“أسرار وأكاذيب”: رواية غربية بلغة عربية
مها حسن
منذ أن تملكتني الرواية، ومنذ صفحاتها الأولى، انتابني إحساس بأنني أمام رواية عالمية، رواية غربية، ينفتح فضاؤها من لندن، مدينة إقامة البطلة، والكاتبة معاً.
غالية قباني وانتصار الشماع، أو ربما انتصار الرفاعي، تقيمان في المدينة ذاتها. تنحدر الأولى من مدينة حلب السورية، والثانية من دمشق، وتعيش كلتاهما في لندن.
لا وجود لغالية قباني في الرواية، ولا يمكن التنقيب عنها بين سطورها، وهذا ما أكسب الرواية هذا البعد العالمي. فهي رواية مكتوبة بانفصال كبير بين الكاتبة وروايتها، بحيث نستطيع أن نخرج بخلاصة، بأن إقامة الكاتبة في لندن، وثقافتها الغربية المضافة إلى الشرقية، قد جعلتها تفلح بإنتاج توليفة روائية، عبر بيئة مشرقية، شامية، تتحرك في لندن، بطريقة لا تمت بصلة إلى تعريب لندن. لا عرب في رواية غالية، سوى “انتصار”، البطلة الرئيسية للرواية، وزوجها “بسام”، الذي يحيا حياة بريطانية، حيث غيّر اسمه من بسام إلى “سام” وكان متزوجاً من بريطانية. أما باقي الأشخاص المحيطين بالبطلة، فهم خليط من أبناء لندن الأصليين أو الوافدين إليها.
حيادية الكاتبة أمام بطلتها الرئيسية، وتحكمها بالسرد، يجعلاننا ننسى للحظات البيئة التي جاءت منها انتصار، لنشعر أننا أمام امرأة غربية، تتصف بالدم البارد للإنكليز، لا بمعنى بطء الانفعال، إنما بمعنى الهدوء والرزانة والتكتم. فالمرأة الشرقية على العموم، وحسبما نمّطها الأدب والدراما، امرأة ثرثارة تبحث عن الفضفضة والمشاركة… بينما هربت انتصار من اللغة والتحدث عن حياتها، إلى أنها ادّعت أمام بسام في أول لقاء بينهما أنها من كوسوفو، حتى لا تتحدث عن نفسها وحياتها.
هذا التكتم النادر، يُخرج انتصار من انتمائها الشعبي للبيئة التي تعشق الثرثرة والبوح… انتصار تعيش انفعالاتها بصمت، حتى أنها لا تشارك زوجها ما تحياه، وتتحكم بإغلاق دائرة ” الأسرار”، التي تتنفس وتحيا وتعيش داخلها.
هذه الصورة التي كسرت نمطية المرأة العربية، ومنحتها بعداً جديداً، هو الصمت، صورة جديدة للمرأة العربية، المرأة الصامتة، التي تتحمل ثقل أسرار وأكاذيب انتمائها ومولدها، بألم ورقيّ، من دون استجداء أو تسول…
الفراغ الروائي أولاً، حيث لندن، وشخصية انتصار المتكتمة، ولغة غالية قباني المتخلصة من أعباء السرد العربي والموسومة ببعض الحياد… هذه النقاط الثلاث تجعل أحدنا يشعر أنه أمام رواية غربية، عالمية، مكتوبة باللغة العربية.
البناء واللغة
الرواية مكتوبة بدقة، وبلغة تنحاز إلى الاختزال بشدة، بحيث تعفي القارئ من القفز على الصفحات والمقاطع والسطور، لأن الكاتبة أنجزت المهمة من قبل، ولم تترك أياً من فراغ يُشعر القارئ بالملل أو التهرب من السطور… الرواية “منقّاة” وخالصة من أي شوائب، لا على مستوى الحدث ولا على مستوى اللغة أو السرد.
السرد الرشيق هو الذي أضفى على الرواية هذه الأناقة البنائية، حيث لجوء الكاتبة إلى تقنية الكاميرا، لتفصل فصولها إلى شرائط فيديو، تقوم بتسجيلها. منذ بداية السرد، نجد “انتصار” مؤمنة بأن خلاصها لن يتم إلا عبر الاعتراف… وبلعبة مزدوجة، إذ أن الكاميرا هي آخر وهي لا أحد في الوقت ذاته، تتسلل إلى وحدة البطلة، وتقتحم حميميتها وتفاصيلها وبؤرة انفعالاتها في المطبخ، المكان الذي تقوم انتصار فيه بأهم أعمالها، سواء المنزلية أو المهنية، بوصفها مصممة ديكور داخلي. تضع جهاز الكومبيوتر في المطبخ، الذي تطل نافذته على حديقة المنزل الجميلة، ومن هناك، تطهو، تصمم، تكتب، وتتصور وتسجّل وتسرد….
الكاميرا تسجل حياة البطلة، وتذهب بها إلى ماضيها، حيث تنتقل من لندن إلى دمشق عبر السرد فقط، بينما المكان يظل مخلصاً للندن.
التقنية التصويرية خلصت الكاتبة من أي ثقل لغوي أو ثقل في الصور أو الأحداث. لأن الكاميرا، حتى ولو جاء المونتاج بعدها، لا تحتفظ من السرد إلا بزبدته وخلاصته.
ثنائية الوطن والمنفى
رغم تمتعها بمزايا الفتاة التي تعيش في كنف رجل مهم، وكون أمها سيدة معروفة، حزبياً وبرلمانياً، إلا أن البطلة المنفى كخلاص روحي.
رواية كُتبت في المنفى، حيث قامت انتصار بتسجيل أحداثها في لندن، ولكنها ظلت عالقة بالوطن، من خلال هذا المطبخ ذاته، المكان الكبير والرئيسي الذي يحتل عالم البطلة، إذ تسجل فيه “اعترافاتها” لتتخلّص من ماضيها، وفي الوقت ذاته، تمارس لذتها في تحضير الطعام. فحتى دعوة صديقتها على الطعام، هي دعوة على حساء العدس والخبز المحمّص. رواية منفى لأن المنفى هو الذي قلب الأدوار، بين رجل مارس عليها السلطة في البلد، وهددها، وأرعبها، ليجلس أمامها ضعيفاً في المنفى، لأن نفوذ عائلته، لا يصل هناك، ولا يطال منفاها الحر، صفحة 203: أحملق في وجهه الذي بدا، بحسب تعابيره، منزعجاً من تعليقي، غير أني ما عاد يهمني رضاه، ولا أخشى غضبه. أذكّر نفسي بأنني أعيش خارج سلطته وسلطة أخيه. “أنت محمية في هذه المدينة يا انتصار، فقولي ما يخطر ببالك من غير خوف أو وجل”. هكذا رحت أكلم نفسي في الجزء الثاني من الجلسة، وهو ما أحس به تماماً. لقد انقلبت الأدوار.
رواية التصالح والغفران
رغم الاستبداد وهوس السلطة اللذين اتسمت بهما الوالدة، والتي تزوجت من عميد يتمتع بالنياشين والسلطة، وهي التي أخفت عن ابنتها حقيقة نسبها، وكذبت عليها بشأن والدها الحقيقي، إلا أن انتصار، وفي نهاية التسجيل أمام الكاميرا، وبعد البوح الذي يحررها، تغفر لوالدتها… الأم التي تحولت إلى جسد هزيل، مريض، والتي جاءت إلى لندن بكرسي نقّال، لتجري عملية، وقد هزمها العمر والسنوات، وكسرا شوكة سلطتها… ص 285 “تغيرت الظروف وباتت الآن ضعيفة، مجرد نائبة سابقة بمتاعب صحية وتركة سيئة السمعة من زوج رحل تاركاً خلفه الكثير من علامات الاستفهام”.
تكاد انتصار تغفر لوالدتها، غفراناً لا تتلفظ به، غفراناً مكتوماً، حائراً، يختلط فيه الحب والشفقة. غفران أنيق، يحقق لها تصالحاً أنيقاً مع نفسها، ومع مستقبلها، ويهيئها لأمومة قادمة، مؤسسة على داخل تخلص من كوابيسه، أمومة أعاقتها أسرار وأكاذيب الوطن والأم، أمومة لم تعد ثمة من أكاذيب تعيق انبثاقها في رحم انتصار المتصالحة، الجديدة. صفحة 286 “تختلط الأحاسيس لدي، فلا أعود قادرة على التفريق بين الواجب الأخلاقي وبين عاطفة الابنة، عندما تنظر إلي كمن يتوسل الاهتمام والحب، الأم الكسيرة.
أضعف أمام ضعفها، وأشعر أني غير قادرة، وهي برعايتي، على أي ردة فعل أخرى، سوى العطف”.
أتراها بتصالحها مع والدتها، وغفرانها لها كل تلك الأكاذيب، والفساد الذي شاركت به، تغفر للبلد برمته، وتفتح صفحة جديدة لا مع أمها فقط، بل مع تاريخها، مع ماضيها، ومع بلدها؟، حيث تكاد إلفة الشماع، تتماهى مع المدينة، وترمز إلى البلد، صفحة 281 “كم هي شبيهة بمدينتها، إلفة الشماع، تليّن المعارضين، تمتص الصدمات وتجيّرها لمصلحتها”.
رواية “أسرار وأكاذيب”، هي رواية امرأة لا تنحاز إلى المرأة، بل إلى الأدب، رواية لكاتبة متصالحة مع العالم، ومع الكتابة.
المستقبل