد للحود.
بعد اعلان سوريا امتناعها عن تكرار تدخلها العسكري في لبنان مرة اخرى، يُطرح السؤال المتعلق بالصيغة المطلوبة من المجتمع اللبناني، كي يكون ملائما للاهداف التي حققتها دمشق طوال 29 سنة.
هذه الاهداف كما يراها اصدقاء دمشق، تبدأ بتغيير التحالفات التي فرضها غياب سوريا العسكري، عن الساحة اللبنانية. ومع ان سعد الحريري لا يحسب في عداد المتحالفين، الا ان بقاءه في الحكم ضروري لعدة اسباب: اولا – لأنه يمثل علاقات التواصل الاقليمي مع السعودية. ثانيا – لأنه على استعداد للتنازل عن كل ما يسيء الى شراكته مع “حزب الله” بحيث يضمن استمراره في الحكم، وثالثاً – لكونه يمثل شريحة كبيرة من سنّة لبنان التي يهم سوريا احتواءها واستيعابها.
بعد عودة اللواء جميل السيّد من دمشق واجتماعه بالرئيس بشّار الأسد، كثرت الشائعات حول احتمال ترشيحه لرئاسة مجلس النواب بديلاً من نبيه بري. والسيناريو المطروح لهذه العملية المعقّدة يتلخّص في استقالة عاصم قانصو من النيابة، على ان يحل جميل السيد محله كخطوة تمهيدية لرئاسة المجلس.
وقد راجت هذه الشائعة قبل ادخال السيد الى السجن، أي يوم عجز الرئيس لحود والرئيس الحريري عن خلعه عن “عرشه” في الأمن العام. ويبدو انها تجددت بحكم علاقته الوثيقة مع دمشق من جهة، ومع “حزب الله” من جهة اخرى. وربما وجد البعض في صمت نبيه بري وابتعاده عن ساحة النزاع الشيعي – السني، سببين لاختلاق روايات حول استياء سوريا من موقفه المحايد.
كذلك كثرت التكهنات حول امكان اعادة ترشيح لحود لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان – أي بعد أربع سنوات – أو في حال انفجار أحداث دامية قد يضطر رئيس الجمهورية معها الى تسليم زمام الامور الى قيادة الجيش. عندئد تقدم سوريا الرئيس السابق لحود كحل للأزمة، خصوصاً انها حريصة على تطوير موقعه السياسي بحيث انها تطلب من كل تائب، ان يزور لحود قبل اعلان توبته أمام ريف دمشق.
يبقى السؤال الأخير: هل لبنان مقبل على حالات هدوء واستقرار، أم ان الخلافات الاقليمية ستنقل النزاع الى ساحته المضطربة؟
يُستدل من حصيلة الزيارة السريعة التي قام بها الرئيس محمود أحمدي نجاد الى دمشق وهو في طريقه الى الأمم المتحدة، ان المحادثات مع الرئيس الاسد قد أسفرت عن امرين: خروج العراق من أزمة تشكيل الحكومة… ورفع مستوى التعاون الاقتصادي مع سوريا.
وذكرت صحف طهران ان الرئيسين اتفقا على دعم تكتل نوري المالكي، وعلى ضرورة اقتسام النفوذ في العراق قبل سيطرة الحكم المحلي على الوضع الأمني.
وكان عراق المالكي قد اعلن باسم المتحدث الرسمي علي دباغ، ان بلاده اتفقت مع الحكومة السورية على بناء ثلاثة خطوط. اثنان منها لنقل النفط الخام من الحقول العراقية الى الموانئ السورية بسعة مليوني برميل ونصف المليون ولنقل الخامات الخفيفة. وهناك خط ثالث سيستخدم لنقل الغاز الطبيعي.
في انتظار نتائج حصيلة الاتفاق الايراني – السوري حول مستقبل العراق التي يمكننا بعدها ان نستشرف صلابة الائتلاف الوزاري في لبنان!
(كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن)
النهار