صفحات ثقافية

12 حكاية مصوّرة للأطفال من الموروث الشعبي الفلسطيني

null
“قول يا طير” وأسمعنا نبض التراث وعبقه –
منى فياض
قامت “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” أخيراً بطباعة 12 حكاية من الحكايات الخمس والأربعين التي يحويها كتاب “قول يا طير” الأصلي التي لطالما توارثتها الجدات وروتها للأطفال المتحلقين حولهن، ناقلات إليهم روح التراث الفلسطيني ونبضه ومعالم هوية ثقافية مهددة في كل آن. كتاب الأطفال الصادر حديثا تحت العنوان نفسه، “قول يا طير”، أعاد صوغ الحكايات بأسلوب مناسب للأطفال مع الحفاظ على نَفَس الموروث الشعبي الفلسطيني. وهو يضيف الى المكتبة العربية تحفة فنية صغيرة، تقدم النصوص الشفهية التراثية الغنية في طبعة مبتكرة وفي إخراج بديع أشرفت عليه النحاتة منى السعودي، ما ساهم في إضفاء لمسات من الأناقة والرهافة زادتها الرسوم المرافقة لثلاث فنانات شابات (ضياء البطل وجنى طرابلسي وصفاء نبعة)، تجسد النصوص وتغنيها بما يثير المتعة البصرية.
جميعنا يذكر الضجة التي تسببت بها حركة “حماس” عندما صادرت هذا الكتاب التراثي، وأتلفت بحسب البعض 1500 نسخة منه بحجة أنه “يخدش الحياء”. القرار اتخذته حينذاك “لجنة فنية” بعدما رأت أنه “مليء بالتعابير الجنسية”، وكان ذلك في بداية آذار من العام 2007. ورأت أيضاً أن “من الصعب إبقاء هذا النوع بين أيدي الطلاب”. أثار هذا المنع اعتراض الكثير من المثقفين وكان أول المعترضين الشاعر الراحل محمود درويش الذي كان سبق له أن رأى علامات “طالبانية” متكاثرة في ممارسات حركة “حماس” خصوصاً، ولدى مختلف فئات المسلحين الذين يمارسون أنواع القمع (لباس، موسيقى، أغان، رقص، احتفالات وحكايات) تحت شعار “مقاومة اسرائيل”. تبع ذلك منع المخيمات الصيفية التي تقيمها الاونروا سنوياً للطلاب الفلسطينيين بحجة أنها “مختلطة”.
الكتاب كان جمع حكاياته، التي تعود في جذورها الى اكثر من 3 آلاف سنة من تاريخ فلسطين، الكاتبان الأكاديميان شريف كناعنه وابراهيم مهوي، وقد حصلت فلسطين بفضله على جائزة التراث الشفوي على مستوى العالم كله؛ الأمر الذي جعل الاونيسكو تعتبر ان المحافظة على التراث الفلسطيني من مهمة شعوب العالم قاطبة، وهو بالإضافة الى ذلك يساهم في حفظ الهوية الفلسطينية المعرّضة للاعتداءات المستمرة من الاحتلال الإسرائيلي. تجدر الإشارة الى ان جامعة بيركلي ترجمته إلى الانكليزية ونشرته وهو يستخدم الآن للتدريس على مستوى الماجستير والدكتوراه في جامعة هارفرد.
الكتاب الذي لم تر فيه “حماس” سوى أنه “يخدش حياء التلاميذ” لم يكن في الحقيقة موجهاً إليهم، بل إلى الكبار والأساتذة الذين يرتأون ما الذي يقدمونه اليهم منه.
القصص تبدأ بـ”كان يا ما كان، يا أعز الكرام… هاي حكايتي حكيتها وعليكم رميتها”، او بـ”كان يا ما كان في قديم الزمان”، الى “وطار طيرها وعليكم غيرها”، او “وتركناهم هناك وإجينا وخليناهم”. هذه اللازمات التي تعوّدنا سماعها صغاراً ترنّ في آذاننا كأجراس ذات صدىً بعيد يعود إلى تاريخ لا نريد له أن يكون منسياً أو مجنياً عليه.
تشير الدراسة المختصرة المرفقة بالنصوص الى دور الحكاية او الخرافة في تقديم القصص الشعبي، الذي عادة ما يكون تعبيراً عن مشاعر وإنفعالات ابناء مجتمع ما، وخيالهم وعواطفهم وممارساتهم وطموحاتهم. هذه الحكايات، تحكيها عادةً النساء المتقدمات في السن، على الأطفال المتحلقين يستمعون بشغف الى الحكي المتوالي، خائفين أحياناً ومتحمسين أخرى أو متماهين مع بطل شجاع او مع بطلة مغامرة، لكن المعجبين والمبهورين دائماً تجاه هذا العالم الفسيح الذي يوسع آفاقهم ويغني خيالهم. وفيما يدربهم هذا العالم الفسيح على احتمال ظروف الحياة، يحملهم في الوقت نفسه بعيدا من هموم العالم اليومي الضيق والصعب الذي يعيشون فيه، مستفيدين من الدروس والعبر المستخلصة من الحكايات ومن أفعال أبطالها.
هذه الحكايات تشكل، خصوصاً الآن، مرجعا للعادات والأدوات والمواد التراثية التي قد تنقرض مع تطور أنماط الحياة فتحفظها لنا هذه الأوعية الشفافة التي هي كلمات في قوالب حكايا.
ماذا في الحكايات؟ عندما أشرت أعلاه إلى البطلة المغامرة، لم يكن التعبير مصادفة، ذلك أن المرأة تبدو محوراً أساسياً في هذا العالم الذي يضم الجدات والأمهات والأطفال؛ فغالبية الحكايات تتمحور حول البطلات، سواء أكنّ من البشر ام من الحيوان أم حتى من الأشياء على شكل “طنجرة”. وهن كائنات مغامرة يكمن في شخصياتهن الكثير من الشيطنة والملعنة، كما في حكاية “العصفورة الصغيرة” أو “طنجر طنجر المقتحمة”، مع روح المبادرة والمغامرة، إلى جانب أنها قادرة على أن تأخذ مصيرها بيدها (حكاية الخنفسة)، ويصعب التغلب عليها (عنزة عنيزية والعصفورة).
لا وجود للصورة النمطية السائدة، التي يتهيأ لي أحياناً أنها موهومة، التي تقدم الينا عن المرأة السلبية والخاضعة والمستسلمة لقدرها. معظم الابطال والبطلات في هذه الحكايات يعلمون الطفل أن عليه السعي والذهاب بعيداً للحصول على المراد. فالعصفورة لا تكف عن الحركة ولا تستسلم، بل تدرّب الطفل على أخذ الأمور بخفة وعدم الرضوخ، ما يعزز القدرة على المقاومة في شتى الظروف وعلى عدم الانهزام أمام المصاعب، بل معرفة الالتفاف عليها. كما أنها تعلم الطفل مواجهة الصعوبات وتلفت نظره إلى حاجة البشر والكائنات على وجه الأرض الى التعاون وتبادل الخدمات، كما في حكاية “العجوز والبس” و”عنزة عنيزية”، حيث كل حاجة تولد أخرى. وينتهي المطاف عند الطبيعة الكريمة لكي تتوقف المقايضة فيأخذ طالب الحاجة حاجته من دون مقابل من المزبلة أو بحيرة الماء.
الدرس الأساسي لهذه الحكايات يطمئن الطفل حول قيمته وأهمية وجوده وضرورته لحفظ الحياة واستمراريتها، كما يعلّم الأهل درساً مهماً في قبول الطفل كما هو من دون ندم أو تمنيات لا طائل تحتها: “لو أنه كان مختلفاً”. الكثير من الحكايات يبدأ بامرأة “لا تحمل ولا تلد”، وهي لذلك تتمنى طفلاً بأي ثمن حتى ولو كان خنفسة! فعلاً تقبل بالطفل وتربّيه كما هو، كخنفسة أو طنجرة. ومن الدروس أن لبياض الثلج معادلاً في بلادنا، فالبياض هنا في بلاد الدفء ليس للثلج، بل للجبنة؛ لذا تتمنى الأم طفلة بمثل بياض الجبن، وتحصل على مبتغاها. وتظهر الحكاية أهمية القرابة لجهة الأم، فالذي يعطي الإذن النهائي من أجل السماح للفتاة بالخروج هو الخال. كما أن خروج الفتاة يساهم في تزويجها من الأمير، كعادة الحكايات وبما يتناسب مع جمالها الأخاذ. هذا يعني: حذار أن تحبسوا البنات. حكمة مبكرة جداً!!
تعلمنا الحكاية أيضاً أنه حتى الغيلان يمكن أن نسكتها “بالسلام عليكم”، فتجيب بالجملة العالقة في أذهاننا: “لولا سلامك سبق كلامك لكنت فصفصت لحمك عن عظامك. علينا البدء بالسلام”.
حكاية “نص نصيص” تمجد الزواج من بنت العم وتجعل الطفل على رغم صغر حجمه اكثر ذكاء ودهاء؛ فهي عن رجل تزوج من امرأتين، إحداهما ابنة عمه والأخرى “غريبة”، كلتاهما لا تنجبان. يذهب الزوج في رحلة شاقة للبحث عن وسيلة لجعل امرأتيه قادرتين على الحمل. في القصة أن نص نصيص، أي الأصغر حجماً من المعتاد، هو الابن الذي انجبته ابنة العم، لكنه ومع حجمه المنقوص يتمتع بخصال يُحرم منها أخواه التوأمان من الأم “الغريبة” وهو قادر بشطارته ودهائه وحيلته، إضافة إلى التحسب والانتباه، على التغلب على الصعاب لإنقاذ نفسه وأخويه، محتفظاً باللياقة والشهامة وحسن التصرف مع التواضع.
يرشح عبر الحكايات أيضاً دور الأم الأساسي كحامية للطفل، كما في حكاية “عنزة عنيزية”، في ظل غياب للأب في الكثير من الحكايات. للمرأة الحق في المبادرة، فالخنفسة هي التي أبدت لأمها رغبتها بالزواج، ما يعني ايضا ان هذا حقها، وأنه حاجة طبيعية. سمحت لها الأم بالبحث وساعدتها في حسن الاختيار، من يناسب حجمها؛ كما أظهرت الحكايات تعاون الزوج والزوجة بنوع من المساواة في اكثر من مناسبة، في قضاء حاجاتهما والتعاون التام بينهما واهمية التزام الوعود. كذلك للفتاة أن تقوم بدور إعالة الأهل كما فعلت طنجر طنجر، بالإضافة إلى روح المغامرة.
أما “البطل”، وسواء أكان رجلاً أم حيواناً، فهو موجود بشكل أقل، ويحتاج الى الرعاية والحماية كما في “الطير الأخضر” الذي أنقذته أخته من زوجة الأب الشريرة التي تطبخه وتأكله مع الأب الغافل الذي عجز عن حماية اولاده. الحكايات واقعية لجهة جعل الرجل غير فائق القوة، فحتى الشاب الشجاع احتاج الى مساعدة المرأة للتغلب على الغول. سذاجة الحطّاب احتاجت الى التدخل المستمر من الجان لاكتشاف ألاعيب جاراته النساء ومساعدته في التغلب عليهن بواسطة عصا سحرية.
في “الغولة العجوز”، أقرب الشخصيات الى صورة الرجل البطل التقليدية، حيث الأمير الشاب الذي يفقد زوجاته المتسرعات اللواتي يتبعن الغولة بسذاجة وخفة، الواحدة تلو الأخرى. نجده يتغلب على الغولة بفضل رجاحة عقله بالطبع، لكن بفضل مساعدة رجال حاشيته. اللافت هنا أن الحكاية، كما في حالة شهريار، لا تعطي وزناً للزوجة وتستسهل استبدالها بأخرى من دون صعوبة: “في الصباح استيقظ ابن السلطان فلم يجد عروسه، وظن مرة أخرى أن والد العروس هو الذي أخذها فغضب عليه وتقاتل معه. لكن وزيراً ثالثاً قدم له ابنته لتكون زوجة له” ¶
تساهم الرسومات في إضفاء السحر وفتح الفضاءات أمام الحكايات، وتنجح ضياء البطل في بعث الحركة والحيوية في رسومها مع القدرة على الجمع بين الصور الواقعية والمتخيلة، بما يقرب الأماكن التي نسمع عنها فتقدم بطريقة تجعلها كأنها مغطاة بغبش الذاكرة، الأمر الذي يزيد سحرها ويجعلها كأنها جزء من حلم نجد صعوبة في تذكره، مستلهمة طريقة الصور المتحركة في تقديم الرسوم بشكل متتابع. أما أجمل تجسيد لشجرة زيتون، فيتجلى في رسم جنى طرابلسي لهذه الشجرة بطريقة تثير الشجن وتجعلها كأم رؤوف منحنية. الشيء نفسه في رسم الجاروشة الرائع. أجمل الألوان والزخرفات لصفاء نبعة. الرسم الذي لفتتني ألوانه وشدّ انتباهي، وجبة طعام تجعلك تندهش من طراوة اللحم الشهي حيث تسحرك تدرجات الزهري والأحمر. لكن عندما قرأت الحكاية تبين أن هذا الطبق الرائع لم يكن سوى لحم الصبي المطبوخ الذي التهمته زوجة الأب مع زوجها، ما زاد في حجم الجريمة وجعلها أكثر مأسوية.
ملاحظة أخيرة ضرورية للطبعات المقبلة لهذا الكتاب البديع، حيث تبرز الحاجة الى تقديم شروح للمفردات الغريبة التي لم تعد شائعة كثيراً.
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى